جاء اعتراض مجلس النواب على القرار بقانون، الخاص بالخدمة المدنية، كأول مؤشر موضوعى على ما يمكن أن يتطور إلى أن يكون المجلس مستقلاً بالفعل، وكردّ عملى مبكر على حملة التشهير ضده قبل أن يبدأ أعماله بأنه مجلس السيسى. كما أن هذا الاعتراض هو أيضاً تبرئة للسيسى من تهمة تفصيل برلمان للموافقة على كل قراراته. وقد أكدّ كل هذه المعانى إعراب الرئيس شخصياً عن أسفه أن النواب اعترضوا على تمرير القانون، وأن هذا الموقف يعرقل سياسات حكومته. هل يذكر أحد أنه حدث فى مصر أن عارَض البرلمانُ بهذا الوضوح الرئيس أو الملك أو السلطان أو الخديو؟ ألا تُعتَبَر هذه خطوة إيجابية لهذه التجربة؟ وأما من يقولون إن هذا كله مسرحية موضوعة مسبقاً بين الرئيس والمجلس، فلا تعليق عليهم ولا على ما يقولون، تحاشياً للانزلاق فيما يبدد الوقت والطاقة فى مجادلات عبثية. المطلوب من النواب أن يدعموا استقلاليتهم أكثر، شكلاً ومضموناً، وهو ما لا يتحقق إلا بالجدية فى استخدام كل الصلاحيات التى وفرها لهم الدستور، واختصّ بها السلطة التشريعية. الوصول إلى هذه النقطة أيضاً يعفى الرئيس من كل التحليلات التى كان أصحابُها يبذلون قصارى جهدهم طوال غياب البرلمان فى التنقيب فى كل قرار بقانون يصدر من الرئاسة، ويرهقون أنفسهم لتصيد أى مؤشرات تفيد فى الهجوم على الرئيسين، عدلى منصور وعبد الفتاح السيسى، عندما كان التشريع ضمن مسئوليات الرئيس. الآن، وبعد أن بدأ النوابُ نشاطَهم، هناك مسائل يستفزّ غموضُها الجماهيرَ العريضة، وينبغى أن يوليها النواب اهتماماً يليق بمدى أهتمام الرأى العام بها، وبعض البنود المطلوب من المجلس أن يفضّ غموضها يدخل فى صميم ممارسة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية التى أقرّها الدستور لمجلس النواب. القضية الأبرز هذه الأيام هى الخاصة بما ظلّ يتردد بشدة عن تزوير الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية عام 2012، والذى ترتب عليه إيصال مرشح الإخوان إلى القصر الرئاسى بغير وجه حق. وقد زاد الأمر غموضاً صدور قرار من النائب العام الأسبق بحظر النشر فى القضية، ولكن القضاء أصدر حكمَه قبل أيام بإلغاء الحظر، فتبين أن هناك أدلة إدانة تفصيلية بالوقائع للإخوان أنهم اقترفوا جرائم التزوير ثم تمكنوا من حجبها عن صاحب القرار، وهذه معلومات قوية تُبدد الاتهام الذى ظل عالقاً فى رقبة المشير طنطاوى ومجلسه العسكرى بأنهم سلموا البلد للإخوان. كما أن إثبات هذه الجرائم يقضى إلى الأبد على أكاذيب الشرعية التى لا يملك الإخوان وحلفاؤهم سلاحاً أقوى منها فى لغوهم عن الإطاحة باختيار الشعب. كما أن هناك اتهامات واضحة لا ينبغى أن تمرّ دون مساءلة حقيقية لمن تمكن من أن يحجب أدلة التزوير التى جمعتها الأجهزة الرقابية ولم يسلمها، طبقاً لمسئولياته الوظيفية، إلى لجنة الانتخابات الرئاسية، والتى إذا كانت على علم بها فى وقتها لما أعلنت فوز مرشح الإخوان..إلخ إلخ كيف تجمدّت هذه القضية كل هذا الزمن؟ وكيف جرى إبعاد قاضى التحقيق المكلّف بها بعد أن تبينت جديته فى التوصل إلى هذه الأدلة؟ ومن أبعده؟ وكيف أبعده؟ وبأى حجة؟ وكيف لا يجد القاضى المبعد آلية تحميه من العصف به وتدعمه فى قيامه بواجبه حتى تسير العدالة فى مسارها؟ ومن هو صاحب المصلحة فى أن يظل اتهام المشير طنطاوى ورجاله عالقاً بأنهم سلموا البلد للإخوان، وأنهم مسئولون عن التزوير أو على الأقل أشرفوا عليه من بعيد، أو أنهم باركوه، أو أنهم غضوا الطرف عنه؟ كل ما أفضى إليه عرقلة هذه القضية يطرح على مجلس النواب ضرورة وضع ضوابط واضحة لمبدأ حظر النشر فى بعض القضايا، الذى لا يمكن أن يكون تستراً على جريمة أو حماية لمجرمين، وإلا انتفى الجوهر الذى لا يمكن أن يُفهَم إلا أنه حماية لسير العدالة. ألا تستحق هذه القضية بكل تفاصيلها أن يُشكِّل لها مجلسُ النواب لجنةً عاجلةً لتقصى الحقائق؟ وكيف يمكن للنواب أن يُعيدوا الحياة إلى هذه القضية وما شابهها مع احترام مبدأ الفصل بين السلطات؟ القضية الأخرى التى لا تقل أهمية، وتنطوى على نفس العلل، هى قضية القصور الرئاسية، التى أُدين فيها أخيرا مبارك ونجلاه، والتى تعرّض فيها للتنكيل الضابط البطل الذى جمع الأدلة التى اعتمدت عليها المحكمة فى الإدانة، فى وقت كان ينبغى تكريمه. المعلومات المنشورة حول هاتين القضيتين تعطى مؤشرات قوية أن هناك يداً قوية لا تزال متنفذة فى مراكز مهمة، وأنه يمكنها أن تعرقل سير العدالة وأن تطيح بمن يسهرون على جمع الأدلة الجنائية فى قضايا شديدة الحساسية والأهمية، ثم أن تأمن من المساءلة والعقاب. كما أن ما حدث فى قضية مبارك ونجليه يؤكد أن الخطر لا ينحصر فقط فيما يخصّ الإخوان! وكما أن لهذه السطوة تأثيراً سلبياً على سير العدالة فى هاتين القضيتين، خاصة مع عدم محاسبة المسئول، فإنها تردع فى المستقبل من يناط به القيام بمهام شبيهة ويفكر فى أن يعمل بجدية، وهو يرى رأس الذئب الطائر! ذلك لأن القضيتين تشيران إلى أنه ليس هنالك ضمانات تحمى من يسهم، بحكم مهام وظيفته، فى جمع أدلة تدين فرداً أو فئة قوية، بما يبدد أهم شروط العدالة الناجزة التى هى أهم أسس الدولة الحديثة التى ينادى بها الدستور. على مجلس النواب أن يدرس الموضوع، إذا كان هنالك قصور فى التشريع فيلزم الإسراع بسدّه بالتشريعات المطلوبة، وإذا كان هناك ثغرات قانونية فيجب علاجها حتى لا تستمر اليد القوية فى تدخلاتها، وأما إذا كانت الأفعال مُجَرَّمة قانوناً فينبغى أن يُعاقَب المجرم، ويجب محاكمة من تواطأ معه فى الجريمة ومن تستر عليه. على النواب الجدد أن ينتبهوا إلى خطورة أن يُشاع فى الرأى العام أن هناك من يأمن على نفسه وهو يقوم بتعويق العدالة وبإيذاء مَن يقومون بحكم عملهم بجمع الأدلة، ثم تتعطل آلية العدالة عن معاقبته، وأن يمضى الوقت دون أن يجد مسئول فى الدولة نفسه مضطراً إلى أن يزيل الغموض للرأى العام. [email protected] لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب