سخر أحد الممثلين المشهورين في أيامنا من الممثل الراحل إسماعيل يس, ووصفه بوصف غير لائق, ثم جاء ممثل آخر اكتسب شهرة عالمية, فوصف الشعب المصري بالجهل لأنه يحب إسماعيل يس! والمفارقة أن الأجيال الجديدة من المصريين. والعرب تتفاعل مع إسماعيل يس, وتقبل عليه, مع أن أفلامه أبيض وأسود, وليس في صاحبها وسامة ولا ترافقه دعاية صاخبة. إقبال الأجيال الجديدة علي أفلام إسماعيل يلفت الانتباه, ويشير إلي عناصر مهمة في طبيعة العمل الفني المؤثر والفعال مع تقادم الزمان, وتغير الناس, وتباين القيم, وتعدد التصورات والرؤي. وأذكر أن بعض الأقارب كان أطفالهم وشبابهم يرفضون الانتقال إلي قنوات الأخبار إذا كان إسماعيل يس, والشاويش عطية حاضرين علي الشاشة, فهما يحققان البهجة والفرح, ويقدمان القيمة الإيجابية وينتصران لها في مواجهة القيمة السلبية ولو بدت زاعقة أحيانا أو جاءت بطريقة غير مقنعة فنيا- من خلال أداء عفوي تلقائي لا افتعال فيه. كان إسماعيل يس محدود الثقافة الرسمية, ولكن ثقافته الفطرية, وانتماءه إلي الشعب المصري العريق الذي كانت ثقافته تبدأ عادة بالكتاب والقرآن الكريم وقيم التكافل والتضامن الاجتماعي, منحاه رؤية صافية بسيطة, عبر عنها في أفلامه ومسرحياته ومنولوجاته, وكلها تصب في تعميق فكرة الخير, ورفض الشر, والحث علي العمل والنبل والشهامة والمروءة والعدل والتواضع والقناعة والحلال ورفض الحرام ومقت الظلم والنفاق والخبث والطمع والجشع... لقد وظف فنه في خدمة المجتمع وجعل أفلامه تحريضا علي بناء مؤسسات الدولة والتطلع إلي المستقبل, وتحفيز الشباب علي الالتحاق بالقوات المسلحة والبحرية والطيران والشرطة, وعرض لمعالم الوطن وتراثه, وعرف ببعض الدول العربية, وبشر بالمستقبل في موضوعات كانت هامشية في زمانها وصارت إستراتيجية في عصرنا مثل البترول, وغير ذلك من قضايا تهم الناس في زمنه أو بعده, بل إنه وظف شكله غير الوسيم, وجعله مقبولا, أو أمرا عاديا بالنسبة لأمثاله في مجتمع ينظر أحيانا إلي الشكل دون الجوهر, وهو ما دفع الفنانة شادية لتغني له: عجباني وحاشته عجباني.. والمهم في الأمر أنه لم يطلق علي نفسه لقب مبدع الذي يتباهي به بعض الفاشلين في أيامنا! وقد ارتبط إسماعيل يس بالممثل رياض القصبجي الذي كان يقوم بدور الشاويش عطية أبو الروس في الأفلام التي كان ميدانها الجيش المصري بأسلحته المختلفة: البرية والبحرية والجوية, وكان الشاويش عطية مثالا للصرامة والجدية في تعليم الجنود الجدد ومنهم إسماعيل يس, ومن خلال المفارقات المضحكة التي تحدث بين صرامة الشاويش عطية وسذاجة الجندي إسماعيل يس يكتشف الجمهور علاقة إنسانية حية, تربط بين الاثنين, وتعبر عن نفسها بالمودة والتكافل في المواقف الاجتماعية الصعبة. وإلي جانب الشاويش عطية كان هناك مجموعة من الممثلين والكتاب والمخرجين الذين يتكاملون في تقديم الفيلم بما يضحك الجمهور, وفي الوقت نفسه يعبر عن قيمة من القيم التي يفيد منها الجمهور بالإيجاب أو السلب, وأظنهم لم يكونوا معنيين بمن يكون البطل الرئيس, فقد يكون الشاويش عطية في ترتيب متأخر, ولكن مشاهده تظل محفورة في الأذهان لأنها تمثل موقفا مهما أو تشير إلي قيمة ما وكذلك الحال بالنسبة لغيره.. لقد كان هناك: عبد السلام النابلسي وزينات صدقي, وحسن فايق, وعبد الفتاح القصري وعبد الوارث عسر, وغيرهم. لقد قدم إسماعيل يس علي مدي حياته عشرات الأعمال التي تفاعل معها جمهور زمانه, وبعد زمانه دون أن يسيء إلي أحد أو يجرح مشاعر الناس, أو يسخر من معتقداتهم أو علمائهم, أو من النبي صلي الله عليه وسلم أو يشوه قيم الدين الحنيف استجابة لحاكم أو انحيازا لفكر غريب عن الأمة, أو مشاركة لأجهزة قمعية مجرمة هدفها الأول إقصاء الإسلام, واستئصال الطهارة والشرف والكرامة فضلا عن الحرية. ولم يكن غريبا أن تنتهي حياة إسماعيل يس البعيدة عن أبواب السلاطين والحكام; نهاية مأساوية حين قهرته الضرائب وباغتته بمطالب لم يتح له أن يفي بها فمات كسيرا فقيرا بعد أن باع كل ما يملك. إن الفن الذي يستقوي بالسلطة وإعلام السلطة, وينطلق لغايات ثأرية أو دعائية هو فن مؤقت يزول بزوال دواعيه ورعاته, أما الفن الحقيقي فهو الذي يبقي, ويقبل عليه الناس تلقائيا حتي لو اتهمهم ممثل ما بأنه شعب جاهل.. والفن الحقيقي لا يمكن أن يقدمه الناس إلي القضاء أو يعترضون عليه, فإذا كان هناك فن مكتوب أو مصور يسبب التباسا لدي المتلقي, فاعلم أنه فن قاصر أو فن رديء أو إن صاحبه لم يوفق في صياغته وتقديمه. ولا أظن فنا حقيقيا يواجه الطغيان والإرهاب يجعل الناس تلجأ إلي القضاء, ومن المفارقات أن بعض الناس يزعمون أن الفنان الفلاني يدافع عن المجتمع ضد الإرهاب, ويتناسون أن هذا الفنان لا يجد إرهابا إلا في الإسلام وحده, ويتجاهل الإرهاب الذي تقوم به السلطة المستبدة الفاشية أو الجهات المعادية للوطن. من المؤسف أن بعض خدام الاستبداد والطغيان يزعمون أن المتطرفين قد استولوا علي السلطة وأصبحوا نوابا وحكاما ومشرعين ومنفذين. ويتساءلون وبراءة الأطفال في أعينهم: كيف إذن ندافع عن الفن ؟ بل إن بعضهم لا يتورع عن اتهام المادة الثانية في الدستور بأنها تستغل في العدوان الدائم علي الحريات., ومجمع البحوث الإسلامية بأنه تحول إلي محكمة تفتيش, ثم يري أن علينا أن نتخلص من هذا كله, أي نتخلص من الإسلام الذي أهدي للإنسانية الحرية في أرقي صورها! هل نتخلص من الإسلام لنداري الفشل الذريع فيما نقدمه من فنون ؟.. رحم الله إسماعيل يس والشاويش عطية, فما أحوجنا إليهم في زمن القحط وفناني السلطة! المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود