نجح الحكام الجدد لمصر أن يطفئوا مصابيح الحياة اليومية بالشكل المادي الملموس لكننى على يقين أنهم حتما لن يستطيعوا إطفاء جذوة مصر ومصابيحها الثقافية مهما حاولوا أو فعلوا. أتذكر وتحضرنى بشدة هذه الأيام, الأجواء الثقافية التى عشناها فى السبعينيات من القرن الماضى وكانت شبيهة وتكاد تتطابق فى بعض الوجوه بما يحدث الآن, لقد كانت الهجمة شديدة وقاسية على الثقافة المصرية والمثقفين.. فاستبعدت قيادات محترمة وفاعلة وتغيرت التوجهات وأغلقت المجلات الثقافية المحترمة وأنشأ النظام مجلة «الجديد» التى رأس تحريرها د.رشاد رشدي المعروف بعدائه لليسار المصري وللثقافة المصرية الوطنية، وشنت المجلة هجمات ضد رموز المجتمع الثقافية التى وقفت ضد السادات حتى وصلت للقمم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وقدمت أعداداً تمتلئ بالسفالة الفنية واللفظية البعيدة عن أي قيم نقدية محترمة.. ولأننا كنا صغاراً فقد رأينا الدنيا ظلاما وتصورنا أن الثقافة المصرية المحترمة والبديعة قد تقوضت إلى الأبد، ولكنها وفى سنوات قليلة عادت أقوي مما كانت وحصل نجيب محفوظ على نوبل وذهب كل من تطاول عليه بعيدا فى مكان مظلم ومكلل بالعار بعيدا عن تاريخ الثقافة المصرية الحقيقى والمشرق. لذا أنا لا أخاف على الثقافة المصرية، حيث تكون لدىّ يقين من خبرات السنين الطويلة والأحداث والخبرات القديمة أنه لابد من انتصار قوي النور على قوي الظلام، ومهما نالوا منها فى الوقت الحاضر فهى عائدة قوية شابة وفتية لا محالة. إن الثقافة عمل إبداعى أساسه الحرية والاستقلال والمثقف الحقيقى هو الإنسان الحر سواء موظف فى وزارة الثقافة أو خارجها والفنان لديه جناحات يطير بها خارج أي مؤسسة وأي إطار يوضع له أو يوضع فيه. لذلك فأنا لا أخاف على المثقف والمبدع المصري فلكل منهم حيله الفنية وأدواته التى تجعله يصمد ويبدع حتى فى ظل الحكام الفاشيست.. إن أي مثقف أو فنان حقيقى هو خارج الأطر السياسية وهو دائما على يسار أي سلطة. لقد أنشأ عبد الناصر وزارة الثقافة ومع ذلك فقد اختلفوا معه ووجهوا له سهام النقد فى فنونهم الشعرية والمسرحية والتى كانوا يقدمونها فى وزارة الثقافة نفسها وكانوا من أكثر فئات المجتمع الذين وقعوا فى تناقض مع ممارساته رغم إيمانهم بكثير من توجهاته وانجازاته. وأيضا لا أخاف على المؤسسات الثقافية والفنية مثل الأوبرا والمسرح والفنون الشعبية أو هيئة الكتاب وهى التى بناها الشعب المصري بعرقه وأمواله أن تتقوض هى والقائمين عليها فى هذه الأجواء الفاشية الإقصائية التى تتهم بلا أدلة وتجرس وتغتال السمعة بلا ضمير؟ ففيها من مقومات البقاء والمقاومة والاستمرار بين ابنائها أنفسهم الكثير الذي لا يدركه الحكام الجدد. ولكنى أخاف وأخشى على الثقافة الجماهرية ثقافة الأقاليم وثقافة الشعب خارج العاصمة والتى تعرضت بالفعل للتهميش والتجريف الاحترافى المنظم فى النظام السابق!! ومن أن تتحول على يد النظام الحالى إلى منابر لنشر الفكر السلفى الوهابى ومنابر دعائية للسلطة السياسية الحاكمة. لقد كتبت فى هذا المكان أكثر من مرة عن التحدي الذي يواجه الثقافة والمثقفين ولكنى لم أتوقع أبدا أن تكون بمثل هذه السرعة والجهل بكل القواعد والأعراف الإدارية والسياسية!! وأتصور أنه لم يكن ينقصنا غير إعلان دستوري يطلقه وزير الثقافة بنفسه.. وأعتقد أنه لو كان يملك لفعل؟