السعودية من دون بلدان الخليج هى التى تشهد باستمرار أزمات لها علاقة بالمصريين العاملين فيها، حيث تجد صدى فى الإعلام وأحيانا تأخذ منحى شعبيا وسياسيا، كما هو حاصل الآن. لا أعلم لماذا فى هذا البلد العربى الشقيق تحديدا يحدث ذلك؟، لكنى لا أظن أن العمالة المصرية هناك مستهدفة لذاتها، إنما تصورى أن المسألة لها علاقة بالقانون، فربما يكون هناك تعسف فى تطبيق نصوص القانون وليس روحه، وقد يكون هناك ما هو فوق القانون وهو نفوذ البعض ممن لهم حيثيات وتأثير وقدرة على توجيه القانون وجهة معينة. أشهد أن القانون فى بلدان خليجية أخرى ينفذ على الجميع دون تفرقة بين مواطن ومقيم أيا كانت جنسيته، ولذلك لا تجد فيها قضايا ملتبسة لمصريين تشغل الإعلام والشارع وتثير أزمات بين هذه البلدان وبين مصر، كما يحصل مع السعودية. بطبيعة الحال هناك انتهاكات للقانون من جانب مصريين وغيرهم فى بلدان الخليج، كما فى أى بلدان أخرى تتواجد فيها جاليات، ومن يخالف القانون منهم فإنه يحاكم وتصدر ضد من يدان أحكام تتفاوت حسب الجرم دون أن تثير أزمات أو ضجيج فى الإعلام أو القنوات الدبلوماسية. ولإكمال الصورة فهناك بعض الخليجيين يستغلون الحقوق التى تعطيها لهم قوانين الكفالة مثلا للتنكيل بمن هم على كفالتهم لكنها عموما حالات فردية لا يمكن اعتبارها ظاهرة كما لا تعكس توجهات أو سياسات الحكومات، بل هناك فى القوانين القطرية مثلا حقوق للعمالة تحميها من تعسف أو ظلم الكفيل وهناك إدارة مهمة اسمها "إدارة العمل" لا تفرط فى حقوق العامل أيًا كانت جنسيته. أحدث أزمة لمواطن مصرى حصلت فى السعودية أيضًا، وهو كان هناك لأداء العمرة وليس للعمل، وهى تختلف عن أى أزمة سابقة لأنه ولأول مرة فى مثل هذه الحالات المتكررة يضيق صدر المملكة وتغلق سفارتها وقنصلياتها وتسحب سفيرها للتشاور، وهذه الخطوة فى العرف الدبلوماسى تسبق قطع العلاقات الدبلوماسية، وهذا لا يحدث إلا إذا كانت هناك أزمة عنيفة بين بلدين، ونحن لا نتمنى بالطبع غلق السفارة ولا قطع العلاقات ولا استمرار الأزمة، بل عودة المياه إلى مجاريها سريعًا، فالسعودية ومصر بلدان كبيران فى المنطقة، ولا نود أن تشمت إيران والمحور، الذى تقوده فى البلدين الشقيقين لأنهما الأساس فى حفظ الأمن القومى العربى. القضية المتفجرة حاليًا للمدعو أحمد الجيزاوى المقبوض عليه فى السعودية بتهمة حمل أقراص مخدرة تضخمت بسبب كثرة التداول الإعلامى والروايات المتضاربة حول حقيقة الاتهام الموجه إليه، وقد صارت هناك غيوم وضبابية بشأن حقيقة هذا الاتهام بعد ارتباك وزارة الخارجية فى التعامل مع الموضوع وتناقض رواياتها هى الأخرى حوله، نحن فقط نريد أن نعرف الحقيقة المجردة، والغيوم لن تنقشع إلا بتحقيق شفاف يقنع المتشككين من المصريين فى مصداقية ما أعلنته السلطات السعودية، ولذلك فالاقتراح الذى طرحه حزب الحرية والعدالة يعتبر وجيهًا بأن يشارك محققون مصريون فى القضية، وهذا من مصلحة السعودية لأنها مهما أتت بأدلة وبراهين على إدانة الجيزاوى، فإن المشككين لن يقتنعوا أبدا.. ربما أيضًا يكون الجيزاوى بريئا.. عموما المتهم برىء حتى تثبت إدانته من خلال عدالة مستقلة نزيهة. لكن هناك أبعادًا أخرى أهم من الجيزاوى وهى ما تتسبب فى تفاقم القضية وتعقيدها واتخاذها حجما أكبر من حجمها الطبيعى ذلك أن هناك غصة فى حلوق قطاع من المصريين من موقف السعودية خلال الثورة، حيث كانت داعمًا مباشرًا وواضحًا لمبارك، بينما الذى كان يجرى هو شأن داخلى، وهو ثورة شعبية ضد نظام فاسد وظالم ولم تكن الرياض موفقة فى موقفها الذى ناهض إرادة الشعب المصرى وانحاز إلى حاكم ثار عليه هذا الشعب، إنما فى نفس الوقت ليس مقبولا من أى مصرى إهانة السعودية كدولة ولا قيادتها ولا شعبها الشقيق، الذى كان متفاعلا ومؤيدا للثورة المصرية. من حق المصريين الاختلاف السياسى مع مواقف المملكة ونقد هذه المواقف، وكذلك التظاهر أمام السفارة للتعبير عن موقف فى قضية الجيزاوى أو فى غيره لكن من دون إهانات شخصية أو عامة أو تخريب أو تدمير فهذا ليس سلوك أصحاب مطالب وليس سلوكاً من ينتمى إلى ثورة وشعب متحضر صاحب تاريخ عظيم. على الجانب الآخر فإن قرار السعودية بغلق السفارة والقنصليات وسحب السفير سيتضرر منه مصريون ممن لديهم تعاقدات للعمل بالسعودية، كما سيتضرر معتمرون وأصحاب شركات ومصالح، والضرر سيلحق حتمًا بمواطنين سعوديين لهم مصالح فى مصر. وإذا كان الأفراد يغضبون ويقعون فى تجاوزات أحيانًا فإن الدول لا تغضب من بعضها بسرعة ولا تفلت أعصابها خصوصًا عندما تكون العلاقات وطيدة وما حصل أمام السفارة مهما كان خارجًا ومتجاوزًا فالرد لا يكون بغلقها وإلا فإنه بهذا الشكل ستغلق نصف دول العالم سفاراتها، كما لن يتعامل النصف الآخر مع بعضه البعض. على السعودية أن تدرك أن هناك واقعًا جديدًا فى مصر الآن، ذلك أن مبارك انتهى زمنه، وبالتالى فهى يجب أن توضح موقفها بشفافية بأنها لا تفرض نفسها لاعبًا فى الشأن المصرى أو فى ترتيب البيت بعد الثورة حيث يتردد كثيرًا أنها مثلا تفضل هذا الشخص أو ذاك رئيسًا أو أنها تدعم هذه الجماعة أو ذلك التيار ليكون له وجود مؤثر فى تركيبة السلطة الجديدة، كما لا يجب أن تضغط على مصر بورقة العمالة أو بورقة الاستثمارات ولا أقول المساعدات فنحن لا نريد مساعدة إنما نحتاج استثمارًا يعود بالفائدة على الطرفين. الطبيعى أن تتعامل السعودية مع أى نظام يختاره الشعب المصرى وهو لن يكون عدوانيًا أبدًا معها فالبلدان وبحكم التحديات الخطيرة التى تواجهها المنطقة لابد أن يكونا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا.