شىء من الخبز وقدر من اللهو، panem et circensis عبارة لاتينية رددها قياصرة الأمبراطورية الرومانية، لتحديد ما يمكن أن يطالبهم به الشعب. الثورة الفرنسية التى قام فوقها مشروع الحداثة الانسانية، قلبت المعادلة،ورغم أن الجماهير كانت تهتف طالبة الخبز فى شوارع باريس،إلا أن المثقفين الذين لعبوا الدور الرئيسى فى هذه الثورة، هم من رتبوا الاولويات، الحرية كانت هى أم المطالب. فقد أدرك المثقفون أن الحرية، هى حجر الزاوية، وهى الطريق لتحقيق أى مطلب آخر، وكانت هديتهم الكبيرة للإنسانية هى التنوير،فقد أدركوا أيضا أن المعرفة والثقافة هما خط الدفاع الأول عن هذه الحرية. كان عبد الناصرمحاطا بعباءة رفيعة المقام من المثقفين والمبدعين، وهم الذين حولوا مشروعه السياسى، الى نصوص ومشاهد والحان ودراما وجدت طريقها الى قلوب الناس، ولكن النظام كان يقدر دور المثقفين فى التأييد والحشد كفصيل دعائى فقط، ولذا لم يهتم بالحوار معهم كعقول فاعلة، فهم مجرد أدوات. كان النظام يكتفى بمؤسسات هزلية مثل البرلمان والاتحاد الاشتراكى كفيلة بتمرير أى قرار للزعيم. كلف النظام الذى أمم أدوات انتاج الثقافة ثروت عكاشة ببناء الحظيرة الرسمية للعقل والابداع المصرى كما يريده ،وتغافل من دخلها من المثقفين - وهم الأغلبية للأسف - عن قيم كبرى مثل الحرية والتعددية والمشاركة الحقيقية، وكانت مصر تندفع بذلك بلا عقل، نحو الهزيمة الموجعة. على العكس من تجربة عبدالناصر بدأ السادات سنوات حكمه بصدام مباشر مع المثقفين، لأنهم أيدوا حركة الطلبة فى 1972، اختار الرجل اختزال الثقافة وتحجيم دور المثقفين، بوصفهم أفندية أراذل, فأغلق العديد من المواقع والإصدارات، وملأ الفراغ الذى خلفه غياب الثقافة بالخطاب الدينى وأمسيات الانشاد، وخطب الشيخ الشعراوى، وندوات الإخوان، وجحافل الدعاة الذين ترك لهم العقل المصرى لافتراس ما تبقى منه. لم ينشغل نظام السادات فى الحقيقة ببناء حظيرة تخصه للمثقفين، لأنه كان اكثر تطرفا فى عدائه للمجال، فقرر تصفيته بأكمله. كان فاروق حسنى يفخر فى المقابل، بأنه قد أعاد المثقفين إلى حظيرة النظام، ورغم قسوة المجاز الذى اختاره، إلا انه كان يترجم تحولا حقيقيا، فالمسافة بين النظام والمثقفين فى عصر السادات كانت قد اتسعت على نحو كارثى، نجح الوزير بمساعدة الدكتور جابر عصفور رئيس المجلس الأعلى للثقافة آنذاك، فى إعادة المثقفين الى حضن الدولة الدافىء، وكان مبارك يواظب على افتتاح معرض الكتاب ليلتقى بالمثقفين فى عقر دارهم، وكان وزير ثقافته، يدرك أن شرعية النظام تتطلب دعما من النخب والمثقفين، ولذا لم ينضم الى الحزب الوطنى أو للجنة السياسات، حتى لا يتماهى سياسيا مع النظام،وأصر على هويته كفنان ينتمى الى جماعة المثقفين، ويصلح بالتالى لأن يكون جسرا بين عالمين، ولكن الحقيقة أن حظيرة مبارك الثقافية كانت معنية بتفريغ الثقافة من مسئوليتها ودورها، بتحويلها إلى نوع من النشاط المتلاحق عالى الصوت ،مؤتمرات مهرجانات حفلات تكريم احتفالات، كانت حظيرة مبارك معنية بالصهللة الثقافية كما سماها الوزير بالفعل، فى الوقت الذى كان نظام التعليم ينهار فيه تماما. لم يترك المثقفون لنظام الإخوان فرصة كى يملى شروطه المتخلفة على الحركة الثقافية، ولم تتح لهم سقطاتهم المتلاحقة الوقت لإظهار فاشيتهم فى مجال الثقافة، ولذا يصعب التوقف امام تجربتهم، وهكذا نكون قد وصلنا الى حالنا الراهن. حرص الرئيس السيسى وهو يقدم نفسه للمصريين على أن يظهر ولعه البالغ بالقراءة وبالكتب، فاستبشر المثقفون خيرا، ولكنهم تعجبوا بعد ذلك من عزوفه عن حضور دورتين متتاليتين لمعرض الكتاب. ثم تصاعدت حيرتهم بعد أن ظهر جليا ضيق النظام بالمجال السياسى، وبعد أن بدأت حملات غوغائية للتشهير المؤلم بالخصوم، والتشكيك فى ثورة 25 وتسييد روح عدائية ضد النشطاء والمجتمع المدنى، ومع إصرار النظام على ترك مساحة حركة للسلفيين، وتبنيه لخطاب دعائى لا يفرق بين الدولة ونظامها، وبعيدا عن موقف النظام من الثقافة والمثقفين، تكررت مؤخرا بعض وقائع العنف، وكانت تنذر بمواجهات نحن فى غنى عنها، قد تتولد أثر ممارسات عدائية من أجهزة أمنية، أو ربما تولدها هموم المعيشة التى أصبحت أكثر قسوة، أو تتشكل كرد غاضب على إخفاقات المؤسسات فى القيام بدورها إزاء ازمة ما فى واقع لا تنقصه الأزمات. أدخلت هذه الممارسات علاقة النظام بالمثقفين الى منعطف أكثر توترا، لأنها مدتهم ايضا بشواهد حية على مخاوفهم من داخل مجالهم، فقد تكررت وقائع المداهمة والمنع ومحاصرة الأفكار والمبدعين وإغلاق مواقع ثقافية بوسط العاصمة بحجج بالغة السخافة، وهكذا بدا وكأن النظام لايضيق فقط بالاختلاف، ولكنه يضيق فى الأساس بالأفكار،ويسمح فى المقابل لكائنات بذيئة بأن تشغل الناس بصغائرها ، ليصبح المناخ طاردا لأى اداء ثقافى جاد.ما يطلبه المثقفون الآن هو عين العقل،ونأمل أن يعيد النظام ترتيب أوراقه، وأن يتخذ مبادرات عاجلة، كى لا تتسع الهوة، وحتى نصل سالمين الى الاستحقاق الانتخابى القادم، ونكون بذلك قد قطعنا خطوة هامة، بكون فيها رئيس منتخب ديموقراطيا قد أكمل مدته بشكل سلمى. يريد المثقفون ببساطة من رئيس الدولة المنتخب، والذى أقسم على احترام الدستور، أن تحترم أجهزة الدولة حق أى مصرى فى إبداء رأيه فى الشأن العام، فهذا وطننا جميعا، وليس وطنا لمؤيدى الرئيس وحدهم، ونحن نصر على حقنا فى الاختلاف مع اختيارات النظام وتوجهاته، دون أن تلاحقنا الاتهامات الجاهزة بالعمالة والخيانة، لقد فتحت ثورة يناير أفقا واسعا للأمل، وقد شارك فيها المثقفون بشجاعة حقيقية، ولن يكون سهلا إعادتهم للوراء. وإذا كان الخطاب الرسمى يدعو الجميع للمشاركة بقوة فى مواجهة التحديات، فعليه أن يدرك ان ملاحقة المثقفين وأصحاب الرأى، أصبحت واحدا من أهم هذه التحديات. لمزيد من مقالات عادل السيوى