تبدو الثورة المصرية فى نزوعها نحو الاستقلال الوطني، مشغولة الآن - وأكثر من أى وقت مضى- بالخروج من أسر التبعية الأمريكية التى كرست لها السياسات الرأسمالية والثقافية طيلة الأعوام الأربعين الماضية، وبدءا من العام 1974م على وجه التحديد «عام الانفتاح الاقتصادى فى مصر». وبما يعنى أن استعادة التماس مع «الصديق الروسي» إشارة بالغة الدلالة فى هذا السياق، تفرضها معطيات سياسية وثقافية راهنة، تستبعد فكرة التابع والمتبوع التى درجت عليها السياسة/ الثقافة المصرية طيلة الفترة الماضية، وتنطلق من تفاعل ندى سياسي/ ثقافى حقيقى بين الأمتين المصرية والروسية، تصبح أساسا مركزيا للعلاقة بينهما، وبما يعنى أننا أمام جدل خلاق بين سياقين تجمعهما صيغ مشتركة فى رؤية العالم، والتعاطى معه على نحو أكثر عدلا وإنسانية، يعزز ذلك غياب التاريخ الاستعمارى البغيض للروس مقارنة بقوى الاستعمار فى العالم قديمه وحديثه، كما أن ثمة أفقا منفتحا على شراكة وصداقة، وليس تبعية ودوران فى الفلك أى فلك-، ومن ثم يبدو الحراك المصرى الأخير صوب روسيا حراكا صوب التاريخ المشترك، وعلاقات الشراكة الحقيقية لا التبعية التعسة. على أنه يجب أن تصبح مجاوزة حالة التبعية للآخر الاستعمارى الغربى وتحديدا الأمريكي، مجاوزة ثقافية فى الآن نفسه- لحالة التبعية الذهنية للمركز «الأورو- أمريكي» فى إنتاج الأفكار، وصولا إلى صيغة تخصنا نحن، بنت ناسنا، وحيواتنا، وتماسنا مع المنجز الجديد فى العالم. وتتجادل الثقافتان المصرية والروسية على مسارات متعددة، لعل فى مقدمتها تأثيرات الأدب الروسى الذى كتبه مبدعون فارقون من أمثال جوجول - الذى أطلق دوستويفسكى بشأنه مقولته التى أصبحت مثلا سائرا: «كلنا خرجنا من (معطف) جوجول»، وتشيكوف، ودوستويفسكي، وتورجنيف، وجوركي، وغيرهم، ولعل النظر مثلا إلى نصوص الشاعر والروائى الروسى الشهير الكسندر بوشكين تكشف عن تماساته مع الثقافة العربية وجدله معها، ويظل تكريس الكتاب الروس لفكرة «العدالة» أثرا مهما من آثارهم فى الكتابة فى العالم، واحتفائهم بالجدارة الإنسانية المتنامية، وقدرتها على مجابهة الظلم الاجتماعي، والاستبداد السياسى والديني. وبما يعنى أن أى نظرة موضوعية لحضور الثقافة الروسية وأدبها ستجد زخما هائلا يتجلى فى انحيازات أيديولوجية واضحة صوب المهمشين والبسطاء من الطبقات الفقيرة والممثلة للسواد الأعظم من الجماهير، ويمكن أن نلمح أثرا للأدب الروسى فى كتابات عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس مرورا ببعض كتاب جيل الستينيات، ووصولا إلى روائيين منتمين إلى جيل السبعينيات فى الرواية المصرية مثل فتحى إمبابى على سبيل المثال. وربما يبدو العالم الأدبى مدينا للأدب الروسى بالتكريس للمذهب الواقعى فى الكتابة بتجلياته وتنويعاته المختلفة، وتعاطيه مع الواقع بمختلف صنوفه وأشكاله، وبحيث يمكنك أن تستكشف مراحل تطور الكتابة الواقعية فى العالم من خلال الأدب الروسى ذاته، بدءا من التعامل الآلي/ الميكانيكي، وفقا لنظرية الانعكاس القديمة التى ترى أن الكاتب ينقل الواقع نقلا مرآويا مباشرا، ومرورا إلى تلك «المرآة الموضوعة بزاوية معينة»، وبما يعنى فتح إمكانات التخييل، وتعدد زوايا النظر، أو جهدهم حول الواقعية الاشتراكية التى أخطأت كثيرا حين سعت لإيجاد حلول بدلا من الاكتفاء بوضع الأسئلة، مع أن الأدب نفسه سؤال مفتوح على الواقع والحرية، ومساءلة دائمة للقمع والاستبداد، ووصولا إلى النماذج الأدبية السامقة التى تتجاوز كل هذه الطروح القديمة بحيوية نصوصها وتنوعها الخلاق، والتى تعاملت مع الواقع بوصفه مادة خاما قابلة للتطويع والتشكيل، وأنه يحيا دائما حالة من الجدل بينه وبين الذات الإنسانية. وربما تبرز أعمال أنطون تشيكوف ودوستويفسكى بوصفهما نموذجين معبرين عن التنوع والاختلاف «القيمة الرئيسية فى الكتابة». تبدو أعمال دوستويفسكى بنزوعها النفسى البديع، وتجلياتها الإنسانية شديدة الخصوبة والتعقيد أثرا أدبيا مهما وخالدا فى آن، فالكشف عن الداخل الإنسانى الثرى بكل تشابكاته ومآسيه بدا حاضرا وبقوة فى أعمال مهمة مثل «الإخوة كارامازوف»، أو «الجريمة والعقاب»، أو «الأبله»، حيث لا يكتفى دوستويفسكى باقتحام النفس البشرية وسبر أغوارها فحسب، ولكنه يعيد الاعتبار إلى فكرة الغنى الإنسانى ذاته بمشاعر متشابكة وتناقضات داخلية لا حد لها. أما عن تشيكوف فقد امتلكت نصوصه المسرحية أثرا عميقا فى مجرى الدراما فى العالم، وأثرت على الطروح الدرامية فيما بعده بشكل أو بآخر، وبدت مسرحياته: «طائر النورس»، و«الخال فانيا»، و«الأخوات الثلاث»، و«بستان الكرز» معبرة عن بشر مأزومين فى لحظات فارقة ومختلفة من حيواتهم، كما كانت قصصه القصيرة أساسا من الأساسات المهمة لفن القص فى العالم بمعناه الجديد، وتعبيرا عن انتمائه إلى قيم جمالية مختلفة. فهل تبحث مصر عن أنطون تشيكوف حقا؟ بوصفه رمزية على سياق من الثقافة الخالدة فى انتصارها لإنسانية الإنسان، وانحيازها إلى المقولات الكبرى عن العدل الاجتماعي، ومواجهة القبح، ورفض الاستبداد، وفى بحثها عن تشيكوف ورفاقه إنما تبحث مصر عن استقلالية قرارها الوطني، خاصة أن الخيط الواصل بين السياسى والثقافى بات واهيا جدا، والجدل بينهما حاضر دوما شئنا أم أبينا، وما بين الاستقلال الوطنى على المسار السياسي، والخروج من فخ التبعية الذهنية للمركز الأورو- أمريكى على المستوى الثقافى علاقة وثيقة يدركها كل من أراد أن يسمع ويرى. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله