يتميز عام 1950 من بين أعوام الصراع الثقافي في الحرب الباردة بأنه العام الذي صدر فيه كتاب لعالم اجتماع أمريكي من أصل يهودي اسمه ديفيد ريسمان (2002-1909) مع اثنين آخرين, وكان عنوانه التجمع المعزول, ولكن الكتاب اشتهر بأنه من تأليف ريسمان. والسؤال بعد ذلك: ماذا جاء في ذلك الكتاب؟ الكشف عن تطور الانسان الأمريكي الذي استغرق ثلاثة أنماط ثقافية: النمط الأول توجه تراثي ويقصد به ريسمان الانصياع لقواعد سلوكية وقيم أخلاقية ودينية تأسست في الماضي ومازالت. وعيب هذا التوجه أنه عاجز عن التكيف مع الحداثة, أي مع التنوير والثورة العلمية والتكنولوجية. والنمط الثاني توجه جواني, حيث الطاقات الحيوية التي تسمح للانسان الأمريكي بالتعايش ليس مع التراث, ولكن مع ما يكتشفه هو نفسه في قدرته علي استثمار ما تعلمه في الطفولة, وهو يخترق مرحلة الرجولة. والنمط الثالث هو التوجه نحو الآخر. وقد بزغ هذا النمط في أمريكا مع تأسيس الطبقة الوسطي التي لم تحفل بالنمطين السابقين فلم تتجه نحو التراث ولم تنغلق علي ذاتها, ولكنها انطلقت نحو الآخر لتتكيف مع أسلوبه في الحياة, وهو استهلاك السلع مع وفرة الإنتاج. إلا أن هذا التكيف استلزم, في رأي ريسمان, فهم الآخر, وهذا الفهم استلزم بدوره إثارة أربعة أسئلة: كيف يعيش الآخر؟ وماذا يستهلك؟ وكيف يستثمر وقته؟ وما رأيه في السياسة؟ هذه هي شروط النمط الثالث المواكب للثورة الصناعية, وهي شروط تعني, عند ريسمان, أن يمتنع الانسان عن التحكم في الآخر, أي أن يكون موضع حب وليس موضع تقدير لأن الحب أعظم من التقدير. وتأسيسا علي ذلك كله فانه يمكن القول إن الانسان اذا امتنع عن مجاوزة النمطين الأول والثاني فانه لن يدخل في الطبقة الوسطي المتحكمة في النمط الثالث. واذا تصاعد الامتناع يكون مصير الطبقة الوسطي ذاتها هو العزلة إن لم يكن الطرد من المجتمع. ومن هنا جاء عنوان كتاب ريسمان التجمع المعزول. واللافت للانتباه هاهنا أن ريسمان يري أن ثمة دولا ثلاثا ذات توجه تراثي ليس إلا وهي مصر والهند والصين, إذ هي محكومة بثلاثية هي علي النحو الآتي: الطقوس والحياة النمطية والدين. والسؤال بعد ذلك: ماذا حدث لريسمان ورفاقه من الليبراليين في أمريكا؟ كان عام 1950 الذي صدر فيه كتاب ريسمان هو نفس العام الذي أعلن فيه السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي (1908 1957) بيانا في 9 فبراير في نادي السيدات الجمهوري بفرجينيا جاء فيه أن لديه قائمتين: قائمة بأسماء العملاء الشيوعيين في وزارة الخارجية الأمريكية, وقائمة أخري بأسماء الممثلين والأدباء والموسيقيين, ومن بينهم ريسمان ورفاقه. وخلص من ذلك إلي أن أمريكا في طريقها إلي أن تكون دولة شيوعية. وإثر صدور هذا البيان صكت صحيفة وشنطن بوست الأمريكية مصطلح مكارثية ويعني التشهير بالآخر من غير سند واقعي. والمفارقة هنا أن مكارثي نفسه أيد هذا المصطلح وأصدر كتابا في عام 1952 عنوانه المكارثية: الحرب من أجل أمريكا اتهم فيه الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1945 1953) وأعضاء حزبه الديمقراطي بأنهم متحالفون مع الشيوعيين, كما اتهم ريسمان ورفاقه الليبراليين بأنهم غوغائيون. أما ترومان فقد اتهم مكارثي بأنه مبعوث من الكرملين لتشويه صورة وزارة الخارجية الأمريكية. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر الآن وهي محكومة من الاخوان المسلمين والسلفيين, فكأنها محكومة من المكارثيين: تشهير بمن ليس معهم بأنهم سحرة فرعون وكفار وذاهبون إلي جهنم وبئس المصير. هكذا يتصورون أو بالأدق هكذا يتوهمون. المزيد من مقالات مراد وهبة