الكتابة عن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل تبدو صعبة، ولا يكاد المرء يعرف من أين يمكن مقاربة شخصيته، وتاريخه المهنى والسياسي،وذلك على الرغم من كثرة ما كتب عنه من بعض مريديه وناقديه، وكلا النظرتين مبتسرتان، المريد يلهج بالثناء من فرط محبته أو تماهيه مع هذه الشخصية المتفردة، وربما النادرة فى الحياة العامة المصرية والعربية، أو وقوعه فى هوى كاريزميته الساحرة، فكل ما يقوله ويكتبه هو الحقيقة، أو القول الفصل، أو الرأى الأكثر رجاحة ورشداً فى الفكر السياسى المصرى والعربي. بعض المريدين حاول جاهداً تقليده بالاستيلاء على بعض من قاموسه الثرى المتميز، ولكن لم يستطع لأنه لا يقلد وتجربته الكتابية والشخصية خاصة واستثنائية، وبعض من ناقليه حاولوا اكتساب بعض من فائض قيمته الغامرة، ولكن ظل هامشياً. بعض ناقديه كالوا له القدح والتجريح والتشكيك وكيل الاتهامات المرسلة، ولكنهم لم يستطيعوا النيل منه كاتباً مبرزاً وشخصيته نسيج وحدها، ونسيهم القراء والجمهور العام، وظل ينظر إليه بوصفه المفتى السياسى للديار المصرية، عندما تتكالب الأسئلة والمشكلات السياسية الداخلية أو الإقليمية لبلادهم. المفتى بكل ما كان لهذا المنصب من مكانة ونفوذ وتأثير فى تاريخ الذاكرة الجماعية للمصريين قبل أن تدهم المنصب والمكانة جروح السلطة الغشوم والزمن ودواهيه. المفتى السياسى الحداثى كما وصفته ذات مرة- الذى يتابع بدأب أحوال الدنيا والبلاد والعباد سعيا وراء الأخبار المستورة وراء كواليس الحكم ودهاليزه فى مصر، وفى الإقليم، والجرى وراء المعلومات والوثائق كى يبلور وجهات نظره وآراءه. شخصية متفردة متعددة الأبعاد والوجوه والأقنعة، يصعب إيجازها، والأصعب تقييم إنجازه وأدواره لفرط ثراء تجربته فى الكتابة والسياسة والصحافة، شخص لم تنحسر عنه الأضواء قط حتى وأن حاول الابتعاد عن صدارة المشاهد السياسية، إلا أنه ظل جزءاً مهماً فيها. من هنا تبدو صعوبة إيجاز تجربة الحياة والكتابة والسياسة لدى الكاتب الكبير، لكن ضرورات الحال تقتضى إبراز بعض من عطاء هذا الصحفى والكاتب الاستثنائى بكل معانى الكلمة، والذى لا يمكن اختصار مساره المتعدد والاتجاهات فى كلمات وجيزة. ما الذى أعطى محمد حسنين هيكل هذا التأثير والنفوذ والقوة والمهابة؟ أعتقد وأرجو ألا أكون مخطئاً أن من أعطى هذا الكاتب البارز تأثيره ونفوذه ما يلي: 1- السردية الهيكلية إذا جاز التعبير وساغ- لاسيما الكتابية، حيث كمنت وسطعت قوة هيكل الحقيقية فى التأثير على قرائه ومتابعيه، سلطة نصوصه وسرده، الذى شكل خصوصية أسلوبية وجمالية كانت الأكثر نفوذاً عن مجايليه، أو مريديه أو الأجيال اللاحقة له فى الصحافة المصرية والعربية، حيث الجاذبية والقدرة الإقناعية. يتجلى النص / السردية الهيكلية فى قوة اللغة الضارية وسلاستها والسحر الكامن فيها حيث تبدو السردية درامية منذ مفتتح المقال أو الفصل فى كتابه ومتنه وخاتمته وتتزاوج المعلومات مع الأخبار المعروفة أو المستورة، ومعها التحليل وبعضُ من التشويق والتناصات -التضمينات- لمقولات لبعض كبار رجال السياسة العالميين الذين قادوا بلادهم وعالمهم فى فترات حرجة من الأزمات العاصفة واكتسبوا من الخبرات الثمينة فى إدارة الدول والنظم والأزمات الكثير. سردية خاصة بها من المعلومات والوثائق والقدرة التحليلية حتى وإن اختلفت معها واللغة الرامزة وتخييلاتها. ربما يُعد هيكل واحدًا من القلائل الذين يصدق عليهم مقولة رولان بارت «الكاتب هو أسلوبه روعته»، فى كتابه الفاتن «الدرجة الصفر للكتابة». أسلوب سارد كبير واستثنائي، وبعضهم كان يسائل نفسه لماذا لم يكتب هيكل الرواية، أو السيناريو؟! سردية سياسية روائية/ حكائية يتلاعب فيها باللغة كما يشاء ويوصفَّ أجواء وطقوسا وكواليس ولغة وإشارات وإيحاءات ومجازات مفرطة أحياناً. السردية الهيكلية ذروة المعرفة والاطلاع والاقتراب عنده من مواقع الخبر والمعلومة عند القمة، حيث صناعة القرار ومراكز القوى والدسائس، وأجهزة الأمن، وعسسه، والمخابرات وأسرارها، وأوهام السلطة بلا رقابة شعبية ودخائل الأمور، والفراعنة الصغار والحواشى وطقوس وهيلمان السلطة المتسلطة فى مصر. سردية بها من الدراما والتشويق والصدمة، والكتابية لديه هى الأكثر قوة من سرديته الشفاهية عموماً، ومن ثم كان يقرأ سرديته فى بعض الندوات التى عقدت له، ولا يرتجل إلا قليلاً. فى السردية المكتوبة يسيطر على بنيتها ومساراتها واستخلاصاتها ببراعة، أما الخطاب الشفاهى المرتجل ثمة بعض من التفريع والتشتت، وعدم الإحكام. هى سردية مواكبة للتغيرات والتحولات والمعلومات ومن ثم هى سردية حية، وحاضرة، ومؤثرة ونسبية إلى حد ما فى بعض مسارات الأحداث لاسيما فى مصر، وليست متأخرة عنها، أو متجاوزة لها أو فى الإقليم. 2- مصدر القوة الثانى يكمن فى المعرفة التاريخية والوعى التاريخي، وهى أمور يفتقر إليها كُثر من الذين عملوا بالصحافة والسياسة فى مصر والمنطقة، ومن ثم افتقروا إلى قوة التأثير ورجاحة العقل السياسى الحصيف الصنَّاع. اطلاع هيكل وحسه التاريخى منحه قوة الخيال السياسي، والحس المرهف، وسلطة الذاكرة التاريخية اليقظة التى يستدعيها فتطاوعه، وتنير تحليله للأمور والظواهر السياسية والاجتماعية. هذا النمط من المقاربة التاريخية واستخلاص دلالاتها أعطت للسردية الهيكلية عمقًا فى معالجته للمشاكل والظواهر والمتغيرات التى يكتب أو يتحدث شفاهة عنها. 3- قوة التناص أو التضمين- ودلالته وإيحاءاته، استمدها من محفوظاته الشعرية الواسعة آلاف الأبيات من عيون الشعر العربى وفحول شعرائه الكبار التى سلست بها لغته، ورفدت أسلوبه بالغنى والثراء اللغوى الباذخ، لكن تناصاته الهامة والمؤثرة الدالة على إطلاعه الواسع، هى خلاصة قراءاته للسير الذاتية لكبار السياسيين العالميين، وقدرته على استخلاص جواهر الألباب التى جاءت بها فى شكل مقولات دالة، أعطت ومنحت له عمق الخبرة السياسية وتجارب السنين. 4- الاتصال المباشر بمصادر الخبر، وبعض دوائر صنع القرار فى العالم العربي، أو مراكزه فى أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، وفى مصر طيلة حكم ناصر، وبعض حكم السادات حتى خروجه من الأهرام، إلا أنه ظل على علاقة ببعض القريبين من الحكم ودهاليزه يستخلص منهم المعلومات ويسبر غورهم وسلطتهم حتى أيام مبارك، وما بعد يناير 2011، ثم أتيح له مجددًا التواصل مع بعض مصادر القرار فى البلاد. 5- يبدو طلب هيكل على المعرفة فعالا، من خلال مقابلاته المستمرة مع الخبراء فى كل تخصص يستقصى جذور المشكلات والاختلال فى السياسات أيًا كان مجالها، ويستطلع آراءهم ووثائقهم وإحصائياتهم سواء أكان فى طريقه للكتابة، أو لمعرفته الشخصية، كى يكون حاضرًا ومتابعًا فى دأب وشغف. 6- عرف معنى قوة الوثيقة، ومن ثم امتلك آلاف الوثائق التى وصلت إلى يديه، وذلك كى يستنبط منها ما الذى كان يجرى فيما وراء دهاليز القصور، والمكاتب ودخائل صنع القرار. من هنا كان أقرب إلى الصحفى المؤرخ فى بعض كتبه. 7- الحساسية الاجتماعية، وتنبهه ويقظته للمتغيرات فى البنية الاجتماعية فى مصر، وتأثير السياسات الاجتماعية والاقتصادية على الطبقة الوسطى والأجيال الجديدة الطالعة فى ظل ما نسميه الشيخوخة السياسية والجيلية ومخاطر ذلك على الدولة والمجتمع معًا. محمد حسنين هيكل هو أحد بناة المؤسسات، عندما ذهب إلى الأهرام، كان الجمود قد أصابها، أعاد تجديد شبابها من خلال تحديثها فى الفن الصحفي، والمؤسسة، والإدارة، وذلك كى تستطيع أن تواكب التحولات فى المهنة الصحفية، وفى تحديث المؤسسات الكبرى فى عالمنا، حتى استطاع أن يجعل منها واحدة من أهم عشر صحف عالمية. إن دور هيكل فى تطوير الأهرام محوري، لأنه استطاع أن يؤسس فى داخلها عددا من مراكز البحث على رأسها مركز الدراسات الصهيونية الذى تحول بعد ذلك إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، والذى أصبح بعد ذلك واحدًا من أهم ثلاثين مركز بحث على مستوى العالم، وواحدا ضمن أهم مركزين بحثيين فى الشرق الأوسط مع مركز يافا، ثم مركز تل أبيب، قبل أن تتكاثر مراكز البحث فى المنطقة. المركز الذى راكم خبرات، وشكل جماعة بحثية متميزة خرج من أعطافها مفكرون وخبراء بارزون فى العلوم السياسية والاجتماعية. محمد حسنين هيكل كاتب كبير وحالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى والصحفى اتسم بالتفرد شخصاً وكتابة ودوراً، رجل الطقوس والرموز والعلامات، رجل المسافات إذا جاز التعبير- يضع مسافات بينه وبين الحاكم والسلطة والآخرين، لا يقرب أحدًا إلا بحساب دقيق، ربما يعود ذلك إلى اقترابه من الحكام وكواليسهم ودهاليزهم وطقوسهم ومن القوة ومصادرها، صنع نفسه بنفسه بدأب، وكان أنيقاً فى لغته وملبسه وحركته، وكان مولعًا بالعوالم المخملية، والأمكنة التى يرتادها المترفون الكبار فى العالم تعبيرًا عن تميزهم، وكان يُعد جزءًا من هذه النخبة الكونية. شخصية فريدة عاشت عصورا متغيرة فى مصر والمنطقة والعالم، وظل نجمًا لامعاً من نجومها الكبار سواء ظل فى صدارة المشاهد، أو كان جزءًا منها، عرف متى يظهر، ومتى يراقب، ومتى يكتب، ومتى يتكلم. صحفى كبير، ربما كان الأبرز والأكثر حضوراً طيلة أكثر من ستين عاماً مضت ولا يزال، وستظل سيرته وكتابته ودوره مقيمة بيننا.