أستراليا تشكل لجنة لمراقبة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 12 مايو    رئيس اليمن الأسبق: نحيي مصر حكومة وشعبًا لدعم القضايا العربية | حوار    مفيش فايدة في اللي بتعمله، قادة جيش الاحتلال ينقلبون على نتنياهو بسبب حرب غزة    جلسة تحفيزية من رئيس الزمالك للاعبين قبل موقعة نهضة بركان    وزير الرياضة يفتتح أعمال تطوير المدينة الشبابية الدولية بالأقصر    محمد رمضان يشعل حفل زفاف ابنة مصطفى كامل    عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 12 مايو بالصاغة    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الأحد 12 مايو بالبورصة والأسواق    الهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية قد تبدأ خلال ساعات بشرط وحيد    نشاط مكثف وحضور جماهيرى كبير فى الأوبرا    تثاءبت فظل فمها مفتوحًا.. شابة أمريكية تعرضت لحالة غريبة (فيديو)    مفاجأة صادمة.. سيخ الشاورما في الصيف قد يؤدي إلى إصابات بالتسمم    روما يواجه أتلانتا.. مواعيد مباريات اليوم الأحد 12-5- 2024 في الدوري الإيطالي والقنوات الناقلة    بطولة العالم للإسكواش 2024| تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة    طلاب الصف الثاني الثانوي بالجيزة يؤدون اليوم الامتحانات في 3 مواد    الحكومة: تعميق توطين الصناعة ورفع نسبة المكون المحلى    «آمنة»: خطة لرفع قدرات الصف الثانى من الموظفين الشباب    البحرية المغربية تنقذ 59 شخصا حاولوا الهجرة بطريقة غير شرعية    خبير تحكيمي يكشف مفاجأة بشأن قرار خطأ في مباراة الأهلي وبلدية المحلة    ما التحديات والخطورة من زيادة الوزن والسمنة؟    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    عاجل.. غليان في تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين واعتقالات بالجملة    الآلاف يتظاهرون في مدريد دعما للفلسطينيين ورفضا للحرب في غزة    إسلام بحيري عن "زجاجة البيرة" في مؤتمر "تكوين": لا نلتفت للتفاهات    الصحة تعلق على قرار أسترازينيكا بسحب لقاحاتها من مصر    أبو مسلم: العلاقة بين كولر وبيرسي تاو وصلت لطريق مسدود    تفاصيل صادمة.. يكتشف أن عروسته رجلاً بعد 12 يوماً من الزواج    "حشيش وترامادول".. النيابة تأمر بضبط عصام صاصا بعد ظهور نتائج التحليل    "الأوقاف" تكشف أسباب قرار منع تصوير الجنازات    يسرا: عادل إمام أسطورة فنية.. وأشعر وأنا معه كأنني احتضن العالم    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بمدينة 6 أكتوبر    رئيس بلدية رفح الفلسطينية يوجه رسالة للعالم    وزير الخارجية التونسي يُشيد بتوفر فرص حقيقية لإرساء شراكات جديدة مع العراق    أحمد عبد المنعم شعبان صاحب اللقطة الذهبية في مباراة الأهلي وبلدية المحلة    ملف رياضة مصراوي.. مذكرة احتجاج الأهلي.. تصريحات مدرب الزمالك.. وفوز الأحمر المثير    جهاز مدينة 6 أكتوبر ينفذ حملة إشغالات مكبرة بالحي السادس    يا مرحب بالعيد.. كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024    أستاذ لغات وترجمة: إسرائيل تستخدم أفكارا مثلية خلال الرسوم المتحركة للأطفال    اعرف سعره في السوق السوداء والبنوك الرسمية.. بكم الدولار اليوم؟    خطأ هالة وهند.. إسلام بحيري: تصيد لا يؤثر فينا.. هل الحل نمشي وراء الغوغاء!    أرخص السيارات العائلية في مصر 2024    أطول عطلة رسمية.. عدد أيام إجازة عيد الاضحى 2024 ووقفة عرفات للموظفين في مصر    حبس سائق السيارة النقل المتسبب في حادث الطريق الدائري 4 أيام على ذمة التحقيقات    "أشرب سوائل بكثرة" هيئة الأرصاد الجوية تحذر بشأن حالة الطقس غدا الأحد 12 مايو 2024    بعيداً عن شربها.. تعرف على استخدامات القهوة المختلفة    حظك اليوم برج العذراء الأحد 12-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «التعليم» تعلن حاجتها لتعيين أكثر من 18 ألف معلم بجميع المحافظات (الشروط والمستندات المطلوبة)    4 قضايا تلاحق "مجدي شطة".. ومحاميه: جاري التصالح (فيديو)    علي الدين هلال: الحرب من أصعب القرارات وهي فكرة متأخرة نلجأ لها حال التهديد المباشر للأمن المصري    خلال تدشين كنيسة الرحاب.. البابا تواضروس يكرم هشام طلعت مصطفى    وزارة الأوقاف تقرر منع تصوير الجنازات داخل وخارج المساجد    تيسيرًا على الوافدين.. «الإسكندرية الأزهرية» تستحدث نظام الاستمارة الإلكترونية للطلاب    رمضان عبد المعز: لن يهلك مع الدعاء أحد والله لا يتخلى عن عباده    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملاك الصغير التى أشعلت حربا!
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 02 - 2016

هذه صفحات مجهولة من صفحات الاهرام عبر مشوار صحفى طوله نصف قرن من الزمان.. للاجيال الصحفية التى تبشر بخير كثير من رحلة وتعلم والمعاناه وحب مصر
تعالوا نخرج عن دائرة العقل وهمومه.. وندخل دائرة الوجدان وعالمه السحري الذي يطير بنا علي جناح الجمال.. إلي دنيا الرحمة والسكينة والشجن.. بعيدا بعيدا عن دخان صراع الأشقاء والفرقاء ورفاق الوطن الواحد والرغيف الواحد والهم الواحد.. والاعيب ومكائد ومصائد الموت التى تنصبها للابرياء وحدهم شياطين الارهاب الاسود.. واعتي تلك الجماعات الشيطانية التى تعيث في كل بلاد الدنيا فسادا وقتلا وفجورا!
لنذهب معا لكي نحتضن هذا الوجه الملائكي الذي يفيض براءة وطهرا وعذوبة والذى لن أنساه ما حييت، والذي كان لقائي معه غريبا ومثيرا.. فقد اتصل بي الزميل العزيز طيب القلب مرح الكلمات سمير السروجي، وقال لي ذات ليلة شديدة السواد والظلمة: أنا بكلمك من محطة مصر..
سألته: إيه يا عم سمير.. تكلمني من محطة مصر في هذه الساعة..نحن نقترب من منتصف الليل؟
قال لي: يا ريس لهذا أحدثك فالأمر يحتاجك أنت أرجوك تعال.. لأن ما أراه أمامي يستحق قلمك أنت؟
لبست أي حاجة وركبت سيارتي الفولكس البيضاء أيامها وطيران علي محطة مصر.
ولأنهم لم يكونوا قد اخترعوا الموبايلات بعد.. فقد بحثت عن المزعج الظريف سمير السروجي في كل مكان في بوفيه محطة مصر الشهير ثم علي كل الأرصفة حتي عثرت عليه جالسا شبه نائم علي احدي الكنبات الخشبية علي رصيف نمرة أربعة.
من بعيد صحت فيه: إيه يا عم سمير جايبني ليه علي ملا وشي في انصاص الليالي؟
قال لي: تعالي يا ريس وتأمل هذا الجمال البرئ النائم؟
نظرت وانبهرت وتأملت وتسمرت مكاني وليس علي لساني إلا عبارة واحدة: يا سبحان الله.. جبتها منين دي يا عم سمير؟
قال: أنا ما جبتهاش.. أنا لقيتها هنا نايمة علي الكنبة الخشب دي في محطة مصر.. قلت لازم أنت تيجي وتشوف المنظر ده بنفسك!
اسمحوا لي ان أحكي لكم ما رأيته ليلتها.. طفلة سبحان الخالق فيما خلق وفيما صور لا يتجاوز عمرها السنوات الخمس أو الست غارقة وحدها في نوم عميق وتتدلي من شعر رأسها ضفيرتان كل ضفيرة تنتهي بوردة حمراء.
ولأن الجمال له أوامر تطاع فقد تسمرت في مكاني وقلت لعمنا سمير صاحب المفاجأة: مين دي يا عم سمير وجبتها منين وإيه حكايتها؟
قال: لا حكاية ولا رواية أنا لقيتها كده نايمة علي الكنبة.. قلت اندهلك قبل ما تصحي عشان تشوف الجمال ده كله والبراءة دي كلها.
قلت له: دي بالظبط صورة طبق الأصل من لوحة رامبرانت الرسام الهولندي الشهير التي شاهدتها تحت اسم: الملاك الصغير في متحف المتروبوليتان في نيويورك.
قال لي ضاحكا: طيب خللي عمنا رامبرانت يصحيها كده.
قلت له: ونجيب منين دلوقتي عمك رامبرانت اللي رسم اللوحة في القرن الثامن عشر.
قال لي:حضرتك صحيها انت بنفسك؟
......................
......................
قام بإيقاظ الملاك الصغير صفير قطار دخل محطة مصر في غفلة منا ولكنها قامت من غفوتها منتحبة باكية.
قلت لها: إيه ماتعيطيش يا شاطرة انت إيه اللي جايبك هنا في الساعة دي؟
تلفتت حولها كمن تبحث عن طوق نجاة وسط خضم غابة اسمها القاهرة علي ناصيتها غول اسمه محطة مصر وقالت: أمال فين خالتي سقساقة؟
يسألها سمير السروجي: مين يا حبيبتي خالتك سقساقة دي؟
قالت الملاك الصغير في كلمات متثائبة متقطعة من فمها الصغير: دي خالتي سقساقة جابتني هنا.. وقالتلي اوعي تتحركي لحد أما أجيلك..
أسألها: وهي خالتك بصحيح؟
قالت في براءة: هي موش خالتي ولا حاجة.. هي جارتنا بس.
يسألها سمير السروجي: أمال فين أبوكي وفين أمك؟
قالت: أنا أمي ماتت وهي بتولدني وأبويا اتجوز واحدة تانية كانت بتضربني وبتشغلني في البيت.. أكنس وأمسح وأغسل وأجيب طلبات من الشارع..
عم سمير يكمل: قامت الست سقساقة دي قالتلك: تعالي معايا مصر نهرب من بوز الإخص مرات أبوكي دي.. قمتي صدقتيها وجيتي معاها موش كده؟
قالت الصغيرة في خوف: أيوه.. لكن راحت فين خالتي سقساقة دي؟
.....................
.....................
لم يكن ممكنا أبدا.. أن نترك هذا الملاك الصغير وحده وسط غابة لا ترحم اسمها محطة مصر بعد منتصف الليل.. قلت لعمنا سمير: موش ممكن نسيب السنيورة الصغيرة دي هنا لوحدها.. دول كانوا يخطفوها ويودوها فين.. ربنا وحده اللي يعلم!
يسألني: والحل نبلغ البوليس!
قلت له: موش وقته واحنا كمان موش ناقصين سين وجيم!
قال: هناخدها فين دلوقتي بس؟
قلت: عندك يا عم سمير.. بنت غلبانة لقيناها في محطة مصر.. تبات عندك للصبح بس.. وبعدها لها ألف حلال!
قال وهو يرفع الصغيرة فوق كتفيه.. كل قدم تتدلي من فوق صدره من اليمين والشمال: دي المدام عندي لو شافتها كانت تقفع بالصوت وتلم علينا الجيران.. وجيران الجيران!
ونحن نركب عربتي الفلوكس البيضاء في فناء محطة مصر.. سألت السنيورة: انتي اسمك إيه يا حلوة؟
قالت: غالية..
سألتها: وأبوكي اسمه إيه؟
قالت : مغاوري تاجر الحمص والحلاوة في طنطا قدام مقام السيد البدوي بالضبط..
قلت لعمنا سمير: مادام انت موش حتاخد البنت عندك.. أنا ياسيدي حاخدها عندي أنا.. واللي يحصل يحصل بقي.. حنسيب البنت القمر دي لوحدها في محطة مصر.. بس حضرتك كده من النجمة تسافر علي طنطا.. وتسأل علي عمك المعلم مغاوري وتجيبه في إيدك في القطر.. عشان ياخد بنته!
.....................
.....................
لم يكن مشهدا في فيلم سينمائي من أفلام الميلودراما الثقيلة التي تخصص فيها صديقنا العزيز مخرج الروائع حسن الإمام.. هذا الذي أعيشه الآن لا ممثلا في مشهد سينمائي.. بل واقعا وحقيقة.. زوج اللي هو أنا يدخل علي زوجته ورفيقة عمره في الثانية بعد منتصف الليل.. وهو ممسك بيده طفلة أمورة كما الملاك الطاهر في لوحة المبدع العالمي رامبرانت.. لتستقبله الزوجة السهرانة الشقيانة في انتظار تشريف الباشا اللي هو أنا لكي تتناول معه طعام العشاء.. ليكحل عينيها المتعبتين بطفلة صغيرة ذات ضفائر.. تمسك بيد زوجها المصون في انصاف الليالي!
دخلت من باب الشقة في خطوات ثقيلة وأنا أقول للأمورة الصغيرة: سلمي يا غالية علي تانت!
قبل أن تنطق الصغيرة بكلمة سألتني زوجتي بحزم وعزم: مين يا طويل العمر اللي ماسكها في ايدك دى .. وداخل بيها عليا بعد نص الليل.. تكونش بنتك وكنت مخبيها عند الجيران؟
آه.. هنا وقع المحظور.. ولكن الصغيرة لم تصبر.. تولت هي مهمة الرد: أنا موش بنته.. أنا بنت عم مغاوري بياع الحمص و الحلاوة عند مقام السيد البدوي!
رفعت زوجتي العزيزة عينيها إلي ّ وكأنها تراني لأول مرة في حياتها وقالت: وكمان محفظ البنت الكلام الفارغ ده!
قلت لها: أصل زميلنا سمير السروجي ما انتى عارفاه.. لقاها في محطة مصر..!
قالت: هي الحكاية كمان فيها سمير السروجي يبقي كملت!
تنظر إلي بعيون قلقة وتقول: هاتلي صاحبك اللي اسمه سمير السروجي ده علي التليفون حالا دلوقتى.. أنا ليا كلام معاه؟.. ولا أقولك أنا حاطلبه أنا!
ودوغري.. لم تمض دقيقة واحدة.. حتي كان الاثنان يتحدثان معا..
سمير علي الطرف الآخر يتحدث وزوجتي العزيزة لا تنطق إلا بكلمات.. يا خبر.. وبعدين.. يعني لقتوها صحيح في محطة مصر.. وحضرتك حتروح بكرة طنطا تدور علي أبوها.. والله كتر خيركم.. عملتم حاجة تتحسب لكم عند ربنا.. تصبح علي خير،، سلم علي المدام!
.................
.................
تبدلت في لحظات نظرات زوجتي العزيزة.. وكل أحاسيسها من غربة إلي نظرات حب وعطف وحنو بالغين.. واخذت الأمورة الصغيرة التي كانت تقف مرتعدة خائفة إلي جواري.. في حضنها وهات يا قبلات.. وهي تقول لها: يا خبر يا حبيبتي.. لقوكي نايمة لوحدك علي دكة خشب في محطة مصر بالليل.. آمال فين أهلك .. ومين اللي سابك في المحطة؟
ردت الصغيرة وقد عاد اللون الأحمر إلي خدودها: خالتي سقساقة جارتنا في طنطا.. قالتلي تعالي معايا يا ضنايا مصر.. بدل البهدلة اللي انتي عايشاها مع مرات أبوكي فى طنطا!
صحت ابنتنا جيهان وكانت وقتها تقريبا في مثل عمر «غالية» الهاربة من جحيم مرات الأب.. وشاهدت أمها تحتضن طفلة غيرها.. سألت في ريبة: مين دي يا ماما؟
قالت زوجتي: دي يا حبيبتي ضيفة عندنا الليلة دي.. سلمي عليها..
تسأل جيهان: اسمك ايه يا شاطرة؟
قالت الصغيرة: أنا اسمي غالية.
قالت لها جيهان: تعالي نلعب سوا بالعرايس بتاعتي في اودتي!
تسأل زوجتي الطفلة الهاربة: تلاقيقي ماكلتيش من امبارح؟
قالت الاروبة الصغيرة: مافيش غير سميطة وحتة جبنة من امبارح العصر!
أعدت زوجي بسرعة البرق مائدة سريعة للضيفة الصغيرة التي جاءتنا علي غير موعد.. وجلست معها ابنتنا جيهان.. يأكلان معا..
وقبل أن تنام الصغيرة اخذتها زوجتي إلي الحمام وانزلتها في البانيو.. لتأخذ حماما ساخنا حقيقيا.. وألبستها بيجامة »من بتوع جيهان«.. وحملتها إلي السرير.. لتنام إلي جوار ابنتنا حتي الصباح.. سبحان مغير الأحوال!
................
................
ولكن في الصباح.. كانت المفاجأة التي لم تخطر علي بال..
تليفون المنزل لا يتوقف عن الرنين.. رفعت زوجتي السماعة لتجد زوجة عمنا سمير السروجي علي الخط.. التي قالت لها بصوت عال سمعه القاصي والداني: انتي برضه حضرتك صدقتي اللعبة اللي عاوزين الاثنين يلعبوها علينا.. سمير باشا وعزت بيه..
استنيني .. أنا جايالك في السكة!
لم أشأ أن أحضر اجتماع مجلس الحرب الحريمى الي سوف ينعقد في منزلي.. فرجل واحد اللي هو أنا بين سيدتين عجنتهما الأيام وخبزتهما اللي هما زوجتي والعزيزة وزوجة عم سمير العزيزة برضه سوف يخسر في النهاية سواء رضي أو لم يرض.. وخصوصا إذا كان في الحكاية بنت زي القمر.. عثرنا عليها نائمة وحدها علي دكة خشبية في محطة مصر!
ركبت عربتي الفولكس البيضاء إلي الجريدة الموقرة وأنا أرسم في طريقي سيناريوهات أحداث ما سوف يحدث في منزلي عندما تصل زوجة العزيز الغالي سمير السروجي.. في غيابي وفي غياب عمنا سمير.. وفي حضور دليل اتهامنا الوحيد في نظرهما الذي اسمه الملاك الصغير الذي عثرنا عليه في محطة مصر في ليلة حالكة السواد!
وجاءنى أول تليفون من زوجتي العزيزة بعد نحو ساعتين من خروجي.. قالت زوجتي: مافيش حاجة.. بس احنا مستنيين سمير باشا لما يرجع من طنطا بالخبر اليقين!
قلت لها: الحمد لله.. إنه سافر.. وهو زي ما أنا عارفه حيرجع بالخبر اليقين!
قالت: لما نشوف.. حيرجع ومعاه المعلم أبوشنب بتاعكوا ده أبوالبنت.. واللا حيرجع كده إيد ورا وإيد قدام..!
سألتها: يعني إيه؟
قالت: يعني يرجع وإيده فاضية.. لا معلم مغاوري ولا يحزنون.. وتبقي زي مدام سمير ما بتقول اتطربقت علي دماغكم انتم الاتنين.. وأدي احنا قاعدين مستنيين وحاطين ايدينا علي خدودنا!
......................
......................
لا أعرف كم مضي من الوقت.. وهاجس الملاك الصغير يؤرق فكري ويلعب بعقلي ويتلاعب بوجداني.. مشفقا علي الملائكة عندما تدخل دائرة شكوك وخيالات الزوجات ونكدهن الأزلي.. حتي وجدت عمنا سمير يحدثني في تليفون مكتبي وقد جاوزت الساعة الرابعة بعد الظهر.. ويقول لي: انزل بقي حضرتك.. انت جننتني في عيشتي.. أنا تحت لسه جاي من طنطا.. ومعايا عمك مغاوري بنفسه.. جبتهولك معايا من قلب دكانه قدام المقام!
علي الفور أخبرت زوجتي بالخبر اليقين وطلبت منها أن تأتي وحرم سمير باشا وابنتنا جيهان فورا.. ونزلت لفوري جريا علي السلم.. وأخذت عم مغاوري بالأحضان وقلت له: حد في الدنيا يسيب بنته ضناه تسافر مصر مع واحدة غريبة اسمها سقساقة؟
قال: هي ضحكت علي البنت الصغيرة..
قاطعته بقوله: البنت قالتلي إنها هربت معاها عشان مرات أبوها.. مراتك التانية بتعاملها وحش خالص!
قال: إزاي الكلام ده.. ماعنديش علم وحياتك!
دعوني أصف لكم عم مغاوري هذا.. هو في حدود الأربعين من عمره صاحب شنب مبروم أسود كثيف الشعر.. يرتدي لاسة وجلابية وطاقية شبيكة.. ويمسك بعصا خشبية سوداء اللون في يده..
انفتح الباب الزجاجي ل »الأهرام« فجأة.. ودخلت العائلة الكريمة.. وبينما انشغلت الزوجتان بالسلام علي عم مغاوري.. وتلقينه ما تيسر من تأنيب الكلمات.. أخذت الملاك الصغير ركنا بعيدا وحدها »وهات يا عياط«.. راح لها أبوها.. ولكنها نفرت منه واختبأت خلف كرسي أسود كبير.. قالت له زوجتي: بنتك زعلانك منك يا عم مغاوري ويمكن من مراتك أكثر!
قال عم مغاوري وهو يركع أمام ابنته ويحاول أن يضمها إلي صدره دون جدوي: أنا عارف انتي زعلانة من إيه.. وهربتي ليه من البيت.. لكن معلهش.. كل شيء يتصلح!
................
................
أصرت الزوجتان أن نصحب الملاك الصغير إلي محل شيكوريل أيامها لكي تشتري لها بعضا من الملابس والهدايا..
أراد عمنا سمير أن ينسحب.. بحجة أن عنده شغل.. لكن زوجته الدكتورة سحبته من يده وقالت له: شغل إيه يا عم سمير.. انت خايف من المصاريف.. انت حتكنزهم علي قلبك لحد إمتي.. فكها يا راجل!
ذهبنا كلنا.. وفي شيكوريل ايام عزه ومجده.. راحت الزوجتان تتسابقان لاختبار أجمل الملابس والتي شيرتات والفساتين الملونة والأحذية.. للملاك الصغير ومعها ابنتنا الصغيرة جيهان التي في مثل عمرها وحجمها.. حتي إن البائعة الجميلة المبتسمة دائما سألتني: دول بناتك؟
قلت لها: لا.. اللي علي اليمين بنتي!
قالت: دول الاتنين الخالق الناطق زي بعض تمام.. حتي في المقاسات.. دول لازم اخوات موش كده؟
قالت زوجتي وقد عاد الفأر اللعين يلعب في صدرها: قلنا الكلام ده قبل كده ماحدش صدقنا!
قالت الدكتورة حرم عمنا سمير: لا يا شيخة هما شبه بعض صحيح.. لكن البنت الطنطاوية علي أسمر شوية!
قالت زوجتي بمكر: يمكن طالعة لأمها!
قلت بشخطة: ما تسيبكوا بقي من الكلام اللي لا يودي ولا يجيب ده.. نجيب لكم أمها منين دلوقتي.. دي عند رب كريم!
.....................
.....................
ودعنا غالية التي ركبت القطار.. ونحن وقوف علي رصيف محطة مصر.. وقفت في شباك الديوان مع أبيها المعلم مغاوري.. بكت غالية داخل القطار.. وبكت ابنتنا جيهان علي الرصيف.. وهما تلوحان بأيديهما لبعضهما حتي اختفي القطار تماما عن الأنظار.. وبدأت الدموع تنساب من عيون زوجتي وهي تقول لي ونحن نغادر محطة مصر: البنت صعبانة عليا قوي.. انت أخذت عنوانهم في طنطا.. الجمعة الجاية ناخد معانا حاجة حلوة للبنت ونروح نزورهم.. لكن المرة دي رجلي علي رجلك.. من غير سمير السروجي!
.......................
.......................
في الصباح.. والكل بعد رايح في سابع نومة بعد جهاد وخناق ودموع ووداع حاد ساخن للطفلة الغالية وهي حقا «غالية» اسما ورسما وحقيقة.. ونحن بين الحقيقة والحلم.. إذا بجرس التليفون يدق دقا متواصلا..
الكل الغارق في التعب من رحلة وداع الصغيرة التي أيقظت فينا كلنا مشاعر الحب والخوف والرحمة والتآلف.. وفى انتظار من رفع سماعة التليفون ويرد علي الطرف الآخر الذي مازال علي حاله في إنتظر من يرفع السماعة.. ويرد علي الرنين المتواصل ويسكته بوضع السماعة علي أذنه، ولأن المرأة أكثر مخلوقات الأرض إحساسا بما يجري وما سيجري من خلال رادار إلهي وضعه الخالق داخل حنايا وخبايا صدر المرأة.. رفعت زوجتي السماعة ونطقت بكلمة: ألو.. مين؟
قال المتحدث بصوت قلق جائر مضطرب: الحقي ياست هانم.. غالية صحينا الصبح مالقيناهاش في أوديتها.. البنت لمت هدومها واحنا نايمين وطفشت.. ياتري ماجاتش عندكم؟
صحيت لوحدي علي الهيصة والزيطة والزمبليطة وصراخ زوجتي وهي تمسك سماعة التليفون بكلمات مجنونة وعصبية: بتقول إيه ياراجل إنت.. إحنا مسلمين لك البنت لسه ساغ سليم.. أيه شغل الترللي ده.. تكون راحت فين يعني؟
الطرف الآخر تخمينا مني وأنا قد استيقظت بالفعل وجلست في سريري: تكونشي جت عندكم.. يعني قلت عقلها كده وطفشت تاني؟
نزعت سماعة التليفون انتراعا من يد زوجتي الحائرة وقلت للطرف الآخر: مين بيتكلم أبو غالية.. البنت انتم موش مستلمينها ساع سليم تسليم مفتاح ياراجل.. روح دور علي بنتك.. هي ماجاتش عندنا..
من غيظي ومن «فرستي» وهي كلمة عامية تعني من غيظي ومن نكدي وضعت السماعة بعنف وأنا أنفخ وأبرطم بكلمات غير مفهومة.. ولكنها كلها تعني كم أنا حزين.. وكم أنا مغتاظ بالبلدي متغاظ وكم أنا مفروس وحاطلع من هدومي؟!
اعدت وضع السماعة.. حتي سمعنا طرقا متواصلا علي باب الشقة.. طرقا عنيفا.. وفي وقت واحد قلت أنا وزوجتي: إيه تكونش البنت غالية هي اللي بتخبط؟
قفزت زوجتي من سريرها.. عدوا إلي باب الشقة وأنا في سريري مازلت في انتظار الخبر اليقين.. وأنا أكاد أشعر به في داخلي..
جاءني صوت صراخ وعناق وبكاء.. وصوت أحضان وقبلات وكلمات علي لسان زوجتي: معقولة.. إنتي ياغالية.. وعرفتي تيجي إزاي لوحدك.. ومين اللي جابك؟
صوت غالية في كلمات باكية: أنا هربت من البيت ومعايا خالتي سقساقة.. هي اللي جابتني.. عشان أنا عاوزة كده.. ياماما سلوي تنادي زوجتي أنا موش حارجع طنطا تاني.. أنا ماقدرش أعيش مع مرات أب تاني، خدوني عندكم ياماما سلوي، انتي مانتش عارفة هي بتعمل فيا إيه واحنا لوحدينا في البيت.. ولما انتم سيبتونا وسافرتم مصر.. بصت علي كده بعين رضيّة كلمة عامية تعني شعور غير طيب وقالتلي: حاتشوفي ياغالية اللي ماشفتهوش في حياتك.. حاشغلك خدامة بلقمتها.. ولو نطقتي وقلتي لابوكي.. هاقطع لسانك بسكين المطبخ!
صوت زوجتي بالحنان كله: ياه كل ده.. انتي ياغالية حتبقي معانا هنا علي طول.. بس أما نشوف أبوكي كده!
استيقظت ابنتنا جيهان علي صوت الهيصة «والدربوكة» التي صنعتها قدوم الصغيرة غالية!

فتحنا باب الشقة.. لنجد الخالة سقساقة التي جاءت بغالية أول مرة إلي القاهرة.. وها هي تعود بها مرة أخري..
بمجرد ان فتحت الباب.. شهقت سقساقة بصوت عال: الحمد لله..
سألناها: جبتي غالية ازاي؟
قالت: هي اللي عارفة السكة.. والنبي ماترجعوش البنت طنطا تاني؟
سألناها: فيه غولة في طنطا اسمها مرات أبوها.. لو رجعت لها المرة دي حاتاكلها أكل!
من دون كلام أو سلام.. رفعت سماعة التليفون وطلبت والد غالية وقلت له: غالية عندنا ياعم مغاوري..
يسألني بصوت عالي: هي العفريتة دي رجعت لكم تاني؟
قلت له: بقولك إيه.. البنت حتفضل عندنا.. وماتجيش احنا بعد كام يوم كده حاكالمك وأقولك.. إيه الحل.. وعلي فكرة غالية دي بنتنا زي ماهي بنتك.. وكام يوم كده وأقولك غالية حترجعلك.. واللا لسه بدري علي رجوعها.. وربنا يعينك علي اللي عندك؟
أنتم تسألون: هل رجعلت غالية.. أم بقيت في حضن الحنان والحب والقلب الطيب.؟

ولكن في الصباح الباكر وغالية وجيهان ابنتنا نائمتان في سرير واحد.. نظرت إلي زوجتي بريبة وقالت: تكونشي غالية بنتك بحق وحقيق وكل اللي بيجري قدامنا ده تمثيل في تمثيل؟
امسكت بضرفة الدولاب . حتى لا اسقط مغشيا على.. ولكنني تمالكت نفسي.. وجلست صامتا صمت ابوالهول فى زمانه وليس علي لساني الا كلمة واحدة.. تانى!
ولكن ذلك حكاية أخري{
لمزيد من مقالات عزت السعدنى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.