تتواتر مفردة التجديد فى الخطابات اليومية للدولة المصرية بمؤسساتها المختلفة فى الآونة الأخيرة على نحو بارز، إلا أن المحصلة المرجوة لاتنبىء عن رهان حقيقى فى اتجاه التطور المنشود، وإن ظل استعادة مفهوم التجديد دافعا لأسئلة عدة تتعلق ببنية المجتمع المصرى ذاته، وتحولاته السياسية والثقافية، وتأثيراتها على الأنساق القيمية والإنسانية الحاضرة داخله. ثمة ظلال يحملها مفهوم التجديد فى الفكر الإنسانى بتنويعاته المختلفة، فالتجديد فى الاصطلاح اللغوى يحيل إلى الإتيان بما ليس مألوفا أو شائعا، إنه إذن حالة من الابتكار تتجاوز المعنى الجامد والجاهز، كما يعنى أيضا فى المستوى القاموسى إعادة النظر فى الموضوعات الرائجة ، وإدخال تعديل عليها بحيث تبدو مبتكرة لدى المتلقي»، وبما يعنى أن التجديد يعنى المراجعة النقدية لما هو قائم. ويمثل التجديد الفكرى هاجسا رئيسيا لأى أمة تتجه صوب المستقبل، فثمة جدل خلاق ما بين التغيير والتجديد، على اعتبار أن التغيير آلية من آليات التجديد، وسابقة عليه ودافعة إليه فى آن، وصولا إلى التطور المنشود، الذى يعكس تحولا حقيقيا فى بنية الوعى والثقافة والأفكار فى الفضاء العام المحيط بأى جماعة بشرية. غير أن الإغراق فى المماحكات النظرية حول المفاهيم والاصطلاحات لن يجرنا سوى للمزيد من الرطان حول فكرة متعينة بالفعل، ونحن بحاجة إلى إعادة قراءتها من جديد، وهذا ما يجب أن نصنعه الآن. ثمة اشتراطات تاريخية وحضارية تعد بمنزلة المهاد النظرى لفكرة التجديد، تمثل الحرية جوهرها، وفضاءها الرحب الوسيع، فالحرية شرط التجديد، والحرية هنا مفهوم مركب يحوى جملة من الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، ومن ثم يحمل سؤال التجديد دوما تصورا إصلاحيا للعالم، ولذا فإن مفهومى التجديد والإصلاح يشتركان فى مدلولات عدة، ويحملان جوهرا مشتركا، لكن يبقى السؤال المركزى فى رأيي: هل فى ظل عوالم تتحرك بسرعة لا نهائية نحو غد لم تعرفه مجتمعاتنا العربية والعالمثالثية بعد، هل يمكن للتجديد وحده وفق التصور الإصلاحى بما يحويه فى جوهره من محاولة رتق للقديم، وإعادة تعديل مساراته، وتصويبه قدر الإمكان فحسب، هل يمكن وفق هذه التصورات شبه الجاهزة أن نلحق بعالم بالغ التعقد والتحول والتشابك؟ هذا السؤال يجب أن يكون سؤال اللحظة الراهنة بامتياز، فالولع اللفظى الذى صاحب آراء كثير من النخب بمفردة التجديد، وكأنها حل سحرى لمشكلات متمترسة فى الذهنية العربية، وفى الأفق الحضارى ذاته، جعلنا نسير وفق خطوات تتعثر أكثر مما تتقدم، وفى أفضل الافتراضات الممكنة ستظل حالة المراوحة المكانية هى الغالبة، فضلا عن استعادة كل صيغ الجمود والنكوص والارتداد، وبما يعنى غلقا لآفاق التخطى والتحول والتطور، وهذا عين ما نعانيه الآن، وجوهر مأساتنا الفكرية. يحتاج التجديد الحقيقى لأفق ثرى من الحرية، فلا حجر على رأي، ولا مصادرة لكتاب إبداعى أو فني، ولا قيد على فكر يسائل لحظته الحضارية، أما ما نشهده بين الحين والآخر من تهم جاهزة تلاحق المبدعين، ومصادرات تطال الكتب والأعمال الفنية، فليس له أى محل من الإعراب فى سياق تحررى ينهض على الدفع بالراهن المعيش صوب حياة يستحقها جملة الحالمين المقموعين ممن صنعوا ثورتين مجيدتين فى غضون ثلاث سنوات فى يناير 2011، ويونيو 2013. إن الحرية إذن جناح التجديد الرئيسى المحلق والوحيد، غير أن فكرة التجديد ذاتها بحاجة إلى تثوير من نوع مختلف، فالإصلاح الذى يرتبط بالتجديد على نحو مماثل، بدا منتميا لأزمنة قديمة نسبيا بالمقارنة بعالم وسياق يتحرك بسرعة لا نهائية. نحتاج إذن وباختصار شديد فى لحظتنا الراهنة المسكونة بعشرات الأسئلة إلى مساءلة علمية لواقعنا المصرى والعربي، والمساءلة تقتضى تثوير الوعى وتنويره تنويرا حقيقيا متعينا، وليس كرنفاليا يعتمد على المظهر الصاخب أكثر مما يعتمد على القيمة، يتكئ على تقديم العوارض أكثر من احتفائه بالجواهر. فإذا كان التجديد يفضى إلى الإصلاح، فإن المساءلة وتثوير الوعى سيفضيان إلى التقدم، وليس ثمة مانع على الإطلاق فى أن نصل ما بينهما، غير أننا يجب أن نكون مدركين تماما، أن المخرج الحقيقى لأزماتنا الراهنة سيتمثل فى مراجعة ما كان، ووضعه موضع المساءلة الدائمة، وخلق بيئة علمية وثقافية ومعرفية حرة ومسكونة باشتراطات الأمل فى غد أكثر نبلا وإنسانية. وهذا جميعه يقتضى أيضا استعادة مفهوم الحرية بتنويعاته الدلالية المختلفة، حيث يصبح توفير بيئة صحية آمنة للجماهير مسألة حيوية، ويصبح بناء سياق تعليمى جديد ومختلف فريضة واجبة، ويصبح خلق مناخ من العدالة الاجتماعية الواجبة حتمية تفرضها اللحظة التاريخية، ومن ثم يصبح العيش الكريم قرينا للحرية وابنا لها فى الآن نفسه. يتبقى شيء بالغ الأهمية يتعلق بهذا الفضاء العام الذى يجب أن يتحرر من سطوة الموروث المؤرق بالدماء التى سالت عبر قرون من التشدد الدينى والتطرف والاستبداد، والنظر الأعمى الأحادى للعالم والأشياء، فمناخات الكراهية والتعصب الدينى الحاضرة فى اللاوعى الجمعى لدى قطاعات كثيرة تحتاج الآن وليس بعد قليل علاجا جذريا فاعلا تبدأ فيه الدولة المصرية فى استنهاض قوتها الناعمة بحق، وبما يعنى حتمية الحضور الفاعل لمؤسسات ثقافية وعلمية ترهلت فى الأربعين عاما الأخيرة، وظلت وفية للأسف لكل الصيغ التقليدية بخيالها البليد، وبما يعنى أن ثمة شيئا لن يتغير مادام بقى العقل العام منصرفا عن تجديد أدواته، ومساءلة واقعه، واستشراف لحظته المستقبلية. وبعد.. فى لحظة مفصلية وفارقة يعيشها العالم، أصبح فيها القتل على الهوية يتزايد، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة تتسارع وتيرته لدى من يحسبون أنفسهم وكلاء السماء، وفى ظل حالة من الارتباك السياسى والتأزم الاقتصادى والتناقضات الاجتماعية العارمة فى الداخل العربي، ليس من سبيل سوى بلورة خطاب سياسي/ ثقافى جديد بحق، مختلف فى بنياته وتفاصيله ومراميه، يوازيه فعل على الأرض، حتى لا يصبح من قبيل الرطان المختلف، وبذلك يصبح التجديد ذاته سؤالا للأمة نفسها، والحرية شرطا للوجود، والمساءلة وسيلة مركزية لبلوغ التطور المنشود. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله