قبل شهور انطلقت إحدي الفضائيات المتخصصة في إذاعة الأفلام القديمة.. روج لها كثيرون علي مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها الفضائية الوحيدة التي تذيع الأفلام دون فواصل ودون إعلانات.. شهور قليلة وظهرت الإعلانات عن شيوخ علاج المس والجن والرقية الشرعية وجلب الحبيب والرزق ورد المطلقة وعلاج جميع أنواع السحر المرشوش والمدفون والمشروب. ................................................................. المصيبة أن صاحب الإعلان يبدأ كلامه قائلا: لاشك أن أصحاب النفوس الضعيفة والدجالين لم يتركوا طريقا إلا سلكوه أو طرقوه للدجل والشعوذة لكنه بفضل الله سيتصدي لكل هذه الخرافات بفضل علمه وعلم زميلته التي تظهر صورتها مغطاة بالكامل بنقاب بني اللون.. الإعلان يتكرر كل عشر دقائق علي مدي24 ساعة.. لا هو ممنوع ولا هو محظور بل يعيد ويزيد ويؤكد أن أولاد الحرام مخلوش لأولاد الحلال حاجة وأن الأمر التبس علي الناس وانه قادر بفضل الله علي التصدي للخرافات والتمييز بين الحق والباطل. وعلي ما يبدو فقد اشتعلت المنافسة بين المشايخ مما دعا احدهم للنزول بإعلان آخر يعلن استعداده للقيام بجميع أعمال الرقية الشرعية وفك السحر والأعمال دون مقابل والدفع بعد انجاز المطلوب وأما رد المطلقة فقد وصفه بالمضمون بإذن الله.. يحدث هذا كله علي الشاشات المصرية عيانا بيانا كما لو كانت تبث برامجها من كوكب آخر وليست من مدينة الإنتاج الإعلامي وعلي القمر المصري النايل سات طبعا تتفرق الدماء بين الوزارة والإدارات والأجهزة المختلفة ولا أحد يملك الحق في الاعتراض علي المحتوي, فنحن في عصر حرية الإعلام وكل واحد علي كيفه.. الدجل والدجالون والعفاريت أحد الموضوعات المفضلة لمعدي البرامج ومضمونة التأثير والمشاهدة.. بعضهم يحاول أن يبدو مهنيا ومتوازنا.. لكن هيهات.. داخل كواليس إحدي الحلقات التيلفزيونية التي تم إعدادها علي فضائية مصرية كانت المعركة مشتعلة بين الدجال الذي يدعي قدرته علي فك السحر والأعمال وإخراج الجن وبين الطبيب النفسي الشهير والشيخ الأزهري الجليل ورغم جميع الإثباتات المنطقية التي أوردها الطبيب والأزهري إلا أن رنين الهاتف لم ينقطع داخل كنترول الاستديو طلبا لرقم الشيخ المبروك.. للأسف الخرافة جزء من ثقافتنا, كثيرون يؤمنون بقدرات الجن والعفاريت والشياطين علي ايذائهم ويحملونهم مسئولية كل مشاكلهم وكل ما يلم بهم وبرغم أن المثل الشعبي يقطع بأن ما عفريت إلا بني آدم ألا أن ذلك لم يفلح في اقتلاع هذه الثقافة المتجذرة فينا. علي قائمة إنفاق الأسر المصرية يحتل الدجل والشعوذة وعلاج الممسوسين المرتبة الخامسة لدي المواطن المصري, بعد الإنفاق علي تعليم الأبناء الذي يمثل45% من إجمالي دخل الأسرة, و12% علي المحمول و15% علي الغذاء و10% من إجمالي دخل الأسرة, وباقي النسبة يتم إنفاقها علي السحر والشعوذة والدجل ومعرفة الغيب في آخر إحصائية للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية, حيث ينفق الشعب المصري نحو عشرة مليارات جنيه مصري سنويا علي قراءة الغيب وفك الأعمال.. وقالت الإحصائية نفسها, ان274 خرافة تسيطر علي سلوك أهل الريف والحضر وأن حوالي300 ألف شخص يدعون لأنفسهم القدرة علي فك الأعمال السفلية عن طريق تحضير الأرواح, وأن300 ألف آخرين يعالجون الأمراض والمس من الجن بالقرآن والإنجيل.. وأن هناك نحو مليون مصري علي الأقل يعتقدون أنهم ممسوسون من تحت الأرض, وأن نصف نساء مصر يعتقدون اعتقادا جازما بتأثير السحر أو العمل علي جوانب الحياة المختلفة خاصة الاجتماعي منها. هو بيزنس تموله النساء بجدارة ويقعن ضحايا له ولم يتوقف الإيمان بالأعمال والسحر علي البسطاء فقط, إنما تقول دراسة أن نحو38% من عينة من مثقفين ومشاهير في الفن والرياضة والسياسة من زبائن السحرة والدجالين. في تفسير هذه الظاهرة يقول د.خليل فاضل استشاري الطب النفسي: البعض يري هذا المسار أو رد الفعل ما هو إلا نتيجة لظروف الحياة الضاغطة غير أننا نراه محصلة لعملية التدهور النفسي السياسي القيمي, ووقوع المجتمع بجميع فئاته بين رحي التناقض المجتمعي والأخلاقي الشديد فكل شيء تقريبا أصبح الشيء ونقيضه فاجتمعت الأضداد وخلقت أشكالا من السلوكيات مشوهة ومخيفة, فالفقر المدقع والثراء المفرط, العري الفظيع والتغطية الشاملة, حتي داخل الإنسان الواحد قد تجد كل علاقات الورع والتقوي, مع بعض سلوكيات تناقض ذلك تماما كالتلصص والنصب والسرقة وإدمان تصفح المواقع الإباحية. ويواصل فاضل: إذن اخترقت منظومة الدجل والاحتيال كل المستويات السياسية والدينية والاجتماعية, ولم يعد الأمر موروثا شعبيا يدور حول تعليق الخرزة الزرقاء مثلا, لكنه صار مرضا اجتماعيا يعتمد علي من يفتح لهؤلاء الدجالين أبواب ونوافذ القنوات الفضائة. والغريب فيها ليس الاعتقاد في السحر والشعوذة والدجل, فهذه أمور معروفة ومألوفة في الحياة المصرية من آلاف السنين, ولكن الغريب هو الزيادة الأفقية لهذه المعتقدات باختراقها لعقول الطبقات المتعلمة والمثقفة من أساتذة الجامعات والمثقفين والإداريين ورجال الأعمال والسياسيين وغيرهم بشكل لافت للنظر. هل الأمر متعلق بأمية المتعلمين والتماسك الهش؟ ما الذي يدعو؟ ومن الذي يدفع؟ وما الذي يرمي إلي الزحليقة التي ما أن تبدأ لا تنتهي, وليس الأمر مقصورا علي طبقة بعينها لكن في كل الطبقات. قبل سنوات كانت د.نادية رضوان أستاذ علم الاجتماع تعاني صداعا دائما احتار فيه الأطباء ومن شدة الألم والرغبة في التخلص منه لجأت للدجالين والمشعوذين في تجربة خرجت منها بكتاب رحلتي الي عالم الجن والعلاج الروحاني وتقول في مقدمة كتابها: بعد رحلة استغرقت عدة سنوات اكتشفت انه عالم يشبه الباب الدوار تدخل منه لتعود من حيث دخلت تحمل نفس الأسئلة والتساؤلات التي خرجت بها خلال رحلتها تنقلت بين المشايخ والدجالين والمشعوذين والمعالجين الروحانيين في المدن والقري والأحياء الراقية والفقيرة وحتي خارج مصر لم تستطع هي نفسها أن تحسم الأمر هل لديهم أي قدرات خاصة لم تختبر هي نفسها هذه القدرات الخارقة فلم يفلح أي منهم في علاجها من الآم الصداع الرهيبة لكن ذلك لم يمنع أن ترتبط ببعض وتري فيهم بعض جوانب الخير فليسوا شرا مطلقا بعضهم دجالون لكن آخرين لم يكونوا كذلك.. رآت بعينها أشخاصا تم علاجهم ورأت أيضا أشخاصا مخدوعين, هي نفسها خدعت أكثر من مرة وبرغم أنها لم تشف من مرضها إلا أن رحلتها كانت أكبر من البحث عن شفاء من المرض العضوي ولكن بحثا عن إجابات لأسئلتها هي رحلة من الشك الي اليقين لكن ما حدث مع الدكتورة لم يكن فيه أي يقين بل هي رحلة من الشك الي الشك دخلت متشككة وخرجت متشككة لكنها لم تتوصل الي إجابة تقطع بأن هذا العالم غير موجود..