ليست مصادفة أن يوصف الأهرام بأنه ديوان الحياة المعاصرة، فهو فعلا يتجاوز دور الجريدة العادية إلى "مرصد وطن"، والمرصد لا يكتسب صفاته ومصداقيته إلا إذا كان عيونا نافذة متأملة محللة غير ملونة، لا ينحاز ولا يغلق أبوابه متجنبا عواصف الأحداث إذا هبت متلاحقة، يصطف خلف مواقف لا أشخاص، أفكار ورؤى عامة لا برامج خاصة ولا عنتريات فردية، مشهرا سيف المعرفة ودرع الحقيقة. والأهرام له سماته الخاصة فى مفهوم حرية النشر وسقفها، وكيفية استغلال هذا السقف على نحو رصين، دون أن ينتقص منها أو يحولها إلى صراخ وعويل وهتاف وعمل سياسي، فهو فى النهاية ساحة معرفة وليس مقر حزب، مصدر معلومات وليس مركزا للنشطاء السياسيين. وفى حياة الأهرام معارك عظيمة، فكرية وسياسية، يخوضها فى توقيت يحدده، ولا تفرضها عليه ضغوط ولا مطالب من خارجه، ويمكن الرجوع إلى بعضها فى ديوان الحياة المعاصرة الذى كتبه المؤرخ اللامع الدكتور يونان لبيب رزق، وقد خاض الأهرام واحدة من معاركه الشرسة قبل عشرين عاما، معركة خاصة جدا، وكان الأهرام محسوبا على النظام بقوة، ويتمتع وقتها رئيس مجلس إدارته ورئيس تحريره إبراهيم نافع بعلاقة خاصة مع الرئيس حسنى مبارك منذ كان مبارك نائبا للرئيس أنور السادات، لكن لا هذه الحسابات ولا تلك العلاقة الخاصة منعت الأهرام من خوض هذه المعركة ضد القانون 93 لسنة 95، الذى وصفه الصحفيون والسياسيون بقانون "اغتيال الصحافة"، بل إن تلك المعركة بدت كما لو أنها ضد الرئيس وأفكاره وما يريده شخصيا. وبدأت أول طلقة فى هذه المعركة من الحكومة ومجلس شعبها، بإصدار قانون يتوسع فى حبس الصحفيين وسجنهم باتهامات مطاطة وفضفاضة، باسم الحفاظ على مؤسسات الدولة وحمايتها من الازدراء وعدم تعكير السلم العام.. وكانت الصحف قد شمت أنفاسها واتسع فيها هامش الحرية وتمدد، وشنت هجمات لاذعة على نواب فى مجلس الشعب ووزراء ومسئولين كبار وهيئات عامة، واستخدمت عبارات قاسية وصلت الى حد التطاول.. لم تكن حال الصحافة ساعتها كحالها اليوم، كان عدد الصحف اليومية محدودا للغاية، كلها تقريبا تصدر عن مؤسسات عامة يملكها مجلس الشوري، إلا جريدة وحيدة يومية تصدر عن حزب الوفد، وبقية الجرائد الحزبية والخاصة أسبوعية ونصيبها من سوق النشر لا يزيد على 15 ٪ فى أحسن الأحوال. وبالرغم من هذا.. لم تتحمل السلطة نقد الصحافة وهجماتها ودبرت تكميمها وحبسها خلف أسوار التشريعات. وعموما الصحافة المصرية لأسباب كامنة فى الثقافة الشرقية، مثل الساحر الهندي، تمشى على الجمر تأكل النيران، تنام على المسامير، تصاحب الأفاعي، تلبس الهلاهيل، وأيضا تطاردها السلطة ويلعنها الناس ولا تجمع قوت يومها إلا بصعوبة بالغة! فالثقافة الشرقية تراث من الأسرار، أسرار فى قصر السلطان، أسرار فى الحاشية، أسرار فى دهاليز الحكم، أسرار بين طبقة التجار، أسرار فى البيوت، بينما الصحافة أخبار ومعلومات وأفكار وآراء ولا يمكن أن تؤدى "مهمتها" دون هتك تلك الأسرار ونزع أقنعتها وكشف خباياها! والثقافة الشرقية أيضا فى جانب منها تقوم على فكرة الاستبداد: الكبير بالصغير، الحاكم بالمحكومين، السلطة بالناس، الغنى بالفقير، القوى بالضعيف، بينما الصحافة تمضى على الطريق العكسي، الحوار بدلا من القهر، التسامح بدلا من التعصب، الحرية بدلا من الطغيان، التنافس بدلا من الاحتكار، القانون بدلا من النفوذ! فكان القرار أن يخرج قانون من مجلس الشعب متسربلا بسواد الليل الحالك وفى غفلة من الجميع، وينشر فى الوقائع الرسمية، ليجده المصريون بينهم فجأة قابضا على رقبة صاحبة الجلالة. فماذا يفعل الأهرام المحسوب على النظام ورئيس تحريره صاحب العلاقة الخاصة مع الرئيس الذى حبذ وحرض على إصدار القانون؟! لم يتأخر الأهرام لحظة عن خوض المعركة فورا، ورد بموقفه فى اليوم التالي، بهجوم مضاد فى صفحات البرلمان التى كان يشرف عليها الأستاذ "محمود معوض"، وكتب مقالا بديعا "اللهم لا ازدراء" قال فيه: من بين العبارات التى أعادها القانون للحياة. رغم أنها كانت على وشك الاندثار من قاموسنا السياسى فى ظل تزايد المد الديمقراطى لحرية التعبير هي: تكدير السلم العام، إثارة الفزع بين الناس، ازدراء مؤسسات الدولة والقائمين عليها. وقد وقفت طويلا أمام عبارة التجريم بتهمة ازدراء شخصا ذات صفة نيابية، وتساءلت بينى وبين نفسي: من سيحاسب سيد قراره إذا لم يحاسبه الرأى العام متمثلا فى صحافته وهى المرآة العاكسة للحقيقة، إلا لو كان هذا القانون هو حصانة جديدة للنواب تضاف إلى الحصانة البرلمانية المشتبه فى عدم دستوريتها، وهذا يعنى أن هذا القانون هو حصانة ضد النشر وحصانة ضد رقابة الرأى العام". وكتب أحمد بهجت فى صندوقه اليومي: كانت السرعة التى تم بها القانون مذهلة، أيضا كانت السرية التى أحاطت به تثير الدهشة، إن القوانين ليست برقا يلمع فى السماء ثم يختفي، وليست فخاخا نوقع فيها الناس، إنما نظام يجب اقتناع الناس به لكى يطبق ويحترم. هذا هو رد فعل الأهرام بعد ساعات قليلة من صدور القانون، وليس باستطلاع آراء معارضين يتحملون وزر ما يقولون، وإنما بقلم اثنين من ابنائه: رئيس قسم البرلمان، وكاتب مرموق. والنشر فى أى جريدة فى الكون ليس مسئولية المحرر ولا قراره، وإنما هو مسئولية رئيس التحرير أولا وأخيرا. ويالتدريج سمح الأهرام لمدفعيته الصاروخية من كبار كتابه وصحفيه بالانطلاق صوب القانون بكل القذائف الفكرية الممكنة، فكتب سلامة احمد سلامة وصلاح منتصر وفاروق جويدة وصلاح الدين حافظ وعبد الرحمن عقل وبنت الشاطئ وإحسان بكر وسكينة فؤاد ومحمد سيد أحمد وغيرهم وغيرهم. وقبل هذه الكتابات وبعدها كانت الأهرام تهيئ الرأى العام لرفض القانون والوقوف إلى جانب الصحفيين الذين انتفضوا فى نقابتهم دفاعا عن حرية الصحافة، ونشرت أول خبر عن رد فعل الجماعة الصحفية على ثمانية أعمدة بعناوين بارزة: جموع الصحفيين ترفض التعديلات الجديدة، مع صورة كبيرة على أربعة أعمدة تبين الغضب العارم على وجوه الجموع المحتشدة! قد يقول متعجب أو رافض: وماذا يعنى هذا، فالأهرام كان مضطرا لاتخاذ هذا الموقف الصارم ضد القانون لسببين.. الأول: لم يكن بمقدوره أن يخرج عن جموع الصحفيين الغاضبين وثورتهم ضد القانون، خاصة أن عددا كبيرا من صحفييه عارضوا القانون من أول لحظة، واتخاذ أى موقف اخر كان يعرضه لانقسامات داخلية. الثاني: أن الأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير كان نقيبا للصحفيين فى ذلك الوقت، وكان يؤدى دوره بالإكراه، واصطفاف الأهرام معهم ضد القانون كان نوعا من الاحتواء الذكى للغضب والثورة، يمكنه من إدارة المعركة مع الدولة دون خروج على النص من الصحفيين الأكثر تمردا وصخبا. يعنى معركة بالإكراه وبالتخطيط مع السلطات.. قطعا هذا كلام فارغ وتافه، لأن الأهرام ليس مجرد جريدة كما قلنا قبلا، وإنما هو مرصد وطن، وفى الوقت نفسه حالة شعبية، مؤسسة له مكانة فى وجدان الناس وقلوبهم، وكان أكثر الجرائد توزيعا وتأثيرا فى مصر، واللعب بالأسلحة الثقيلة مثل الأهرام ليس خطرا فحسب، فالأسلحة حين تنطلق ذخائرها لا ترد ويصعب التكهن بإصاباتها، فما بالك بالأسلحة الثقيلة الصاروخية؟ والأهم أن الصحف القومية اليومية الأخرى وقفت على الضفة الأخرى من نهر الأحداث، بل دافع جزء منها عن القانون باستماته، وكتبت مانشيتات عريضة: لا داعى للخوف من تعديلات القانون ما دام الأمر فى يد القضاء.. القاضى هو الفيصل فى تحديد الفرق بين الازدراء والنقد البناء. وكلفت مؤسسة صحفية مستشارها القانونى بأن يكتب صفحة كاملة عن القانون ومغزاه وأغراضه الاجتماعية بعنوان ضخم: أين هو المساس بحرية الرأي؟!، وتحته: لاداعى للانفعال فليس فى القانون جديد يخشى منه! إذن كان موقف الأهرام من القانون اختيارا من رئيس تحريرها إبراهيم نافع يتسق ودور الأهرام وفى الوقت نفسه كان تعبيرا عن الاتجاه العام داخل الجريدة العريقة. لكننا نتوقف هنا عند أمر شديد الأهمية: كيف لرئيس التحرير أن يتخذ هذا الموقف الصعب ولم يحاول أن يقلد الآخرين الذين فى مثل وضعه المهني، وهو ما يعرضه للمزايدة فى مقارنة معهم أمام الرئيس، وهذه حسبة مصرية شائعة من أيام الملك مينا موحد القطرين: من معى ومن ضدي؟ بالطبع كان إبراهيم نافع يغامر إلى حد المقامرة بمستقبله..وربما بماضيه أيضا. أى لديه ما يخاف عليه من رد فعل الرئيس، وفى مصر ابتسامة الرئيس قرار يرفع صاحب النصيب إلى القمة ، وتكشيرته قرار يخسف بالمغضوب عليه الأرض. وكان الرئيس ضد حركة الصحفيين الرافضة، ولما ناشدوه بإلغاء القانون رد عليهم ساخرا فى محفل عام مذاع على الهواء مباشرة: "هو احنا بنبيع ترمس"! ثم كرر رفضه لضغوط الصحفيين بعبارات جادة لا تسخر منهم. وفتح صفوت الشريف قنواته التليفزيونية للدفاع عن القانون واستضاف عددا من رؤساء تحرير الصحف كان موقفهم مائعا بين اللعب بالألفاظ والتعبيرات ذات المعانى المتناقضة ومسك العصا من المنتصف، وبدت الدولة متراصة متنمرة كأنها ستقاتل من أجل الإبقاء على القانون، لتجنب رجالها الوقوف على الأرصفة "يبيعون الترمس"! قطعا كانت صحف الأحزاب والصحف الخاصة ضد القانون.. وهذا أمر طبيعى ومنطقي، لكن أن يتصدر الأهرام المشهد فكان عنصرا مؤثرا وفعالا للغاية، ولم تفتت كلمات الرئيس فى عضده، ولم تحيده عن موقفه. وتوالت الكتابات الأهرامية تباعا " ديمقراطية المباغتة، حتى لا تصبح حرية الصحافة نكتة، الديمقراطية المصرية تمشى فى الطريق العكسي، اقتصاد حر وقانون غير حر، عشوائيات فى القوانين تشبه العشوائيات فى السلوك والمبانى والفكر، عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء وتفرض قوانين عرجاء، القانون يحول القضاء من قضاء للسلوك إلى قضاء للضمائر والمعتقدات، عقاب الصحافة، يجب ألا يكون عقاب قلة هو السبب فى إصدار هذا القانون المشبوه، هذا قانون يستحق أن يطبق على من أصدروه لإثارة الفزع بين الناس وتكدير السلم العام.. الخ ثم قفز الأهرام الى مربعات المواجهة المباشرة مع الرئيس بنشره رسالة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل إلى الجمعية العمومية غير العادية لنقابة الصحفيين التى عقدت فى 10 يونيو 1995.. كانت رسالة شرسة تشبه معول هدم فى أركان النظام، وكان نشرها بمثابة موقف عداء ليس من القانون فحسب بل من الرئيس نفسه، وكعادة الأستاذ فى صناعة العبارات الأخاذة التى يأتى بها من قصره اللغوى المسحور استهل ديباجة الرسالة بكلمات اقرب إلى لغة الشعر: هذا الاجتماع ( حشد قتال) تتصدى له الطلائع الشابة فى المهنة"، ثم صوب رأيه الانشطارى العابر للقارات إلى هدفه.. - أن الأسلوب الذى اتبع فى تصميم هذا القانون وإعداده وإقراره أسوأ من كل ما احتوته مواده من نصوص، ذلك أن روح القانون لا تقبل منطق الخلسة والانقضاض، وأشهد آسفا ان وقائع إعداده كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقابي. - أن هذا القانون فى ظنى يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها وهى تشعر أن الحوادث تتجاوزها ثم أنها لا تستطيع أن ترى ضروريات التغيير. - القانون حلقة فى سلسلة من التصرفات والسياسات لا تساعد على تماسك البناء الاجتماعى وانتظام الحركة السياسية. - لقد أحزننى تصريح منسوب للرئيس حسنى مبارك منشور فى الصحف نسب إليه فيه قوله بأنه "إذا التزم الصحفيون بميثاق الشرف فإن القانون الجديد سينام من نفسه، ومع كل الاحترام لمقام رئاسة الدولة فإن القوانين لا تعرف النوم وإنما تعرف السهر وهى لا توضع لتنام بكرم العفو أو سحر المغناطيس، وإنما قيمة القوانين أن تعلو حركتها الذاتية فوق إرادات الأفراد. كان يمكن للأهرام أن يتجاهل رسالة هيكل أو ينشر ملخصا لها بعيدا عن العبارات التى تنشن على قلب الرئيس مباشرة، وهو ما فعلته كل الجرائد القومية.. ونشر رسالة هيكل فى الأهرام غير نشرها فى الوفد والجرائد الخاصة.. وبالفعل أثارت رسالة هيكل بركان الغضب فى نفس الرئيس، الذى اخذ موقفا حادا من الأهرام، وقطع خطوط الاتصال المباشرة به، خاصة أن الرسالة صارت "معبدا" طافت حوله الأحزاب ورجال المعارضة، وتحول الهدف من إسقاط القانون إلى إسقاط النظام نفسه.. وهنا كتب إبراهيم نافع مقالين عن حرية الصحافة والصيد فى الماء العكر، موضحا أن قضية حرية الصحافة ليست عملا ضد النظام وإنما ضد القانون وما يمثله من مخاطر غير محسوبة على حرية الرأي. ولم يتوقف الأهرام إلا بعد إلغاء الحبس الاحتياطى أولا ثم الغاء مواد الازدراء كمقدمة انتهت إلى إلغاء الحبس فى قضايا النشر بعد كفاح أسهمت فيه الجماعة الصحفية بأسرها. وهذه معركة كبرى فى تاريخ الأهرام فى عز سطوة الرئيس حسنى مبارك وقبل أن يصيبه الوهن وتهل حكايات التوريث وتشغل البال وتثير المشاعر وتقلب المواجع، هذه أيام مجيدة وليست مجرد " أحداث سابقة" و"مواقف قديمة"، فمازال الأهرام " مرصد وطن" فى لحظات فارقة وصعبة، يبحر فيها الوطن وسط عواصف عاتية بحثا عن مرفأ للأمان والنمو والتحديث والتقدم.