ليس ثمة مكان لم تصل إليه الثورة أو ترجمة أماراتها سوى الثقافة الرسمية، فالأداء المترهل للوزارة والتخبط الإدارى الذى بدا فى السنوات الخمس الأخيرة أصبح سمة دالة على خيال بليد، لم يدرك بعد أن ثمة ثورتين قد حدثتا فى بر المحروسة. فى البدء كان الفرار من معركة الأمة المصرية ضد عصابات الرجعية والإرهاب، وفى الخاتمة كان الغياب عن بلورة مشروع ثقافى وطنى يكرس للخطاب العام لدولة تتطلع إلى مستقبل يخصها باختصار، وما بينهما تزداد مساحات التداعى للمؤسسة الثقافية الرسمية، على نحو بدت فيه القوة الناعمة المصرية محل تساؤل من مراكز إنتاج الثقافة العربية الأخرى من جهة، ومن قطاعات واسعة من المثقفين المصريين الباحثين عن أفق للخروج من نفق التحالف المعتم بين الفساد والرجعية من جهة أخري. تملك الثقافة الرسمية الآن وجودا فيزيقيا تملأ به الفراغ العام على نحو مادي، أما المحصلة الفعلية فتراها عبر شيوع مناخات التعصب والكراهية والتطرف والتقييد على الإبداع ومصادرة الأفكار وسجنها مجازا وواقعا، تلك المناخات التى لم تنجز وزارة الثقافة بإزائها شيئا، ولم تبدأ حتى فى تبنى مشروع ثقافى تحررى تنويرى بحق يعيد الاعتبار للقوة الناعمة المصرية من زاوية، ويخلق سياقا تشيع داخله قيم التقدم والاستنارة والحداثة والإبداع من زاوية ثانية. ربما تحمل التفاصيل إشارات دالة على سياق متخبط تعيشه الوزارة بهيئاتها المختلفة، وإن ظلت التفاصيل عرضا لجوهر، وعلامة على أزمة فى مجمل التحليل الموضوعى لما هو قائم، فالتغييرات التى طالت الوزارة لم تأت بجديد، وظلت وفية لدولاب الثقافة الكرنفالية الصاخبة، التى تشبه الجعجعة بلا طحين، والاختيارات التى جاءت من خارج صندوق الدولة القديمة تمت الإطاحة بها، وفى الوقت الذى لم تصدر فيه الهيئة العامة للكتاب بيانا تدعم فيه حرية التعبير والإبداع التى تعرضت لهجمة شرسة فى الآونة الأخيرة، ولم تخرج أيضا ببيان رصين يدين تسرب كتاب إسرائيلى داخل قاعات المعرض تبيعه إحدى دور النشر، نراها تخرج ببيان عن التكاليف الباهظة لمأدبة السمك والجمبرى والسى فود التى تجاوزت الأربعين ألفا وفق ما نشرته المواقع والصحف، ولم تعترف الهيئة فى بيانها سوى بثلث المبلغ، معتبرة أن هذا أمر عادى !. المدهش ليس فى حجم التكلفة فحسب فى بلد ينهش فيه الفقر، وناسه مطالبون بالتبرع بجنيه كل صباح خروجا من أسر الأزمة الاقتصادية، بل الأدهى أيضا يتمثل فى ردة الفعل التى بدت الحقيقة آخر ما تنشغل به! لكن ما الذى يعيد للثقافة حيويتها واعتبارها فى لحظة مأزومة وفارقة من عمر الدولة المصرية، ربما تصبح الحاجة ملحة إلى تلمس مشروع ثقافى موصول براهن الناس وواقعهم، مشغول بإخراج الثقافة الرسمية من عزلتها، والتعامل معها من منظور أكثر اتساعا لا يراها حكرا على مجموعة من المثقفين، بل يجعلها تعبيرا عن حالة مجتمعية بالأساس، وهذا البناء المكين الذى يتوجه لمحيطه الاجتماعى لا بد أن يصحبه إطار فكرى يكرس لكل ما هو طليعى وحر ونبيل وتقدمى من جهة، وأن يعبر عنه خيال جديد يدرك ماهية اللحظة وتحولاتها المتسارعة من جهة ثانية. يجب إذن مغادرة السياقات القديمة التى صنعت الإرث المترهل لوزارة الثقافة، حيث الأداء الكرنفالي، وتغييب المعني، والدخول فى رطان لا يقدم ولا يؤخر شيئا مع بعض المعارك الفرعية التى لا تفيد الثقافة أو المجتمع فى شيء سوى التكريس لمزيد من التطاحن لا الجدل، الرطان لا القيمة، وهذا جميعه يتطلب وعيا حقيقيا بما يسمى جدل السياسى والثقافي، وللأسف فإن التقنيين من الموظفين الثقافيين يفتقرون إليه افتقارا تاما، وبما يستلزم أيضا تغليبا لمعايير الكفاءة والنزاهة والشفافية، ولا شيء آخر. يجب الانتقال إذن من خانة الموظف الثقافى المشغول بتسكين الأوضاع واستمرارها كما هي، إلى حيز المساءلة لواقع ثقافى مترهل، أملا فى بلورة سياق جديد يجعل من الثقافة الرسمية قيمة مضافة إلى متن الدولة المصرية، وليس عبئا عليها عبر ممارساتها البليدة تارة، وتصريحات مسئوليها تارة أخرى على غرار التصريح الشهير للوزير الحالى حول إنصاف التاريخ للدور الثقافى لسوزان مبارك!، هذا التصريح الذى يعد فى جوهره عبئا على الدولة المصرية الراهنة بعد ثورتين مجيدتين. يجب أن ينطلق المشروع الثقافى إذن من مخاصمة القديم بكل تنويعاته، والانطلاق من الآن وهنا، وتحويل الثقافة إلى حالة جماهيرية، ومنح الهيئات المختلفة استقلالية فى إدارة الشأن الثقافى وأن تكون مهمة الوزير التنسيق فيما بينها، وأن تنهض كل مؤسسة بدور يخصها ويسد ثغرة فى الجدار الثقافي، بدءا من القدرة على إنتاج أفكار جديدة فى المجلس الأعلى للثقافة الذى يجب إعادة هيكلته بما يتواءم مع اللحظة الراهنة، ويعبر عن تصوراتها السياسية والثقافية، ومرورا برفد الأقاليم المصرية بمجمل النتاج الإبداعى المصرى وتبنيه ودعمه من مسرح وسينما ورواية وقصة وشعر وفن تشكيلى وغيرها من الحقول الأدبية والإبداعية، عبر بيوت الثقافة وقصورها المنتشرة فى ربوع الجمهورية، وخلق سياق جديد للكتاب المصرى والوصول به إلى حيز مختلف شكلا وجوهرا، والتكريس لسياسات ثقافية حرة وموضوعية ونزيهة تنهض عليها آليات النشر، وصنع الكتاب ومعارضه المختلفة، التى يجب أن تكون موصولة بقيم وطنية وعروبية وإنسانية تكرس لقيم طليعية فى الفكر والثقافة والإبداع. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله