لتعرف نبيل سليمان، هو وكتابته، عليك أن تعرف أولاً، أن عطشه للحياة هو، فى حقيقته، عطش للكتابة إنه يكتب متجاهلاً الزمن، كأن الموت لن يجدّ فى طلبه ما دام يكتب! هكذا يتخذ سليمان من الكتابة علة يعتذر بها للموت عن عدم استعداده له، ومن ثم فكل كتاب جديد هو مهلة جديدة أو مبرر جاد على صدق اعتذاره! قال لى، بثقة دافقة، أنا أتعجب ممن يشكون من قلة الموضوعات، بينما لا وقت لدىّ لأكتب كل ما أريد. الرجل، بعوده القصير المدملج، يشبه جذع شجرة سنديان، زاده دمار بلده، سوريا، تمسكاً بالأرض، كأنه يصرّ على أن يكون شاهداً على الخراب الذى يمكنك أن تستشفه فى السرائر قبل أن تحصيه فى الخسائر. نبيل سليمان عاجز عن فعل أى شىء حيال ما يحدث هناك، ولهذا هو يعمل ويقرأ ويسافر ويعيش بنهم، لا ليشفى وحده ، بل لتشفى سوريا من الجنون اليومى الذى تمارسه المدافع فى الأرواح وفى البيوت. وسط هذا الركام فإن كل ما يفتقر إليه "سليمان" هو شىء يدفعه للتفاؤل، لكنه يعجز عن التعبير عن ذلك الشىء بالكلمات، فيلجأ، كأى عاجز، للدموع. وأنا، من جانبى، كلما رأيت شيخاً يبكى لجأت للصمت المطبق أو لذت بالأسئلة: ► بدأت حياتك العملية مع نكسة 1967، والآن تقضى شيخوختك مع أنقاض سوريا.. يبدو أنك موعود بالنكسات ؟ ( بمزاح جاد، إذا جاز التعبير).. يمكن أن نعيد تركيب السؤال ، إذا وافقتنى، أولاً،على أننى لست فى الشيخوخة. أنا لا أشعر بها قط، رغم أننى بلغت الحادية والسبعين منذ ستة أشهر. ► إذن تقاوم الزمن بإنكاره ؟ أنا قررت ألا أشعر بتقدم العمر، طالما أننى بصحة وعافية. الرعب الوحيد الذى أنتظره، أو ينتظرنى، أن تبهدلنى الشيخوخة. المهم، بالعودة إلى سؤالك، لعلك تعرف أن لى رواية اسمها " هزائم مبكرة" صدرت عام 1985 ، أتامل فيها هزائمى الشخصية، وهزائمنا العامة، من 1948إلى انفصال سوريا عن مصر عام 1961 إلى نكسة 67 ، وأتوقف عند اجتياح لبنان عام 1982. طبيعى أن تولد، من ركام هذه الهزائم، نكسات، كبيرة أو صغيرة. عندما يجتمع الفساد والدكتاتورية والتطرف والعماء الأيديولوجى، ماذا تنتظر سوى أن تكون فى نكسة دائمة؟ يخايلنى ، منذ حين،تساؤل: طالما كتبت " هزائم مبكرة"، لماذا لا أكتب " هزائم متأخرة"؟ ► وقبل أن تترقرق الدموع فى عينى سليمان عاجلته بحسرتى أنا الآخر: يخيّل لى أن النخبة تتحمل حصتها فى هذا الذى صرنا إليه، مرة بالتواطؤ ومرة بالتبرير؟ فأجاب: أوافقك على ما تقول، لكن هناك، بين هؤلاء، نخبة من المثقفين النبلاء، مهما تكن محدودة الفاعلية، لكنها ظلت، رغم التهميش، تحافظ على الحد الأدنى من شرف الكلمة. ► ولماذا يدخل المثقف حظيرة السياسيين، عن طيب خاطر؟ هناك أكثر من سبب..من جهة, محاولة المثقف لأن يلعب دور المفكر السياسى وهو، بالمناسبة، غير مؤهل لذلك. ثم هناك عدد كبير من المثقفين دفعوا عشرات السنين من أعمارهم بين الزنازين والمنافى، وبلغ الأمر ببعضهم حد الثأرية، وهذا شىء مفهوم عموما، لكنه فى السياسة غير مفهوم. فى السياسة هناك متغيرات عاصفة تغير مصائر الشعوب، لا يجوز معها الانتقام. ► هناك سؤال لا أستطيع تحاشيه عن سورياوالعراق، هل تحب الأرض الدم ؟ بالنسبة للعراق هذا صحيح تماماً. ولا تتعلق بتاريخه الحديث فقط ، بل منذ الدولة العباسية. هناك عنف متلبس بالأسطورة. وإذا لم نذهب بعيداً وبقينا فى تاريخه القريب، النصف الثانى من القرن العشرين، حين ذهبت الملكية وجاء حزب البعث إلى السلطة، نجد صفحات الدم تُفتح ولا تريد أن تُطوى. أما فى سوريا فالمستوى أقل. ضحايا الانقلابات العسكرية، منذ أقدم واحد فى 1949، محدودون. ولما جاء حزب البعث بدأ العنف السياسى وبدأ الدم. قُمعت بعض المظاهرات بشكل غير مألوف لنا كسوريين. أذكر أنه كانت هناك محاولة انقلاب للناصريين فى الجيش على سلطة البعث التى كانت فى شهورها الأولى. الشاهد أنه قُتل فى هذه المحاولة 18 قتيلاً. كان هذا رقماً هائلاً. بعد سنوات قليلة ، مع مجىء حافظ الأسد ومحاولة الإسلاميين المسلحة للتخلص من البعث، أفرخ العنف، إلى أن جاءت أحداث حماة عام 1982، فقُتل عشرات الآلاف. ليست هناك إحصائية دقيقة لعدد القتلى ، لكنهم بالآلاف. وهدمت عشرات الآلاف من المنازل. من وقتها فُتحت صفحة العنف فى سوريا ويبدو أنها لن تُطوى فى المستقبل القريب. ► حتى المستقبل ، هو الآخر ، سيجىء ملطخاً بالدم ؟ لم أكن متشائماً فى يوم من الأيام، لكن ليس ثمة ضوء فى نهاية النفق. الأوراق مختلطة، وسوف تظل هكذا. إلى متى ؟ لا أعلم. لكأن المطلوب هو تدمير هذا البلد إلى الأبد، بحيث لا تقوم له قائمة. ونفس الشىء ينطبق على العراق. الجميع، إقليمياً ودولياً وداخلياً، لا يريد أن تعود سوريا كما كانت. ► قل لى ..أنت قارئ جيد للتاريخ. كيف أسعفك فى العثور على ضالتك الروائية ؟ جاءتنى اللحظة الحاسمة فى مطلع الثمانينيات، مع تدمير حماة واحتلال إسرائيل لبيروت. وقتها تساءلت.. لماذا نحن هكذا ؟ الإجابة استدعت الحفر فى تاريخ سوريا الكبرى، قبل سايكس بيكو. المهم بدأت الحفر. ومن هنا جاءت رباعية " مدارات الشرق". طبعاً، لكى تنقل السؤال من التاريخ إلى الرواية، يأتى التحدى الفنى. من السهل على الباحث والمفكر أن يجيب، لكن فى الرواية يستلزم الأمر أن تمشى فى طرق أخرى. الشاهد أننى، فى " مدارات الشرق"، حاولت أن أصور كيف أفلست كل التيارات..القومى، الشيوعى، الإسلامى..إلخ، وآلت إلى أسوأ مآل. وفى الوقت نفسه، انهار الاتحاد السوفيتى ولم تقم بدائل، فصارت الأمور إلى الأسوأ، إلى أن وصلنا إلى الربيع العربى, واعتقدت أننا نعيش لحظات سحرية، لكنى اكتشفت أننى كنت أهبل، قاصر نظر، لأننى صدقت هذا الربيع الكاذب. ► لأى درجة ينبغى أن يكون المؤلف ديمقراطياً مع شخصياته ؟ عليه أن يتركها تعيش حياتها دون تدخل منه، ودون نرجسية. عليه ألا يغتر بأنه خالق شخصيات، أن ينسى سلطته عليها. سأضرب لك مثلاً: عندما بدأت فى كتابة "مدارات الشرق" فى عام 1987، كنت وصلت إلى كتابة 1100 صفحة منها. كانت هناك شخصية اسمها " نجوم الصوان"، وكان على أحدنا، أنا أو هذه المرأة، أن يموت. لم يكن ممكناً أن نعيش معاً تحت سقف واحد، كنت مسكوناً بها إلى درجة التخمة، ووصلت هى إلى مصير ملتبس فى نهاية الجزء الثانى، لدرجة أننى بدأت الكتابة فى الجزء الثالث باعتبار أنها ميتة. أردت أن أتحرر منها، لأكتب بقية الشخصيات. وبكل أنانية أخرجتها من فضاء الرواية إلى القبر. اخترت أن أعيش، بدلاً منها. صدقنى هذا حصل. كان على أحدنا أن ينهى حياة الآخر. هذا مثال، إن صدق، وأرجو أن يكون صادقاً، يدلك على كيف تكون ديمقراطياً مع شخصياتك. ► أدخلنى مطبخك.. ما الذى يحرك دوافعك العميقة لاختيار موضوع ما وتوزيع الأدوار فيه ؟ دائماً ما تكون البداية مع مخطط أولى، ثم يأتى مخطط ثان ينقضه، وعندما أشرع فى الكتابة يأتى تصور ثالث يلغى سابقيه. الكتابة هى التى تفرض أساساً مخططاتها. لكن هذا لا يعنى أننى أدخل خالى الذهن تماماً عن المشروع. الكتابة تمنح الشخصيات ، أحياناً، مصيراً غير الذى رسمته لها مسبقاً. وبالتالى لم أعش صراعاً مع من أكتبهم. ليست هناك شخصية أردت لها أن تكون شريرة مثلاً، وغالبتنى لتنتزع خيريتها. ► مع التجربة وتقدم العمر, ما الذى ينضج فى الكاتب.. أهى الأدوات أم رؤية العالم؟ أريد أن أفهم معك: ماذا تعنى كلمة الخبرة ؟ بقدر ما تقرأ أكثر وتفكر أكثر، وتعاشر الناس أكثر وتسافر أكثر، وبقدر ما تزعزعك مشاكلك العاطفية والسرية والجنسية والسياسية..إلخ، وبقدر ما تخوض مغامرات الحياة.. أظن أن هذا لا بد أن يفعل فعله، الصارخ والمباشر أحياناً، وفعله الباطنى الذى يحفر فى داخلك ببطء مثل الآلة التى تقُدّ الألماس. هل هذا ما يسمونه " النضج"؟ لا أعرف، لكنى أحياناً أبحث عن لحظات غير ناضجة, لحظات لم يهذبها مقص العقل. بالعكس, على مستوى حياتى الضيق, أتحرر من كل ما يلصقه الناس بكلمة النضج عادة. ► وما الذى ينضب فى الكاتب ؟ أنا شخصياً لم ينضب فىّ شىء، اللهم إلا بعض ظلال الجسد. أجريت قبل 15 سنة جراحة فى ظهرى، وقبل 5 سنوات أجريت عملية قلب مفتوح، مع ذلك أعمل بكامل طاقتى. القراءة والسفر تعرقل الشيخوخة. وعلي الكاتب أن يكافح بهما النضوب. عندما يتوافر للكاتب نشاط تخييلى مع المعرفة، يأتى الإبداع أفضل. الكتابة ليست برزخاً واحداً، الكتابة برازخ، طاقات متجددة. أنا عبارة عن احتمالات لا تنتهى من الكتابة، ما دمت على قيد الحياة وقادراً على تجاوز نفسى. ► يبدو أنك اتخذت قراراً بتجاهل الموت هو أيضاً، بما أن الحياة، بالنسبة لك، تعنى الكتابة؟ شوف.. عندما قرر الدكتور طلال فارس، رحمه الله، إجراء عملية قلب مفتوح لى قال لزوجتى وبناتى..هذا الرجل متمسك بالحياة إلى درجة مرعبة. وهذا صحيح. لأن الموت لم يخطر لى على بال، وأنا أتمدد لإجراء العملية. كأنى ذاهب فى مشوار لمدة 4 أو 5 ساعات. حتى قبل الجراحة خيرنى الدكتور، ربما ليختبر استعدادى، بين تركيب شبكة وإرجاء العملية، ولما وجدنى جاهزاً أجرى العملية، وبعد 7 ساعات استأنفت حياتى كأن شيئاً لم يكن. ربما تعرف أننى واجهت الموت أكثر من مرة، آخرها فى 11/7/2011. دمروا سور بيتى وعرائش العنب والسيارة، ولم يكن يبقى غير اقتحام البيت وقتل من فيه. وقبل ذلك فى 2001 خرج علىً اثنان لا أعرفهما وأوسعانى ضرباً. ولا أخجل من أن أعترف لك بأن هذه الحوادث، والأولى بالذات، قد أورثتنى خوفاً مخرباً للروح. لشهور ظللت أنظر ورائى كلما مشيت. ► من من أسرتك تسلل إلى عالمك السردى؟ زوجتى. تسللت إلى رواية بعنوان" المسلة"، وعندما قرأتها لم تعلق، ربما لأنها واثقة بنفسها، وربما لثقتها بأننى لن أفعلها ثانية . ► وبعد ضحك مشترك عدت أسأل سليمان، ببشرته الموردة التى يحضر فيها الدم بسلاسة: قل لى..كيف يمكن للروائى أن يخلص فى كتابته للواقع ويأخذ منه موقفاً نقدياً فى الوقت نفسه ؟ أظنك تمايز بين الكاتب كمواطن وبينه ككاتب. فى تصويرك للواقع تُركّب مخيلتك ما تشاء من وقائع. لكن فيما يتعلق بالكاتب كمواطن، تأتى أسئلة أخرى من شأنها أن تفصل بين الكاتب وكتابته. يمكن لكاتب أن يكوت صنيعة الاستبداد ويكتب، مع ذلك، رواية عظيمة. يكفى أن أذكر بلزاك.. المسافة بين بلزاك الكاتب والمواطن كانت شاسعة. ► وماذا عن مسافة نبيل سليمان ؟ منذ عشرين عاماً وأنا أتفرج على هذه المسافة القائمة بينى وبينى، أحياناً أستمتع بها وفى أحيان قليلة تخيفنى، كأننى أحدق فى هاوية.
من هو نبيل سليمان؟
روائي وناقد ُولد في قرية البودي في جبال مدينة اللاذقية عام 1945، تخرج فى جامعة دمشق كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1967، ثم عمل بالتدريس فى الفترة من 1963 وحتى 1979، وفى عام 1982 أسس دار الحوار للنشر والتوزيع في اللاذقية، ثم تفرغ للكتابة منذ عام 1989. تُرجمت أعماله إلى عدة لغات منها الروسية والأسبانية والإنجليزية، وكُتبت دراسات كثيرة عن أدبه، أبرزها: "الرواية والتاريخ" لمحمد جمال باروت، و"نحو ملحمة روائية عربية" لمحسن يوسف، و"تشكل المكونات الروائية" لمويفن مصطفى. حصل على جائزتي غالب هلسا (الأردن 2011)، وباشراحيل (القاهرة 2004). وهو من أهم الروائيين السوريين الذين تابعوا عن كثب التطورات السياسية والاجتماعية في سوريا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين. تم الاعتداء على الكاتب سنة 2001 وقيل إن هذا الاعتداء حدث لأهداف سياسية، ثم تم الاعتداء عليه مرة أخرى في 2011. له 19 رواية و26 كتاباً نقدياً، ومن أهم رواياته: "ينداح الطوفان"، 1983 - "مدارات الشرق" بأجزائها الأربعة، 1990 –1993 - "مجاز العشق"، 1998- "أطياف العرش"، 2000 - "سمر الليالي"، 2000- "في غيابها"، 2003 - "درج الليل - درج النهار"، 2005 - "دلعون"، 2006 - "حجر السرائر"، 2010 - "مدائن الأرجوان"، 2013. ومن أعماله النقدية : "الرواية السورية 67-77"، 1982 - لأيديولوجيا والأدب في سوريا" بالمشاركة مع بو على ياسين، 1985 - "فنية الفن والنقد"، 1994.