كان عملي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في ساحة أخري, خلاف الأهرام كصحيفة, لأني انتقلت من أخبار اليوم إلي الأهرام, بعد مرور عام تقريبا, علي تركه رئاسة تحرير الأهرام. لكن الظروف أتاحت لي العمل المتقطع معه عن قرب, لعدة سنوات في مكتبه بالقاهرة. وبعد انتهاء مهمتي تلك, تواصلت اللقاءات بعد انتقالي مديرا لمكتب الأهرام في لندن, ثم عن طريق التليفون بعد انتقالي مديرا لمكتب الأهرام في واشنطن, وهو في رحلة علاج في أمريكا, إلي أن زرته في مكتبه بالقاهرة, بعد سنوات, وإثر عودتي إلي مصر. كانت البداية عندما طلبني الأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير, وذهبت إلي مكتبه ووجدته يقول لي الأستاذ هيكل يريدك أن تزوره. استفسرت عن السبب. ولم يعطني اجابة محددة, واكتفي بالقول: هو طلبك بالاسم. لم أكن قد التقيت من قبل مباشرة بالأستاذ هيكل. فأنا لم أعمل تحت رئاسته. ولكني كغيري من قرائه, فضلا عن معرفتي خاصة بعد انتقالي للأهرام بقدراته غير المعهودة, في إدارة المؤسسة الصحفية, بطرق علمية ومهنية, لا تقل عن إدارة كبريات الصحف العالمية, وربما بما يفوق الكثير منها. استقبلني الأستاذ هيكل في مكتبه بود ملحوظ قائلا أنت بقي عاطف الغمري. ومد يده إلي رزمة كبيرة من الأوراق فوق مكتبه, قدمها لي, وقال هذا كتابي الجديد. سوف ينشر حلقات في الأهرام, وبعدها يصدر كتابا. خذ هذه الأوراق اقرأها. وسأنتظرك بعد يومين. وتكون قد انتهيت من قراءته. قبل ذلك كان الزميل الأستاذ فهمي هويدي هو الذي يقوم بمهمة التعامل مع كتب هيكل التي تنشر حلقات في الأهرام. لكنه سافر إلي الكويت, للعمل حسبما أتذكر بمجلة العربي. ومن ثم اتجه التفكير ناحيتي. قرأت الكتاب بإمعان. ثم عدت إليه في الموعد. ووجدته يوجه لي سؤالا محددا: ما الذي خرجت به من الكتاب؟.. فأجبته بكلمات تلخص مضمون الكتاب في أربعة سطور. وكان تعليقه المختصر: هذا هو فعلا محتوي الكتاب. واتفقنا علي أن أقوم بإعداد تقسيم للأوراق إلي حلقات, ومع كل حلقة عناوينها. وأن أعود إليه لمراجعة كل حلقة. وهكذا بالنسبة لبقية حلقات الكتاب, واحتاجت مهمتي معه زيارات متعددة, كانت كل جلسة منها تمتد إلي حوالي الساعتين والنصف ساعة. كان الأستاذ إبراهيم نافع قد ترك لي القيام بهذه المهمة كاملة, موضحا لي أن أتناقش بهدوء مع الأستاذ هيكل, لو حدث انني وجدت عبارات, تثير حساسية الحكومة. وهو ما حدث.. كنت أشعر أحيانا بوجود عبارات, أري حسب تقديري, أنها قد تسبب مشكلة للأهرام مع الدولة, فأعيد علي مسامع الأستاذ هيكل, قراءتها, وشرح وجهة نظري بشأنها. وهو يسمع ثم يرد بشرح مستفيض, موضحا أهمية هذه العبارات, ليس فقط لما تعنيه, بل أيضا لما يراه فيها من ضرورة أساسية, بالنسبة لصلب موضوع الكتاب بأكمله. وبعد أن أستمع إليه, يمكن أن أسحب ملاحظتي. وأحيانا لا يجد هو ما يمنع من حذف الجملة, إذا لم يكن في حذفها اخلال بالمعني الذي يقصده. لكن حدثت مشكلة كبيرة في واحدة من الحلقات. فقد وجدت عبارات أدركت أنها ستسبب قلقا لرئيس تحرير الأهرام, في حالة نشرها. وقبل موعدي مع الأستاذ هيكل, جلست مع الأستاذ إبراهيم نافع وقرأت عليه نصها. فانزعج بالفعل. وقال هذه العبارات ستسبب مشكلة ليست هينة للأهرام.. اذهب إلي الأستاذ هيكل, وتفاهم معه. وذهبت إليه, وأبلغته بما دار بين رئيس التحرير وبيني. وفي الحال غابت عن ملامحه امارات الارتياح, ورفض اقتراحنا بالتخلي عن هذه العبارات. وقال انهاPivotal بمعني حيوية أو محورية. ولن أمسها. وستبقي كما هي. وإذا أصر الأهرام علي حذفها, فإنني أسحب الحلقات كلها, ولن أقبل نشرها بدون هذه العبارات. ولأول مرة منذ جلسات المناقشة حول الكتاب, وجدت أننا دخلنا في جو أزمة صعبة. وفكرت سريعا في حل يخرجنا من هذه الأزمة. وقلت: أنتما الاثنان رئيسا تحرير. وأنا محرر بالجريدة. والحل الطبيعي لهذا الموقف, أن يلتقي بك الأستاذ إبراهيم نافع لتسوية المسألة. وعدت للأهرام, و,أبلغت رئيس التحرير باقتراحي الذي قدمته إلي هيكل. وهو ما حدث. فقد ذهب إليه إبراهيم نافع في نفس اليوم. وتقابلا, وفي صباح اليوم التالي علمت أن رئيس التحرير سحب اعتراضه, ووافق علي نشر الحلقة كاملة حسب ما أراده هيكل. وأضيف ملاحظة من عندي, فقد أحسست بأن إبراهيم نافع كان يتعامل مع هيكل حتي هذه اللحظة, باعتباره رئيس التحرير الذي عمل تحت رئاسته. خلال الفترة التي قمت فيها بهذه المهمة مع ثلاثة كتب لهيكل, كان وقت الجلسة يمتد, لأننا ونحن نراجع صفحة واحدة, فهو يسترسل في شرح ما هو أكثر من حدود الصفحة, وكأنه يستخرج من بين السطور القليلة, معاني أوسع مدي مما تقوله السطور, ومضيفا معلومات أخري ليست واردة في سياق الصفحة. وحدث ذات مرة. وأنا أستمع إليه, أن ذكرت له معلومة قرأتها في كتاب أجنبي, ووجدت رد فعله بالاهتمام الواضح. فهو انزعج من أن هناك معلومة كهذه, لم يتوافر له العلم بها. وسألني من أين جئت بهذا الكلام.. فأخبرته بعنوان الكتاب الذي كنت قد اشتريته من لندن. ووجدته يمسك بقلمه ويكتب اسم الكتاب, وهذا التصرف جزء من شخصيته, فهو حريص علي الا تفوته معلومة يقدر أهميتها. بل اني كنت الاحظ وأنا معه في جلسة الساعتين والنصف الساعة, أن مكالمات تليفونية تأتيه من صحفيين, تحيطه علما, ليس فقط بأحداث سياسية, بل أيضا بأي أحداث, حتي ولو وقعت في قرية في أقاصي الصعيد. والجلسات معه ثرية, تفتح زوايا للعلم بالعديد من الأمور, المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية, مع ترحيبه بالنقاش حولها, دون أن يضيق بسماع وجهة نظر مخالفة له, من جانبي. فضلا عما كنت مهتما بمعرفته من أفكاره, عن العمل الصحفي, والذي تربع علي قمته كأهم صحفي في مصر والعالم العربي. توقفت مهمتي معه في عالم كتبه, حين عينت في عام1993, مديرا لمكتب الأهرام في لندن. وكان هو معتادا علي زيارة العاصمة البريطانية في عطلته الصيفية, وعندما أعلم بمجيئه, أذهب لزيارته في الفندق الذي يقيم به مرحبا, ومتسائلا عما أرغب في معرفته. وفي أول زيارة له إلي لندن, عقب انتقالي إلي هناك, دعوته لزيارة مكتب الأهرام, فقبل الدعوة. وحضر وجلس علي مائدة الاجتماعات, وحولها الزملاء في المكتب, يستمعون إليه, ثم بدأوا في طرح أسئلتهم وهو يجيب عليها. وفي مرة أخري من زياراته تصادف أثناءها, أن بعثت برسالة نشرت في الأهرام, تحوي تفاصيل عن تدخل في شئون مصر, من شخصيات بريطانية, بطريقة توضح هدفهم من تشويه سمعة مصر, فتلقيت من الأستاذ هيكل اتصالا تليفونيا يسألني عن أي معلومات اضافية عن هذا الموضوع. وكيفية وصولي إليها. وهذا جزء من طبيعة شخصيته, كصحفي أولا وأخيرا, يسعي وراء الخبر والمعلومة, حتي وهو في وقت عطلة في العاصمة البريطانية. توقفت الاتصالات المباشرة, بعد أن انتقلت لرئاسة مكتب الأهرام في واشنطن, إلي أن علمت بمجيئه إلي أمريكا في رحلة علاج, بمستشفي في ولاية بعيدة. وحرصت علي الاتصال التليفوني معه, للاطمئنان, ورتبت وصول نسخة من الأهرام الدولي يوميا إليه بالبريد. ربما تكون هذه اللقاءات التي تعددت, وتنوعت أماكنها, وموضوعاتها, قد جعلتني أتعامل عن قرب مع رجل, لم يكن إلمامه بالمعلومة والمعرفة, يقتصر علي ما يقرأه, أو يحصل عليه من أوراق ووثائق ودراسات, ولو بشرائها من بلاد أجنبية, بل كانت حصيلة معارفه, تأتيه أيضا من اتصالاته الواسعة مع شخصيات عالمية من رؤساء دول, ووزراء خارجية, وكتاب مرموقين. وأذكر انني كنت ضمن وفد صحفي في زيارة لليابان, والتقينا مع وزير الخارجية الياباني, وراح كل منا يقدم نفسه باسمه واسم صحيفته, إلي أن جاء دوري وقلت اسمي فلان من الأهرام. ووجدته يقول: هيكل ثم هز رأسه وقال: أهرام هيكل. تبقي ملاحظة لها مغزاها. ففي بعض جلساتنا ونحن نناقش موضوع الكتاب, كنت أعرب عن وجهة نظر مخالفة له, وربما تختلف مع معتقداته, عندما يتطرق الحديث إلي قضية الديمقراطية بعد ثورة1952, وكان ينصت إلي رأيي المخالف في هذه المسألة بالتحديد, ويناقشه, لكنه لا يرفض الرأي أو يعترض.