جرت العادة بين مؤلفى الكتب فى مصر على الميل لكل ما هو غربى أملا فى أن تحظى مؤلفاتهم بنظرة أكثر احتراما وأن يقول عنهم قراؤهم إنهم مثقفون جدا ومطلعون على كتابات غربية وما إلى ذلك، فتجد أحدهم على سبيل المثال يطعم نصوصه بكلمات وأمثال غربية أو يحكى للقراء، بمناسبة وبدون مناسبة، عن رحلاته فى الخارج و أصدقائه الأجانب.. ولا مانع أيضا من أن يظل يعزف طوال الوقت على وتر الفروق الحضارية بيننا وبينهم، لكن على أساس أنه محسوب عليهم لا علينا. وفى وسط استشراء هذه الحالة، تسمع صوتا يغرد خارج السرب.. هو توماس جورجيسيان فى كتابه الذى صدر مؤخرا عن دار العين تحت عنوان “الطيور على أشكالها تطير” وتوماس جورجيسيان هو صحفى مصرى يراسل الأهرام من الولاياتالأمريكيةالمتحدة ويمدها بتقارير حول كل ما يهم العلاقات المصرية الأمريكية وقد لعبت تقاريره دورا مهما فى توعية قاعدة عريضة من القراء وصناع القرار على حد سواء بكواليس المشهد المصرى فى عيون الأمريكيين فى أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو و بالعودة إلى “الطيور على أشكالها تطير” تجد أن المؤلف أبعد ما يكون عن النموذج “ المصرى المتأمرك” الذى أشرنا اليه فى المقدمة، بل ويكاد يدفعك إلى الشك فى أنه لم يخرج أساسا خارج الحدود المصرية ولايزال يتجول بين أحيائها ومقاهيها بروح عاشق ولهان لكل تفاصيلها. والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات لأفكار مسترسلة عن الذكريات والأماكن والأشخاص والمشاعر كتبت كلها بأسلوب سلس لا يشوبه تعقيد أو تكلف وكأنه فضفضة مثقفين أو مجموعة خواطر عن الحياة وما كان وما قد يكون وربط بين العام والخاص والشرق والغرب و لى العكس تماما مما أشرنا إليه فى المقدمة إلى المؤلفين «المتمحكين» فى ثقافة الغرب، تجد جورجيسيان يستعين فى كتاباته بألفاظ وعبارات مصرية أصيلة 100%، فتجده مثلا يستعين بعبارات مثل « فينك يا راجل» و»لك وحشة « و» خليها على الله» و»خد راحتك فى الكلام» و»اللى فى القلب على اللسان» و» السؤال لغير الله مذلة» وبشيء كبير من الوفاء، يشير المؤلف فى ضمن حكاياته، إلى الكتب والكتاب الذين شكلوا فكره بشكل أو بآخر وكأنهم يعيشون معه هذه اللحظة، فتجده يشير بحب إلى خيرى شلبى وتوفيق الحكيم وألف ليلة وليلة ومكاوى سعيد وبورخيس وأنسى الحاج ومالك شبل وغيرهم الكثيرين. ويظهر واحد من الملامح الهامة فى كتابة جورجيسيان فى فصل بالكتاب يحمل اسم «عن أبى أتحدث» وهو ربط أدق المشاعر الإنسانية الخاصة بشيء مما أثر فى ثقافة المؤلف، فبينما يتحدث عن علاقة الأبوة الآسرة فى حياة كل منا ويلمس لحظات الدعاء الصادقة التى تأتى على لسان كل أب مصرى مثل «إن شاء الله يكونوا أحسن مننا» و«أن يبعد عنهم أولاد الحرام» و«إن كبر ابنك خاويه» وتجده فجأة يقفز بك إلى مشاهد عالمية حفرت فى ذاكرته عن لحظات الأبوة الخاصة مثل الفنان العالمى روبرت دينيرو وهو فى حفل تكريم له وهو فى السبعين من عمره وقال بألم: «ياليتنى أمضيت وقتا أطول مع والدى مستمعا اليه، لكى أستطيع أن أتكلم بشكل أدق و أعمق عنه وعن أعماله وعن لوحاته» وعلى هذا المنوال تمضى صفحات الكتاب بحكايات من الشرق والغرب وانطباعات إنسانية عن «نشارة الحياة» التى تسقط مع كثرة احتكاكنا بالبشر، فيظهروا على حقيقتهم أو بمعنى أصح، نصير أكثر نضجا والكثير من المعانى الأخرى مثل الإصرار والصبر والعزة والحنين. وختاما حكى الكاتب فى آخر فصول كتابه «الطيور على أشكالها تطير» عن الولع الأمريكى بمصر وصفحات هذا الوصف على وجه التحديد جديرة بالقراءة، ليس فقط لأسلوبها لأنها شهادات شاهد عيان عاش على الأرضين. الكتاب : الطيور على أشكالها تطير» المؤلف : توماس جورجيسيان الناشر : دار العين 2016