إذا ما أردنا أن نتعرض للكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي، فيما قدمه للفكر والأدب، سنجد أى وصف يمكن أن يضيق عليه، فهو شاعر وروائى وقاص ومفكر ومسرحي. لم يكن كل هذا مراحل مر عليها فى مسيرته الإبداعية، لكنها جوانب فى شخصيته انعكست على كتاباته، فتلك الجوانب جعل لها مزيجا خاصا به، فهو يكتب الشعر والرواية والدراسة بعقل مفكر وقلب شاعر ووجدان أديب. وعلى صفحات الأهرام كان لقاؤه مع قارئه يكتب مرة مسرحيات ومرة دراسات، لكن رغم تعدد الأشكال، كانت الروح واحدة. يقول الشرقاوى عن نفسه: "إذ كنت أنتمى إلى الذين يمكن أن يستشهدوا دفاعاً عن الحقّ والحرّية والخير والإخاءِ .. فما بالى إذن لا أتحمل الآلام مهما تكن جسامتها وغلظتها فى سبيل التعبير باللمة عما أعيش من أجل تحقيقه، حرية الإنسان أن يصبح الانسان بحق أخاً للإنسان وانتصار العدل". لم يجد الشرقاوى تناقضا بين الاشتراكية والإسلام، ما دامت الحرية مع الحق مع الإخاء هى المقاصد والأهداف السامية فوق كل صراع يبتغى الاستغلال أو قائم على شهوات الحياة الدنيا وتهافتها. كان الشرقاوى يؤكد على الرافد الإسلامى فى الثقافة المصرية وكان التاريخ الإسلامى يتجلى له بأفراحه وأتراحه، فيمد الشرقاوى عينيه ويده على ضوء من عقله إلى عمق هذا التاريخ الإسلامى ليكتبه بشكل جديد خاص به هو وحده. فهو لم يخنق نفسه بسياج أو قالب، فتراه يكتب بأسلوب الرواية والمسرحية والقصيدة، فتهدر الأفكار منه تؤكد أن الحقيقة شعور واطمئنان وجدانى يعجز عنها أسلوب البحث التقليدى الذى يرهق به الكثيرون أنفسهم ويلهث وراءهم القراء، فتغيب عنهم كثير من الحقائق. ألا تراه يذكر فى بداية سلسلة «على إمام المتقين» التى نشرها على حلقات فى الأهرام والتى كان يتابعها القراء متابعة عشاق الدراما للمسلسلات التليفزيونية، أنه لا يعد بحثا علميا وأن «من يريد هذا الأمر، عليه طرح الكتاب من يده». أى شجاعة تلك التى انتابت ذلك الشيخ الجليل فى منتصف ثمانينيات القرن العشرين وهو ينشر واحدا من أهم وأخريات أعماله على صفحات الأهرام، شجاعته تلك جعلته يبين منهجه فى الكتابة كسابح فى أعماق شخصيات التاريخ الإسلامي، جعلته لا يتمحك فيما يظن أنه أسلوب علمى ويدخل مباشرة فى صلب موضوعه بكامل وجدانه ووعيه، لعله لفظ ادعاءات البحث العلمى فى وقائع التاريخ التى يلوى فيها بعض المؤرخين وقائع التاريخ ويخرج كل منهم بالنتيجة التى توافق هواه وهو يظن أن جفاء الأسلوب وقسوة النصوص وثقل الكلمات تسبغ «العلمية» على ما يبحثه من وقائع. غير أن عبدالرحمن الذى انتصفت ستينيات عمره وقتئذ، يتحدى بروح الشاب الجسور، كأنه الفتى مهران أو الفلاح عبد الهادى فى رائعته "الأرض". لعل اسلوب الدراسة يضيق عن فيض مشاعره تجاه الحسين الثائر، فيرى خشبة المسرح أشد رحابة من منصة المحاضر ويرى مشاهد الرواية أكثر خصوبة ونماءً من فصول الدراسة. ابتعد عن كل ماهو تقليدى وخانق وضيق، سواء فى انغلاق الدارسين التقليديين من ضيق أفق الفقهاء أو دوجماوية المؤرخين. لكن الشرقاوى أراد أن يثبت أن التاريخ الإسلامى ليس حكرا على أحد، فقد تجاذبته الاتجاهات التقليدية الصماء تارة وأرادت أن تفرض عليه وصايتها وتخضعه لسلطانها وتخلط ما هو تاريخى بما هم عقائدي، فى خلط يوقع من الضرر على التاريخ والعقيدة معا ما يتسبب فى عواقب وخيمة على الشخصية العربية ولاسيما عقل المثقف، فتكون النتيجة إما الانغلاق أو الريبة. وهذه الريبة يغذيها الاتجاه الآخر المضاد للاتجاه التقليدى وهو الاتجاه المتدثر بالعلم والذى نجح كثير من المستشرقين فى فرضه على وعى قطاعات مؤثرة من الكتاب والمثقفين. فقد دافع الشرقاوى عن الإسلام بوعى مفكر مدرك للحقائق لا ترهبه سطوة المدرسة التقليدية ذات الاتجاه شبه الكهنوتى المسرعة إلى التكفير لمن يجرؤ على الخوض فى مسائل العقيدة والتاريخ الإسلاميين دون استئذان، بل وإشراف مباشر منها، فلا يرى الشرقاوى لها سندا فى الوصاية المدعاة على عقل عقل المسلم وروحه. كذلك دافع عن الإسلام غير هياب لاتهامات بالرجعية والانحراف إلى الصوفية والسلبية واللاعلمية وأمثال هذه التهم من جانب التيار الحديث. وعندما انضم المفكر الكبير عبد الرحمن الشرقاوى إلى كتاب جريدة الأهرام، أفرد لهذا الاتجاه لديه مساحات كبيرة يخاطب من خلالها جمهوره الواسع من الدارسين إلى طلبة وتلاميذ الجامعات والمدارس. كانت الأهرام نافذة إعلامية يطل منها كبار الكتاب مساهمين فى مسيرة التنوير، تفسح المجال للمفكرين إيمانا منها بدور المقال فى الثقافة وكان الشرقاوى من أهم كتاب المقالات فقد كان يكتب المطولات وتخصص الصفحات الكاملة له: نشر فى الأهرام حلقات كانت تلقى ذيوعا عظيما بين القراء وكان اليوم المخصص لنشر مقال الشرقاوي، يحجز القراء نسخهم لدى الباعة، ليطالعوا بشغف ما سطره الشرقاوي كتب فى الأهرام عن عمر الفاروق وعرابى زعيم الفلاحين وعلى إمام المتقين، كانت كتاباته جميعا سواء فى القضايا الفكرية أو الشخصيات الإسلامية أو القضايا العامة، تبدو ذات مقصد واحد وهو كيف يمكن أن يضحى رجال بكل مالديهم حتى يتحقق العدل. والشرقاوى يستحضر معك اللحظة التاريخية التى يكتب لك عنها وكأنه يحدثك بصوته وهو يتخير الروايات المعبرة عن الحدث ويقارن بينها فيخرج بها وكأنه يحضرك فى اللحظة التاريخية وقد وقع اختيارنا هنا على نصين من كتابات الشرقاوى على صفحات الأهرام لكنهما يحملان كثيرا من سمات أسلوب عبد الرحمن الشرقاوى شاعرا ومفكرا: ففى العدد الصادر صباح الأربعاء "يوم الشرقاوي" 5 أغسطس 1981 من جريدة الأهرام، كان القراء على موعد معه فى أولى حلقات مسرحيته الشعرية الرائعة "عرابى زعيم الفلاحين" ولعله اختار الشكل المسرحى للكتابة عن الزعيم الوطنى لأن التعبير الفنى المسرحى والشعري، هو الذى يمكن أن يعبر عما يدركه الشرقاوى فى عرابى مسترشدا بوجدان الشاعر المبدع، فأكثر ما يرد من وقائع تاريخ قد تتوه فيها الحقائق، فقد تحول إلى بطل شعبى ورمز من رموز الوطنية المصرية، اختاره لأنه الأنسب تاريخيا للتعبير عن الفلاح المصرى الذى كان هم الشرقاوى الأول، فعلى أرض مصر نشأ أول فلاح فى التاريخ وعلى أكتافه بنيت أعظم الحضارات: بدأ الشرقاوى نشر مسرحيته على الصفحة 13 من جريدة الأهرام صباح يوم الأربعاء 5 أغسطس 1981حيث كتب( عن عرابي): أسمر البشرة فى سمرة طمى النيل ريان السمات خاشع القلب جسور النظرات وهو أواه سخى الدمع يبكى لمآسى الآخرين زاهد من فى كل ما ليس له من متعات. غاضب يهدر كالهيجاء أن يظلمه أو يظلم سواه الجائرون. فإذا ما هزم الجور غدا عذبا حنونا كالسلام. كان يخشاه عتاة الكبراء الصلفين ويخافون الشعاع الخاطف البراق فى عينيه يفتض الذى فى قلبهم من ظلمات.... وفى "على إمام المتقين" يكتب فى "الطريق إلى صفين" الفصل الأول من الجزء الثانى فى المساحة المخصصة له صباح يوم الأربعاء 6 يونيو 1984 فى الصفحة 13 ساردا التاريخ بلغة أدبية وبروح قاص مما جعل تلك المادة التاريخية مشوقة لقارئ الأهرام : لقد بايع أهل الشام معاوية من قبل على الطلب بدم عثمان، "رضى الله عنه". بايعوه لم عزله أمير المؤمنين على "كرم الله وجهه".. بايعوا معاوية أميرا على الشام ووليا لدم عثمان, لا يطمع فى الخلافة، وإنما يطالب عليا بالاعتزال، ليكون الأمر شورى بين المسلمين. فلما قُتل طلحة والزبير رضى الله عنهما فى معركة الجمل، بدأ معاوية يشرئب إلى الخلافة, حتى نجح فى إقناع الناس بأن يبايعوه خليفة وبأن ينادوه بلقب الخلافة "أمير المؤمنين". ثم أخذ يحشد الجنود ليزحف إلى الكوفة ويثب على أمير المؤمنين على بن أبى طالب الذى بايعه من قبل أهل بدر المهاجرون والأنصار, وفى طليعتهم الزبير وطلحة. وكان قد اعتزل الناس نفر قليل من المهاجرين والأنصار، فأرسل إليهم معاوية يسترشدهم فخذلوه ، فكتب إليه محمد مسلمة الأنصارى "فأما أنت فلعمرى ما طلبت إلا الدنيا ولا اتبعت إلا الهوي. فإن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا.."