"كأنما خرج الإسلام فجأة من غياهب المجهول ليعلن عن وجوده! وكأنما لم يكن الإسلام دينًا وثقافة ونظامًا للقيم والأخلاق عاش على مدى أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحساب البشر!!". (د. قاسم عبده قاسم - من مقدمة ترجمته لكتاب "الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة" لجون ل. إسبوزيتو). من ليس معنا.. فهو ضدنا هكذا أعلن جورج دبليو بوش في إعلانه الحرب على الإرهاب، بعد تعرّض أمريكا لهجمات 11 من سبتمبر 2001.. والحقيقة أن تلك العبارة المستفزّة لم تضِف جديدًا للسياسة الأمريكية، فمنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية كان هذا لسان حال العم سام مع دول العالم، فأمريكا التي ذاقت خمر القوة بعد خروجها منتصرة من الحرب سنة 1945، قد اعتبرت نفسها النمط المثالي للحضارة الإنسانية، فبدأت -بعد سقوط النازية- تبحث عن عدو جديد تمارس معه دور "الوكيل الوحيد الحصري للإنسانية" وتحاربه، فلم تجد كفئًا لها سوى الكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق، وانجرّ العالم لحرب جديدة -باردة هذه المرة- وخرج الكاوبوي الأمريكي من حدوده أكثر من مرة لخوض غمارها في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا، بدعوى الدفاع عن "الحرية والمُثُل العليا الإنسانية". بل وشهدت الولايات حربًا داخلية في بداية خمسينيات القرن الماضي، قادها السيناتور جوزيف مكارثي ضد عدد ضخم من السياسيين والمثقفين مدمّرًا حياتهم المهنية والعامة بدعوى "وجود اشتباه في تعاطفهم مع الشيوعية أو تعاونهم مع القوى المؤيدة لها"!. وبعد سقوط العملاق السوفيتي وكتلته العاتية، بدأت أمريكا على حد قول المفكر اللبناني أمين معلوف في كتابه "اختلال العالم": "تخوض غمار مشروع هائل يُنهكها ويدفع بها إلى التيه: أن تروّض بمفردها -أو تقريبًا بمفردها- كوكبًا يستحيل ترويضه!". والأمريكيون -لمن يلاحظ- لديهم ولع بأمرين: أن يكون لديهم بطل قومي (سوبرمان)، وأن يكون لهم عدو رقم واحد. وفي بداية التسعينيات، لم يكن أجدر من "الإسلام" بلعب دور هذا العدو المنشود.. وهذه النقطة تجعلنا نطرح على أنفسنا سؤالاً هاماً.. لماذا أمريكا؟ لماذا أمريكا؟ لماذا أعطيتُ مثالاً بأمريكا فقط؟ ماذا عن أوروبا أو آسيا؟ الإجابة البسيطة المباشرة هي أن ثمة واقعاً لا جدال فيه أن أمريكا تضع سياسات وتوجهات العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وكل ما لدى سائر الدول القوية الأخرى هي "مساحة محدودة من حرية القرار" في النطاق الموضوع لها مسبقًا من الولاياتالمتحدة، زعيمة النظام العالمي. بدا ذلك بشدة منذ الدور الأمريكي في توجيه "الأمر" لبريطانيا وفرنسا بإنهاء عداونهما على مصر في 1956، وتدخلها في فيتنام، ومحاربتها الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية، ورعايتها اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وتواجدها الكثيف في الخليج بحجة "حمايته" من عدوان العراق خلال حكم صدام حسين... إلخ، واقتصر الدور الأوروبي على تقديم "الدعم" أو الاعتراض الهزيل غير المجدي على "بعض" التحركات الأمريكية.. كل ذلك يُؤكّد حقيقة تسمية بعض المفكرين لعصر ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أيامنا هذه ب"العصر الأمريكي".. إذن فلو بحثنا عن محرك آلات مصنع ال"إسلاموفوبيا" الحالية فسنجد عليه عبارة "صُنِع في أمريكا".. ووصفي تلك الإسلاموفوبيا ب"الحالية" سببه قِدَم ميلاد ذلك المرض الوبائي. فتعالوا ننظر... قَصّ الأثر أحيانًا ينبغي على الباحث في التاريخ أن يلعب دور قصاص الأثر، فيتتبع الآثار الحديثة حتى يعرف مصدرها القديم.. ولن نجد "حالة" نتتبعها أفضل ممَن يمكن تسميته ب"باعث الحركة الإسلاموفوبية" وأعني به "جورج دبليو بوش"؛ حيث تحوّل ذلك الداء في عهده من حالات فردية على شيء من الانتشار إلى "تيار حاد وعنيف وقوي الحضور"، وتزامن مع إعلانه الصريح عن أن حربه "حرب صليبية جديدة" يقودها ب"توجيهات مباشرة له من الرب الذي -على حد قوله- يتحدّث إليه!". لو نظرنا في التاريخ لوجدنا حالة "بوش" تتمثل في شخصيتين؛ الأولى: هي الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول -أول إمبراطور مسيحي- والثانية: في البابا أوربان الثاني -محرّك أولى الحملات الصليبية. فالأول حاول استقطاب الجماهير المسيحية من خلال اعتناقه الدين المسيحي، وبدأ يلعب دور "رجل المسيح الأول"، ويدّعي تلقيه "توجيهات إلهية" لكل صغيرة وكبيرة من خطواته، وبدأ يتدخّل في شئون الكنيسة بما جعل سلطته في النهاية تتسع من إمبراطور دنيوي إلى راعٍ للدنيا والدين. أما البابا أوربان الثاني، فقد أطلق نداء "الجهاد" الصليبي بدعوى حماية المسيحية والمسيحيين من "انتهاكات" المسلمين، فوضع قناعًا دينيًا على وجه الأطماع الاستعمارية الدنيوية، من رغبته في السيطرة الكاثوليكية على كنائس الشرق الأرثوذكسية، وسعيه لنقل أرض الصراع الدامي بين الأمراء المشاغبين إلى مكان بعيد عن أوروبا، ومحاولته توطيد سطوته على العامة من خلال ظهوره أمامهم مظهر من يحرّك ملوك أوروبا بإشارة من يده لأجل حماية المثل العليا الإنسانية. أما الخيط الذي يربط تلك الشخصيات الثلاث -قسطنطين وأوربان وبوش- فهو كالآتي: فقسطنطين هو أول إمبراطور روماني مسيحي، وأول من ربط السلطتين الدينية بالدنيوية في أوروبا المسيحية، أما البابا أوربان الثاني فقد كان يؤمن -كأسلافه منذ سقوط الدولة الرومانية- بأن البابوية هي الوريث الشرعي للسلطة الإمبراطورية في حماية المسيحية الحقة، وأما بوش الابن فهو من ناحية يعتبر نفسه بمثابة "نبي جديد للمسيحية"، ومن ناحية أخرى هو جزء من المنظومة الحاكمة الأمريكية التي اعتبرت نفسها -منذ تأسيس الدولة ذاتها- وريثًا للرومان، حتى أن الاسم الأول المقترح للعاصمة كان "روماالجديدة"، ولا يخفى على الملاحظ ما في التشابه بين نظامي الحكم الروماني والأمريكي، سواء من حيث الحياة النيابية أو السياسة الخارجية حتى أن ذلك التشابه موضوع لعشرات الدراسات الهامة. إذن فبوش جمع بين محاولة قسطنطين للعب دور "البطل المسيحي"، واعتبار أوربان الثاني أن الإسلام هو "الخطر على المسيحية"، فأصبح يسعى لأن يكون "البطل المسيحي المناضل ضد الخطر الإسلامي على الحضارة المسيحية". ولكن دعونا نتفق هنا على أن بوش الابن عبارة عن "حالة" تمثل تيارًا عامًا تختلف مكوناته النفسية والاجتماعية والفكرية، ولكنه الحالة الأبرز مؤخرًا، لكنها ليست الحالة "الأولى"، ولا "المنفردة". الخوف المرضي من الإسلام بات شائعاً في أوربا نتيجة مؤسفة النتيجة المؤلمة لارتداء تيار معاداة الإسلام رداء المسيحية تمثّلت في تحوّل الأمر للصورة المشوّهة الآتية: الحضارة "المسيحية - اليهودية" ضد "الإسلام"، وبدلاً من أن يتم التعامل مع الإسلام باعتباره جزءًا من الخط المستقيم "اليهودية - المسيحية - الإسلام"؛ حيث يعبد أهل الديانات الثلاث نفس الإله، تم تصنيفه باعتباره "عقيدة وثنية دموية فوضوية" يختلف إلهها عن إله المسيحيين واليهود. وتحوّل الأمر بالتالي من حرب بين أنصار فريقين متعارضين -بغض النظر عن عقائدهم- إلى حرب بين دينين.. الأمر الذي ينافي المنطق والأخلاق، خاصة مع وجود نسبة ضخمة من غير المسلمين في المكوّنات الرئيسية للمجتمعات الإسلامية، ونسبة ضخمة مماثلة من المسلمين في المجتمع الأمريكي والمجتمعات الحليفة له في تلك الحرب، مما يعني أن الأمر في حقيقته لا يخرج عن كونه حربًا للإنسانية ضد نفسها! المقعد الشاغر أعتقد جديًا أن بداية ما أسماه دكتور جلال أمين "عصر التشهير بالعرب والمسلمين" -في كتابه الذي يحمل نفس الاسم- ليست مرتبطة بأحداث 11 من سبتمبر 2001 إلا من حيث التوقيت، لكنه -ذلك العصر- كان قادمًا في كل الأحوال. فقد كان مقعد "عدو الإنسانية" شاغرًا منذ سقوط الشيوعية، وكان لا بد من ملء فراغه بعدوّ مناسب، وكانت نفس الإجراءات العدوانية تنتظر المنتسبين أو المشكوك في انتسابهم لذلك العدو، من إجراءات تعسفية تمييزية، وملاحقة، وتشويه للصورة، واتهامات جزافية، أي أن الفترة المكارثية (نسبة لجوزيف مكارثي سالف الذكر) تكررت بحذافيرها، ولكنها اتسعت لتشمل دولاً ومؤسسات كاملة لا مجرد أفراد! "اكتشاف" العدو وبالفعل كما قال دكتور قاسم عبده قاسم في العبارة التي بدأتُ بها المقال "كأنما خرج الإسلام فجأة من غياهب المجهول"! فبعد قرون من وجوده في الحياة "اكتشف" العالم فجأة أن الإسلام دين دموي شرير، والأكثر اعتدالاً من الإسلاموفوبيين قسَّم المسلمين إلى "مسلمين طيبين" و"مسلمين متعصبين إرهابيين"، صحيح أن التقسيم في حد ذاته موجود لا بين أتباع الإسلام وحدهم ولكن بين أتباع كل عقيدة ومبدأ، ولكن المشكلة تكمن في "أساس" التقسيم، ف"الطيبون" هم من يوالون أمريكا، سواء كانوا نظمًا حاكمة أم أفراداً، أما "الأشرار" فهم كل معارض للهيمنة الأمريكية على العالم، سواء اتخذوا لذلك طرقًا مشروعة، أم أساليب إرهابية يرفضها الإسلام نفسه!. صحيح أن التاريخ شهد هجوم الكثيرين على الإسلام، ولكن أيامنا هذه تشهد "تكثيفًا" لهذا الهجوم بشكل يعطيه صورة الوباء. لقد قرّر البعض أن يمارسوا "العبقرية بأثر رجعي" فيكتشفوا بعد قرون من نزول الإسلام، وقيام علاقات سلمية وحربية بينه وبين مختلف الحضارات والبلدان، أن هذا الدين "شرير" وأتباعه "أعداء للإنسانية". ولا عقلانية هذا "الاكتشاف" تُؤكّد ما ذكرته في الجزء الماضي من أن الإسلاموفوبيا لا تخرج عن كونها "حالة مَرَضية" مخيفة! (يتبع) مصادر المعلومات: 1- عصر التشهير بالعرب والمسلمين: د. جلال أمين. 2- اختلال العالم: أمين معلوف. 3- التاريخ الوسيط: نورمان كانتور. 4- الحملة الصليبية الأولى.. نصوص ووثائق تاريخية: د. قاسم عبده قاسم. 5- الخطر الإسلامي.. خرافة أم حقيقة: جون ل. إسبوزيتو. 6- إنجيليون في البيت الأبيض: مختار بن بركة. 7- أمريكا والعالم: د. رأفت الشيخ. 8- الإسلام في عيون غربية: د. محمد عمارة. 9- المسلمون وأوروبا: د. قاسم عبده قاسم. 10- لماذا تقتل يا زيد؟: د. يورجين تودينهوفر. 11- تاريخنا المفترى عليه: د. يوسف القرضاوي. 12- ماهية الحملات الصليبية: د. قاسم عبده قاسم. 13- العالم البيزنطي: ج. م. هسي. 14- الحرب الصليبية.. تواريخ حرب ظالمة: جيمس كارول. اقرأ أيضاً إسلاموفوبيا: نقطة.. ومن أول السطر