لم يكن يتصور أن تثير قضية المحامي المصري, أحمد الجيزاوي, أزمة في علاقات بلدين كبيرين بحجم مصر والسعودية, اللذان تربطهما علاقات بينية كثيرة, ومصالح سياسية واجتماعية ودينية, واقتصادية وعسكرية, فضلا عن وشائج عاطفية وروحية جعلت من اختيار أسرة شيخ الأزهر السابق, الشيخ سيد طنطاوي, رقاده الأخير في البقيع بالسعودية أمرا عاديا, وجعلت مفكرا سعوديا بحجم د. عائض القرني يلقي قصائد شعر مسكونة بحب أرض الكنانة وشعبها, يقول في إحداها: يا مصر كل حديث كنت أحفظه نسيته عند أهل التل والدار. جرت دموعي علي أعتاب داركمو.. يا مصر كل الهوي في نيلك الجاري... هذه الكلمات مهم استرجاعها, رغم ما بها من لغة عاطفية, قد لا تناسب لغة المقال, وذلك لأنه في الفترة الأخيرة, تم تغليف كل شيء في العلاقات العربية بقدر من الجفاء, برز في الأزمة المصرية- الجزائرية في9002 2010, ويهدد الآن بعد ثورة25 يناير العظيمة بالإضرار بين بلدين لا غني عن علاقاتهما, إن لم يكن لأسباب اقتصادية وسياسية فلأسباب مجتمعية تتعلق بملايين علي الجانبين, بينهما ذكريات ومصالح وعلاقات مصاهرة, ولأسباب دينية تتمثل بالتعلق الروحي لكل مسلم ببلاد الحرمين الشريفين. بالتأكيد سيتم يوما ما قريبا معالجة أزمة الجيزاوي, لكن الأزمة مع السعودية كشفت عن أمور يتحمل مسئوليتها البلدان, وأهمها غياب القدر الكافي من التثقيف والوعي المجتمعي بأهمية الآخر, وأهمية امتلاك الجرأة لإظهار وجهة النظر السياسية الخاصة به في الداخل علي الجانبين, في عصر افتقد فيه الجانبان والشعوب العربية بشكل عام حميمية التواصل العربي, لاعتبارات أهمها اختلاف ظروف العصر عن حقبة عبد الناصر, التي وجد فيها بعض الإخوان المسلمون ملاذهم في السعودية, وتماهي فيها سعوديون مع الخطاب العروبي للقيادة الناصرية. ومع أن ثورة25 يناير كادت تجسر الفجوة في العلاقات الشعبية المصرية العربية, وتعيد مصر لعالمها بثورة مستنيرة, أطلت بظلالها علي الإنسان العربي من المحيط إلي الخليج, وأشعت ببريق عودة الروح للمشروع النهضوي المصري, إلا أن ما حدث في قضية الجيزاوي ليس من الأمور التي تتماشي مع روح الثورة. كانت إدارة الأزمة عل الجانبين فيها قدر من التباين; فاعتبر البعض في مصر استدعاء السفير وإغلاق القنصليات رد فعل مبالغا فيه, علي أساس أن السعودية تعرف تماما أوضاع القاهرة بعد الثورة. وعلي الجانب السعودي جري التركيز علي عدم تقدير الجانب المصري لمعاني انتهاك حرمة البعثات الدبلوماسية أو الذات الملكية في السفارة وعلي الفضائيات, وأن قضية الجيزاوي طرحت في الإعلام المصري بمنطق( الابتزاز). وعلي الجانب الأساسي, تكشف قضية الجيزاوي عن جوانب لا دخل لقيادتي البلدين بها, أهمها: أولا: بروز فاعل جديد بعد الثورة المصرية, وهو أمر لم تقتنع به بعد الدول العربية والخليجية, وربما يثير لمصر مشكلات تالية في السياسة العربية, وهو الرأي العام, وما يرافقه من قدرة علي تحريكه والسيطرة عليه وتضليله عبر الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي, وهي أدوات لا غني عنها, لكنها ليست كلها أدوات رشيدة أو عاقلة, وإنما تسير في حزم مصلحية وأيديولوجية جبارة, وتتحرك في اتجاهات عشوائية غير منتظمة, ولا يمكن السيطرة عليها, وقد تكون محصلتها النهائية ليس مما يصب في مصلحة البلدين الإستراتيجية. وعلي الجانب الآخر هناك تأكيد أن الثورة المصرية وكرامة المصري لا تعطي له حق إهانة الآخر والاعتداء علي كرامته وسفارته وقيادته. ثانيا: الصدام بين حق الفرد ومصلحة الدولة في مصر بعد الثورة, بين الجانب الحقوقي الإنساني الذي يقيم الدنيا ويقعدها لأجل حق الفرد حتي لو كان مدانا وهو توجه حقوقي عام إيجابي, لكنه واقعيا يعرض دولا عربية للإنهاك والاستنزاف الدولي المتواصل, وبين المصالح السياسية والإستراتيجية للدولة, التي ليست مضطرة بالضرورة للتفريط في حق مواطنيها, ولكنها قد تعجز أو تتلكأ في إدانة الذات, أو الانحياز لوجهة نظر الآخر لاعتبارات داخلية. لقد عبرت مختلف الأجهزة والقيادات في مصر عن الأسف أو الاعتذار, وأدانت ما حدث أمام السفارة, وأكدت المصالح الإستراتيجية, وبرز شعارإلا السعودية في بيان المجلس العسكري, بينما اتجهت المنظمات الحقوقية والإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي إلي التركيز علي الفرد, وتبادل الإعلام علي الجانبين التنابذ بالألقاب والشتائم, التي وصلت حد المعايرة والمن والعنصرية. ثالثا: نقص المعرفة بالآخر: فقضية الجيزاوي ثارت كالنار في الهشيم ارتكانا إلي شائعات, وجري الحكم فيها علي الجانبين قبل المرافعة وتقديم الأدلة, وكشفت عن قدر من التقصير في المعرفة من جانب بعض السعوديين حول مصر, وبعض المصريين حول السعودية. حيث إن هناك نحو مليون ونصف المليون مصري بالسعودية, ونحو نصف مليون سعودي في مصر, مع مصالح اقتصادية واستثمارية وتشابكات لا حصر لها, ومن الطبيعي أن تحدث مثل هذه الحوادث لتنقل الآلاف بين البلدين كل يوم برا وبحرا وجوا, وقد وقعت حوادث مشابهة لها في سنوات سابقة, وتم استيعابها وحلها بهدوء, وبما حفظ لكل جانب ماء وجهه. وعلي الجانب السعودي, يغيب تقدير بعضهم لأوضاع مصر الانتقالية بعد الثورة, وهي التي لم يعد مستغربا بها تعليق صور ولافطات بقلب الميدان, تطول القيادة في الداخل وتعرض بها, فكيف لها بامتلاك القدرة أو ترف اتخاذ إجراءات لمنعها ضد سفارة أو قيادة عربية!!. ويطرح بعض المصريين الاستعداد للتضحية بكل المصالح الاقتصادية, ويسفهون الحديث عنها, مقابل حفظ كرامة المصري, رغم أنه ليس هناك من شعب يعتقد بأن كرامة الآخر مهانة لمجرد عمله لديه, وهو أمر لا يطرحه السعوديون, ولا يشعر بثقله القطاع الأكبر من المصريين لا بالسعودية ولا بمصر, فأنظمة العمل والقوانين في دول الخليج ليست خاصة بالمصريين, وإنما بكل الجنسيات, وبشكل عام تجد الجنسيات العربية معاملة أفضل مرات كثيرة من معاملة الوافد الآسيوي. ومع الأسف يتناول بعض المصريين نظام الكفيل وعيوبه وكأنه مطبق علي المصريين فقط, ويتبني البعض انتقاد قوانين وأنظمة المملكة نيابة عن كل الجنسيات المقيمة هناك, وهذا أمر ليس في مصلحة مصر الإستراتيجية بالسعودية ولكل منا بالطبع حرية شخصية في رفضه-. وتشير أوضاع الجنسيات الوافدة في دول مجلس التعاون الخليجي عامة إلي أمور ينبغي استيعابها, وهو أمر يشعر به الفرد بمجرد هبوطه في دولة خليجية, ويعرفه أكثر لو قدر له العمل بها,, وهو أمر لا يعرفه كثير من المصريين, الذين لم يقدر لهم السفر والإقامة في الخليج, فيتعامل بعضهم بمنطق الزمن الناصري, أو بمنطق المعلم المصري الذي علم أبناء الخليج, ويستقي البعض معلوماته عن الأوضاع بالسعودية انطلاقا من رؤية معارضين سعوديين, مثل د. سعد الفقيه المقيم في لندن, وتغفل وجهتي النظر هذه مصالح مصر الدولة هنا, ومصر القاطنة هناك, بالتأكيد لن يكون حفظ كرامتهم بإصدار قرار مصري بإعادتهم جبرا, والتضحية بحياتهم ولقمة عيشهم هناك. لقد حملت قضية الجيزاوي بكل الأبعاد التاريخية والنفسية والسياسية لحقبة مبارك التي يعيب المصريون عليها, واستعادت أيضا نفسا من حقبة عبد الناصر, التي تواجه فيها البلدان في تجربة مريرة في اليمن, ولن يعد بالطبع زمن مبارك أو عبد الناصر في مصر. ولا ينبغي أن تكون معالجتنا لسوءات حكم مبارك بخسارة الرصيد المصري في العالم العربي, بعد خسارة القيادة. ويبقي تناول البعض في مصر لمسألة التخلي عن القيادة المصرية للسعودية مسألة محل نظر, فالقيادة ليست قلما أو شارة يسلمها أحد الأطراف للآخر, وإنما هي مؤهلات وقدرات ورسالة ورؤية, ومشروع يقنع الآخرين باحتذائه. إن افتقاد ذلك هو ما أتي علي مكانة ودور مصر- وليس السعودية- وهو ما جعل بعض المصريين يعالجون الأمر مع السعودية انطلاقا من نفس ميراث ثقافة حقبة مبارك, دون نظر بعيد إلي الأفق والمصالح. والأمل.. في أن تنجح مصر في إعادة الثقافة والقيادة والذوق الرفيع في التعامل مع الأشقاء بعد الثورة.