فرضت ثورات الربيع العربي التي استهدفت تغيير الواقع الذي استوطنه الاستبداد السياسي والفكري, المزيد من التحديات في مختلف المجالات, ولم يعد ممكنا الارتكان إلي ما كان صالحا بالأمس في البناء للمستقبل. وفي ظل بروز التيارات الإسلامية والخطاب الديني علي الساحة الدعوية والسياسية والإعلامية, تعالت مطالب علماء الدين والفلاسفة بتأسيس هذا التغيير علي تنوير فكري حقيقي يعمل العقل والتفكير النقدي, بدلا من التقليد النقل, وبرزت مطالب الفلاسفة بتنوير الفكر الإسلامي, وإنزال مقولاتهم علي واقع وحياة الناس بدلا من التنظير في قاعات الدرس. وإذا كان مصطلح التنوير علي وجاهته وضروراته الملحة يثير لدي البعض المخاوف من تقليد الغرب أو التطاول علي ثوابت الدين الإسلامي, فان أبحاث ومناقشات المؤتمر الدولي السادس عشر للفلسفة الإسلامية والذي نظمته كلية دار العلوم بجامعة القاهرة الأسبوع الماضي تحت عنوان التنوير في الفكر الإسلامي.. ضرورته وآفاقه بمشاركة كبار علماء الدين والفلاسفة من مصر وعدد من الدول العربية والأجنبية, جاءت لتؤكد حاجة الأمة الإسلامية إلي التنوير وتحكيم العقل للكشف عن الطريق الآمن للخلاص, وتنادي بتبني مشروعات علمية في مجالات التعليم والإعلام والتربية والدعوة, وإتباع المنهج العلمي الرصين في التعامل مع الآخرين في الغرب والشرق بعيدا عن التعصب والانغلاق والتعميم في الأحكام, وضبط المصطلحات وتحديد مضامينها, وربطها في أصولها وغاياتها بالحضارة الإسلامية, دون توان أو إبطاء حفاظا علي الهوية الحضارية والتراث التاريخي للأمة, وتغيير العقلية العربية الإسلامية التي تتلمس طريقها وسط موجات من الاضطراب الفكري الذي يخيم علي مجتمعاتنا في الشرق العربي الإسلامي. تحديات العولمة والفضائيات الدكتور عبدالله الشرقاوي, أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية دار لعلوم, يري أن جوهر رسالة الفلاسفة العرب في المرحلة المقبلة هو الإسهام الفاعل في تجديد الفكر الإسلامي وتأهيله للتعامل مع التحديات التي تواجه العقل الإسلامي في عصر العولمة والفضاءات المفتوحة وشبكة المعلومات وتلاشي الحدود والمسافات وتدفق المعلومات وتطويع اللغات, لأن الأمم لا تتقدم إلا إذا أصلحت وعدلت من طريقة ومنهجية تفكيرها, واستخراج الكنوز من الفكر الإسلامي, وألا نغلق الباب أمام الاستفادة من الفكر الأوروبي, والتنوير الإسلامي هو الذي يجمع بين الإيمان والعلم وبين العقل والدين. أمة حائرة ويري الدكتور محمود حمدي زقزوق, وزير الأوقاف الأسبق, ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية, أن عالمنا العربي والإسلامي في أشد الحاجة إلي حركة تنويرية شاملة في محاولة لإخراجه من حالة الجمود والتخلف التي تسيطر عليه منذ مدة طويلة, وهذا أمر يحتاج إلي بذل جهود كبيرة لتغيير العقلية العربية الإسلامية التي تتلمس طريقها وسط موجات من الاضطراب الفكري الذي يخيم علي مجتمعاتنا في الشرق العربي الإسلامي, فالمتأمل في أوضاع هذا الجزء من العالم تستبد به الدهشة للحيرة والارتباك المسيطرين علي خطوات هذه المجتمعات, الأمر الذي دعا أحد المفكرين الإسلاميين والمعاصرين إلي وصف الأمة الإسلامي بأنها أمة حائرة في عالم محير. هذا الواقع المحير يرجع الدكتور زقزوق أسبابه إلي بروز تيارات فكرية تحاول أن تشد هذه المجتمعات إلي الوراء متعامية عن مستجدات العصر, وماطرأ علي العالم من تطورات جوهرية, وعلي النقيض من ذلك توجد تيارات أخري تحاول أن تقضي علي تخلف هذه المجتمعات بجذبها بقوة بطريقة قد تفقدها توازنها وتقتلع معها جذورها, بل وتفقدها هويتها, ويبدو الأمر كما لو أنه خيار بين تيارين متطرفين يمثلان إفراطا في جانب وتفريطا في جانب آخر, وهنا تأتي ضرورة التنوير وتحكيم العقل للكشف عن الطريق الآمن للخلاص. وأشار الدكتور زقزوق إلي مايثيره مصطلح التنوير لدي البعض في عالمنا العربي من الحساسية أو عدم الارتياح أو حتي الرفض بوصفه مصطلحا يحمل معني مستوردا من الغرب, وبالتالي يضعه هذا البعض في سلة واحدة مع مفاهيم أخري لها وقع سلبي في أذهان الكثيرين من المسلمين مثل العلمانية وما يتصل بها من مفاهيم يتوهم أنها تهدف إلي محو الهوية الإسلامية. ويضيف: حقيقة الأمر أن هذه الحساسية وهذا التوهم لامبرر لهما, فحتي إذا كان صحيحا أن مصطلح التنوير في اللغات الأوروبية غربي المنشأ, فإن هذا المصطلح عربي أصيل, ولايحمل معني ملتبسا, وبصرف النظر عن ذلك فلا يجوز لنا أن ننسي أن الحضارة الإسلامية قد استوعبت في السابق مصطلحات أجنبية عديدة أصبحت جزءا من ثقافة الأمة دون حرج أو إضرار بالهوية العربية الإسلامية. كما طالب الفلاسفة وعلماء الدين برفع شعار التنوير لتكن لديك الشجاعة في استخدام عقلك, وليس التنوير في حاجة إلا إلي الحرية كما دعا الباحثون إلي دراسة أفكار ابن رشد من مؤلفاته هو لا مما كتب عن الرشدية الغربية. إشكالية المصطلح معني التنوير وإشكالية المصطلح انقسم حوله الفلاسفة مابين مؤيد ومعارض ومعتدل قسم التنويرإلي نوعين: إيجابي وسلبي, الدكتور مصطفي حلمي أستاذ الفلسفة الإسلامية يري أن التنوير من مفهوم إسلامي يقوم علي عدة أسس منها: علم وهدي من كتاب الله( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات لي النور بإذن ربهم إلي صراط العزيز الحميد)( إبراهيم1), ثم تحرير الإنسان من تقاليد الأولين( وكذلك ماأرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدي مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)( الزخرف:32-34), ثم تحرير الإنسان من الهوي( ولاتتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله)( ص:26),( بل أتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)( الروم:62), ثم تحرير الإنسان من قيود وأغلال التزم بها الناس فكرا وسلوكا فصيرتهم موتي وهم بعد أحياء( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم)( الأعراف:157) فالتنوير باختصار هو تحصيل العلم وتحرير طاقات الإنسان الخلاقة. التجارب الغربية وعلي قدر ماأثاره مشروع التنوير الغربي من إشكاليات وسجالات علمية وفقهية وتحذيرات من الانسياق وراء مفاهيم التنوير والليبرالية والعلمانية الغربية,جاءت توصيات المؤتمر لتطالب بالإفادة من نقد المفكرين والفلاسفة الغربيين للتنوير والحداثة في الغرب من حيث تشكيكهم في قدرتها علي تحقيق أهدافها, وإبراز مدي ما أفاده الفلاسفة الغربيون في نقدهم لمشروعهم التنويري الحداثي من الفكر الإسلامي التراثي منه والمعاصرة والعناية بدراسة مشروعات التنوير العربية, دراسة منهجية موضوعية للتعرف علي إيجابياتها وسلبياتها. كما طالبوا بضرورة الانتقال بالفكر التنويري الإسلامي من التنظير إلي واقع حياة الناس, وذلك من خلال مشروعات علمية في مجالات التعليم والإعلام والتربية والدعوة, واتباع المنهج العلمي الرصين في التعامل مع الآخرين في الغرب والشرق بعيدا عن التعصب والانغلاق والتعميم في الأحكام. وأكد الباحثون أهمية إنشاء مراكز بحثية متخصصة يشارك في أعمالها باحثون في الدراسات الإسلامية والسياسية والاجتماعية لتناول ماتنتجه المراكز الغربية من بحوث ودراسات عن العالم الإسلامي تناولا علميا, وأن التنويرأو الاستنارة الغربية تحوي أفكارا أو جوانب إيجابية مهمة وأخري سلبية, ومن ثم لايصح قبولها جملة أو رفضها جملة.