لم يعد التنظيم يقنع بالرقة السورية أو الموصل العراقية لتوصيل رسائله الدموية ، و إنما اختار" داعش " هذه المرة بروكسل ليضرب فى سويداء قلب الاتحاد الأوروبى. وإذا أردنا معرفة الجذور الأولى لقصة داعش في أوروبا فعلينا أن نعرف أولا كيف ظهر في بلجيكا قبل ست سنوات، و إذا أردنا أن نعرف كيف ظهر في بلجيكا فعلينا أن نبحث عن اسم "فؤاد بلقاسم. إجراء تكرر في الآونة الأخيرة أكثر من مرة دون أن يلتفت إليه كثير من المراقبين في سياق الاستنفار الغربي لمواجهة خطر الإرهاب، لكن المتابع للحركات الإسلامية المتطرفة أو ما يسمى “السلفية الجهادية” فى طبعتها الأوروبية لا يملك سوى التوقف أمامه طويلا . الإجراء يتعلق بوضع القيادي المتشدد فؤاد بلقاسم فى زنزانة انفرادية من جانب سلطات السجن العمومي بمقاطعة أنتويرب شمالى بلجيكا ومنع اختلاطه بزملائه من السجناء في خطوة وصفتها السلطات ب “ الاحترازية “. ورغم أن تصريحا مقتضبا يصدر عادة فى مثل هذه المواقف عن وزارة الداخلية بإقليم فلاندرز الذى يتمتع بالحكم الذاتى وتتبعه مقاطعة أنتويرب يشير إلى أن تشديد الإجراءات على “ بلقاسم “ إجراء مؤقت و احترازي بالمقام الأول، إلا أنه من الواضح أن الجهادى سالف الذكر و المحكوم عليه بالسجن لمدة اثني عشر عاما يحاول من داخل محبسه العودة لممارسة “هوايته” السابقة والمتمثلة بتجنيد شباب متحمس دينيا من مسلمى أوروبا المنحدرين من أصول عربية - يحملون جنسيات فرنسية و هولندية و بريطانية على وجه الخصوص فضلا عن البلجيكية - وإرسالهم للقتال فى صفوف تنظيم داعش بسوريا و العراق . وتشير تقارير أمنية هنا في بروكسل إلى أن التحقيقات الواسعة التى تجريها أجهزة استخبارات بالاتحاد الأوروبى تبحث فرضية أن يكون منفذي عدد من أبرز الهجمات الإرهابية مؤخرا بالقارة العجوز - كما فى نموذجى بروكسل و باريس - قد تعرضوا لعمليات “ غسيل مخ “ على يد بلقاسم المعروف بقدراته الهائلة فى تجنيد الشباب الأوروبي المسلم نظرا لما يمتلكه من كاريزما فى البلاغة و براعة فى التأثير من خلال خطاب عاطفي يشحذ الهمم و يشعل الحماس بآيات وأحاديث الجهاد التى يبرع الرجل في تحريفها عن سياقها التاريخى و أسباب نزولها و تحويلها إلى قنابل مفخخة فى عقول شباب يفتقد الحد الأدنى من الوعي الدينى و يسهل توجيهه من قبل محترفي القتل باسم الإسلام ! فى عام 2010 كان الظهور الأول لفؤاد بلقاسم على مسرح الأحداث . شاب نحيل العود ، كث اللحية ، غاضب النظرات يقود مجموعة من المتشددين وهو يعلن إلغاء محاضرة لكاتب هولندي يدعى بينو برنارد كان مقررا إقامتها بجامعة أنتويرب بدعوى عدم تماشى مضمون المحاضرة مع مبادئ الإسلام . يومها أمسك الشاب البلجيكي المنحدر من أصول مغربية بالميكرفون و هو يهتف بالهولندية التي يتقنها و يتحدث بها الإقليم الفلامانى القريب من حدود هولندا : الإسلام جاء ليحكم بلجيكا ، ومن لا يعجبه هذا الكلام ، فليحرق نفسه في الجحيم ! استرعى المشهد بالطبع انتباه السلطات الأمنية التى كانت فى حيرة من أمرها ، ففؤاد وفقا لملفه الجنائي مجرد شاب مستهتر يتعاطى و يتاجر بالمخدرات و يشرب الكحول و يرتاد أشهر الحانات برفقة فتيات ! وهنا لابد من الإشارة أن هذا التحول الحاد من المخدرات و الكحول إلى التشدد العنيف الممتزج بقيادة الآخرين على نحو يؤدى إلى ميلاد زعامة جديدة يعد سمة وقاسما مشتركا يجمع بين نجوم الإرهاب الأوروبي مؤخرا كما هو الحال مع الأخوين بكراوى ومن قبلهما الأخوين عبد السلام فضلا عن عبد الحميد أبا عود . كان يقف إلى جوار “ بلقاسم “ وهو يطلق تهديداته بجامعة أنتويرب شخص يكبره بنحو عشر سنوات على الأقل يدعى “ أنجيم شودري “ ، بريطاني من أصل باكستانى، أسس فى لندن جماعة تعرف باسم “ الإسلام لبريطانيا “ . صارح شودرى صديقه البلجيكي بعزمه إنشاء فرع ببلجيكا لجماعته التى سرعان ما طاردتها شرطة سكوتلانديارد و ألقت القبض على مؤسسها لاحقا. وبالفعل تم تأسيس تنظيم “ الشريعة من أجل بلجيكا “ على يد متشدد آخر هو فيصل يامون الذى لاحقته السلطات في بروكسل ففر هاربا بصحبة زوجته “ كوثر “ إلى سوريا ليلقى مصرعه وهو يقاتل ضمن قوات داعش تاركا التنظيم الوليد أمانة في يد فؤاد بلقاسم . لم يدخر الأخير وسعا فى إعادة هيكلة التنظيم وإرساء قواعده و سرعان ما مد أذرع التعاون مع العناصر المتشددة في البلدان التي تربطها حدود جغرافية وأواصر لغوية وثقافية وعرقية ببلجيكا، وهى هولندا وفرنسا وألمانيا حيث تنقسم المملكة البلجيكية إلى ثلاث أقاليم هي فلاندرز “ شمالا و يتحدث الهولندية “ و بروكسل “ بالوسط ويتحدث الفرنسية “ ووالونيا “ جنوبا ويتحدث الفرنسية إلى جانب أقلية من أصول ألمانية “. فى يونيو من عام 2012 ترسخت زعامة بلقاسم إثر احتجاز الشرطة لسيدة بلجيكية مسلمة رفضت الانصياع للقانون الجديد الذى تم إقراره فى العام السابق للواقعة، والخاص بحظر النقاب أو البرقع والذى يفرض عقوبة على المخالفات تتراوح بين الحبس أسبوعا أو غرامة تبلغ 1375 يورو. دعا بلقاسم أنصاره إلى اقتحام مركز الشرطة بحي “ مولانبيك “ الشعبي ذي الكثافة السكانية العالية بوسط العاصمة والذي شهد الواقعة وتقطنه أغلبية ساحقة من المسلمين البلجيك المنحدرين من أصول عربية، ومغربية تحديدا . وخطب الشاب الثائر فى أنصاره قائلا بكلمات نارية : خدام الشيطان يريدون اعتقال أختنا المؤمنة لكنهم لن يفوزوا و سنحرر بلجيكا منهم ! وفى عام 2014 وجهت السلطات الفيدرالية رسميا تهمة قيادة تنظيم متطرف إلى بلقاسم وتجنيد شباب من بلجيكا و مختلف الجنسيات الأوروبية وإرسالهم للقتال فى سورياوالعراق برفقة تنظيم إرهابى هو داعش . كانت المحاكمة الأكبر و الأضخم فى تاريخ بلجيكا والأكثر إثارة لاهتمام الرأى العام : 45 متهما بالإرهاب لم يحضر منهم فى قفص الاتهام سوى سبعة، بينما الآخرون يقاتلون بسورياوالعراق . وحكم على بلقاسم بالسجن اثني عشر عاما بينما تراوحت أحكام سجن زملاءه ما بين ثلاث إلى خمسة عشرة سنة، لتأتى الأحداث الأخيرة وتذكر بخطورة الشاب الذى يبلغ من العمر حاليا ثلاثة وثلاثين عاما، متزوج وأب لطفلين، فتعزله السلطات عن الآخرين حتى لا يسمم أفكارهم حتى و هو سجين ! و طبقا لمصدر دبلوماسي عربي فضل عدم ذكر اسمه ، فإن خطر “الشريعة من أجل بلجيكا” تراجع كتنظيم تم حله، وإلقاء رموزه خلف الأسوار ، لكن نفس الظروف التي أنتجت الفكر المتطرف الذى يتبناه التنظيم لا تزال قائمة ومنها الأفكار المتشددة للعديد من خطباء المساجد فى أوروبا و بلجيكا، فضلا عن ضحالة الثقافة الإسلامية لدى أبناء الجيل الجديد من المهاجرين العرب على نحو يسهل مهمة غسل أدمغتهم، وكذلك بعض الحوادث العنصرية وخطاب الكراهية ضد المهاجرين والأجانب الذى يتبناه اليمين المتطرف فى الحياة السياسية الأوروبية مؤخرا .