هل أصبحنا أمة لا تقرأ القرآن؟ إن النصوص الواردة في كتب السير والسنن تدل على أن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كانوا يتنافسون في حفظه، ويُحفِظونه أزواجهم، وأبناءهم، ويقرأون به في صلواتهم، خاصة في جوف الليل، فيُسمع لهم دوي كدوي النحل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر على بيوت الأنصار، ويستمع إلى ندى أصواتهم بالقراءة. عن أبي موسى الأشعري أن: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لَوْ رَأَيْتَني، وأنا أَسْتَمِعُ لقِرَاءَتِكَ البَارِحةَ.. لَقَد أُوتيتَ مِزْمَاراً من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ". (رواه البخاري، وفي رواية ل"مسلم" بزيادة: "واللَّهِ.. يَا رَسُولَ اللَّهِ.. لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا"). ومع حرص الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - على مدارسة القرآن، واستظهاره.. قال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - :"كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يُسْمَعُ لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يخفضوا أصواتهم؛ لئلا يتغالطوا".(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، ومناهل العرفان للزرقاني). وجاء في الأثر عن عبد الله بن حبيب، أبي عبد الرحمن السلمي، أنه قال: "حدثنا الذين كانوا يقرءوننا، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات.. لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم، والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل معا".(مسند الإمام أحمد). بكاء الرسول عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقْرَأْ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ.. قَالَ: "إني أحب أن أسمعه من غيري".. فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا انْتَهَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا.(النساء: 41).. قَالَ: "حَسْبُكَ".. فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ". (أي: يبكي). (رواه البخاري، ومسلم). أبو بكر يبكي بعد وفاة الصديق - رضي الله عنه - ذهب عمر يسأل زوجته أسماء بنت عميس: "كيف كان أبو بكر يعبد ربه، عندما يخلو بنفسه؟"، فأجابته قائلة: "كان إذا جاء وقت السحر، قبيل الفجر، قام فتوضأ، وصلى، ثم يستمر يصلي، ويتلو القرآن، ويبكي، ويسجد, ويبكي، ويدعو". فبكى عمر - رضي الله عنه - وقال: "أنَّى لابن الخطاب مثل هذا؟" بكاء عمر وكلنا يعلم قصة إسلام عمر - رضي الله عنه - بسبب آيات من القرآن، من سورة "طه"، انشق لها قلبه. وهكذا، كان عمر يمر بالآية، من ورده بالليل، فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت؛ حتى يُعاد.(كأنه مريض). حدث منه ذلك أيضا عندما بلغ قوله تعالى، من سورة "يوسف"، في الصلاة: "إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ". (يوسف:86). وكان يطوف بالمدينة فسمع قارئا يقرأ سورة "الطور"، حتى وصل إلى قوله تعالى: "إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ". (الطور: 7و8)، فمكث شهرا مريضا في بيته. ولطالما كان عمر - رضي الله عنه - يدعو أبا موسى الأشعري؛ ليتلو عليه - بصوته العذب المؤثر - آيات من القرآن العظيم، فيقول له: "ذَكَّرَنا ربَّنا يَا أبا مُوسَى".. فيقرأ أبو موسى، ويبكي عمر". حال السلف قرأ عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - :"وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ".(المطففين:1)، فلما بلغ: "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"، (المطففين:6)، بكى حتى خرَّ، وامتنع عن قراءة ما بعده. والأمر هكذا، قال السلف: "آية لا أفهمها، ولا يكون قلبي فيها، لا أَعدُّ لها ثوابًا". وقال قتادة: "لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة، أو نقصان.. قال تعالى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا".(الإسراء:82 -83). وقال جل وعلا: "قٌلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيْدٌ بَيْنِيْ وَبَيْنَكُمْ وَأُوْحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ". (الأنعام: 19). قالوا: الإنذار بالقرآن الكريم مستمر إلى آخر الزمان، ما دام على الأرض إنسان، فقد صرح الله تعالى، في هذه الآية، بأنه - صلى الله عليه وسلم - منذر لكل من بلغه هذا القرآن، كائنا من كان، إذ الإنذار به عام. أخيرا، قال العلماء: "هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا، عز وجل، بعهوده، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات، والسنن المتبعات". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد