فى عصر مبارك تحوَّلت الثقافة إلى مرتبة ثانوية وهامشية فى إدراك رئيس الجمهورية والمجموعة التى شكَّلت حاشية «السلطان الجمهورى»، ومعها أجهزة الدولة العتيدة التى لا تهتم بالثقافة، وترى المثقف بوصفه مثيرا للشغب، والقلق والاضطراب، وتهديدا للأمن. ومن الشائق ملاحظة أن ثمّة خلطا فادحا وشائعا بين المثقف والقراءة والكتابة، بوصفهم أعمال تحريض على السراط السلطوى السياسى والدينى المستقيم. يرجع ذلك إلى خلط بعضهم فى الدولة والنخبة العليا، ورجال الأمن والرقابة والمخابرات، بين المثقف، وبين حركيى الحياة السياسية السرية، لا سيما الماركسية والناصرية، لا سيما بعض الذين يستخدمون لغة المصطلحات الفلسفية والاجتماعية، والتى تحوّلت على أياديهم إلى لغة كهنة وديانات سرية، تدور فى الأروقة المعتمة، وتظهر فى بعض المؤتمرات والجامعات والمقالات. من هنا كانت مثيرة للضجر حينا، ومدعاة للسخرية منها، من بعض رسّامى الكاريكاتير والكتاب الموالين وأتباع الدولة والنظام، وتحولت هذه السخرية -من إمعات السلطة وأجهزتها الأيديولوجية والأمنية- إلى إحدى أدوات التحقير لدور المثقف وخطابه ومكانته. يبدو أن مواقف السادات وأجهزته تمددت وأثمرت فى عصر مبارك، إلا أن السلطة أدركت حاجتها الضرورية لبعض المثقفين لمساندتها فى مواجهة جماعات العنف السياسى الدينى، لا سيما الجهاد والجماعة الإسلامية، ثم الإخوان بعد واقعة وفاة المحامى عبد الحارث مدنى عام 1995، فحاولت استخدام المثقف والثقافة كأدوات أيديولوجية مع الأدوات الأمنية فى التعامل مع ظاهرة مركبة ومعقّدة، كانت تتطلب سياسة دينية إصلاحية وتجديدية، ومعها تطوير للثقافة والإعلام ومؤسساتهم، بحيث تتكامل مع إصلاح جذرى للنظام التعليمى، وسياساته ومناهجه من رياض الأطفال إلى التعليم العام، والجامعى وما بعده.. إلخ. استمر الإدراك الأداتى للمثقف والثقافة سائدا، ولكن مع تضخم منطق الاستعراضات حول الحاكم وحرمه، لكى تغدو بمثابة تاج على رأس كليهما، وجزء من المكياج السياسى والثقافى، لتغيير الصورة الإعلامية والسياسية لكليهما فى الغرب والإقليم. من هنا كانت سياسة إدخال المثقف إلى الحظيرة البلهاء، هى الوجه الآخر للتسلطية السياسية، التى استطاعت إنتاج تسلطية ثقافية وسطوة المؤسسة الثقافية الرسمية، وتضخم البيروقراطية المترهلة التى تمددت وتكلست وتصورت أنها هى الثقافة، وأن الموظفين الإداريين هم المثقفون وفوقهم، من هنا توطنت أمراض الركود والشيخوخة والفساد الإدارى وتزايد الإنفاق العام على الأنشطة الشكلية التى تؤدى إلى استهلاك الميزانيات فى الأجور والمكافآت والأعمال غير المنتجة أو المؤثرة. استطاعت الوزارة استقطاب بعض من الروائيين والقصاصين والشعراء، والرسامين والنحاتين، والموسيقيين، من خلال أنشطة الوزارة، والنشر، والمعارض، والحفلات الغنائية والجوائز، والسفر إلى الخارج، ومؤتمرات أدباء الأقاليم للاستيعاب والسيطرة وخلق الموالين. وأصبحت هيئات الوزارة جميعها تعمل كناشرين حكوميين، وتناسى بعضهم وظائفه الأساسية فى العمل الثقافى ولا يزالون. بعض الأنشطة كانت تحقق بعضا من النجاحات، لكن غالبها كان دون المستوى، وتمحور حول العمل المكتبى، أو بعض التظاهرات الاستعراضية فى العاصمة. من ناحية أخرى كانت الدولة تلعب بالإسلام وتوظفه سياسيا لصالحها ومع الإخوان والجماعات الإسلامية السياسية الأخرى، والأزهر، وأحيانا إزاء المثقفين فى الرقابة الدينية على أعمالهم. استخدم النظام الوزارة كأداة لاستيعاب بعض الأساتذة وما دونهم من كلية الآداب، وكأنها هى وحدها التى تحتكر إنتاج الثقافة والمثقفين، وذلك لشغل بعض المواقع القيادية فى أجهزة الوزارة. بعض هؤلاء كانوا على مستوى المسؤولية، وبعضهم الآخر لم يحقق أى نجاحات تذكر. وربما يمكن استثناء بعض الأعمال الجيدة، كمهرجان المسرح التجريبى وترجماته المتميزة على أيدى د.فوزى فهمى، وبعض أنشطة المركز القوى للترجمة برئاسة د.جابر عصفور.. إلخ. جوهر الأزمة يتمثل فى الإدراك السياسى للثقافة كأداة، وليست تعبيرا عن الحرية فى الإبداع والرأى والحق فى الاختلاف والنقد الحر، والإنتاج الثقافى الإبداعى بعيدا عن الوصاية، وأشكال الرقابات السياسية والدينية والأمنية. والنظرة إلى المثقف كمبدع ومنتج، وأنه ليس محض داعية أيديولوجى للنظام، أو لجماعة، أو ناطق باسم شلة، أو عامل ذهنى يقدم خدماته لمن يحتاج. سياسات أدت إلى إخصاء لدور ومكانة وإنتاج المثقف النقدى، وأدت إلى استيعاب جحافل فى الدائرة السلطوية عموما، إلا هؤلاء الذين اعتصموا بدورهم النقدى، وحافظوا على فكرهم الحر، ناوروا، وشقوا طرق جديدة، وهوامش مستقلة، وتحركوا بين الفراغات كى يسهموا فى كسر معتقلات العقل، وسياجات الأعراف الاجتماعية الرثة بما فيها من كذب وازدواجية والتواءات وثقافة للنفاق العتيد. وذهبت بعض أجيال جديدة منذ السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وجيل العقد الألفى الأول الجديد يعملون فى استقلالية نسبية فى أنشطة وتظاهرات مغايرة، وكتابات مختلفة، سواء خارج المؤسسة الرسمية، أو على الواقع الافتراضى، واستمرت المؤسسة الثقافة الرسمية مضطربة يسيطر عليها الموظفون والأتباع، وغير قادرة على كسر الجمود أو مواجهة التطرف الدينى، أو نقد العقل المعتقل حتى بعد 25 يناير 2011، حيث ظهر بوضوح عقم المؤسسة الرسمية، والبيروقراطية الثقافية التى تضع أيديها على سيوفها وخناجرها الكليلة كلما سمعت كلمة مثقف، ونقد، والتجديد الثقافى، أو ثقافة الثورة أو «الانتفاضة»! إن نوعية بعض الوزراء وكبار الموظفين بعد 11 فبراير 2011 كانت كاشفة عن التجريف الثقافى والسياسى للكفاءات والخبرات، ومن ثم كانت وظائف السلطة الثقافة الرسمية أحد مصادر عدم الاستقرار والاضطراب فى أجهزة الدولة، وذلك لغياب الرؤية، والقدرة على صياغة سياسة للتعامل مع المراحل الانتقالية وفوضاها! وللحديث بقية.