رحل عن عالمنا عميد من عمداء الفلسفة العربية وفارس من فرسان التنوير والعقلانية والتحرر الفكري هو الدكتور محمد عابد الجابري استاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالعاصمة المغربية عن عمر يناهز الخامسة والسبعين عاما في بيته في الرباط صباح الاثنين الثالث من هذا الشهر, بعد حياة حافلة بالانجازات العلمية والفكرية والنضال السياسي علي المستوي الوطني. وهو بلاشك صاحب مدونة فلسفية وضعته في طليعة الفلاسفة المجددين في الفكر العربي, المعنيين بسؤال النهضة وتحديث المجتمع ودراسة آليات العقل العربي وصولا إلي تأسيس أرضية جديدة لتحقيق التقدم والالتحاق بركاب العصر. وقد تعددت اللقاءات التي جمعتني به علي مدي العقود الأربعة الأخيرة كان أولها في بداية اطلالته علي عالم الفكر عام1975 في مدينة بغداد عندما شاركنا سويا في مؤتمر انتظم في العاصمة العراقية عن ألفية الفيلسوف الفارابي, حيث جاء في معية أستاذه وعميد كلية الآداب التي يعمل ضمن هيئة تدريسها الدكتور محمد عزيز الحبابي, وقدم في ذلك المؤتمر ورقة عن تاريخ المحتفي به تضمنها بعد ذلك كتابه قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي, وظهرت فيها ألمعيته كباحث يستخدم أدوات حديثة في تحليل الخطاب السلفي, ثم شاءت الصدف أن التقي بالمفكر الكبير في بداية انجاز مشروعه الفكري الذي اشتهر به فيما بعد, حيث التقينا عام1982 بمدينة تونس, في إطار المشاركة في المؤتمر الكبير الذي شهد حضورا مكثفا لفعاليات فكرية عربية كثيرة, وكان موضوعه مقاومة الغزو الثقافي, تركزت مشاركتي حول حوار الحضارات بعنوان أبناء الماء وأبناء النار ملاحظات حول التواصل بين العرب والغرب, وكانت ورقة الدكتور محمد عابد الجابري في محور تأصيل الفكر العربي وقدم ورقة تؤسس لنظريته في نقد العقل العربي, تدور حول ما أسماه أمة البيان وأمة البرهان, مضيفا إليها بعدا تراثيا ثالثا هو العرفان, وهي الورقة التي كانت الشرارة الأولي في موسوعته الفلسفية ذات الأربع مجلدات والمعنية بنقد العقل العربي منحازا فيها إلي البرهان, باحثا عن جذور الفكر العقلاني في فكر فلاسفة مثل ابن رشد, وهي كتب تكوين العقل العربي, وبنية العقل العربي, والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي, وكان قبل هذه الرباعية قد أرهص لمشروعه بعدد من المؤلفات التي صدرت قبلها ومهدت لها مثل كتابه الصادر في مطلع السبعينيات وهو كتاب نظرية خلدونية في التاريخ العربي الاسلامي, الذي كان أساسا لاطروحته لنيل دكتوراه الدولة, ثم الحقه بعد عدة سنوات بكتابه مدخل إلي فلسفة العلوم, والعقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي, ثم توالت مؤلفاته حتي بلغت ثلاثين كتابا, تضمن الحوار بين مشرق الوطن العربي ومغربه الذي بدا مناظرة في مجلة اليوم السابع, بين اثنين من أساطين الفكر والفلسفة هما الجابري وحسن حنفي, حول الدين والدولة وتطبيق الشريعة, وأسهم الراحل الكبير مع مركز دراسات الوحدة العربية في انجاز أسفار تتصل بتاريخ الفلسفة والفلاسفة العرب, وكان آخر مشاريعه سفرا متعدد الاجزاء يتصل بفهم وتفسير القرآن الكريم أصدره تحت عنوان مدخل إلي القرآن, استثار به حفيظة بعض المتزمتين من سدنة المؤسسة الدينية, وفي تلك الورقة المؤسسة لمشروعه عن تفكيك آليات العقل العربي, يعود الجابري إلي عصرالتدوين العربي معتبرا إياه النقطة المرجعية الأساسية في تكوين الفكر الذي انتجه العقل العربي, خاصة فيما أصبح عنوانا لأمة البيان, لأن ذلك التدوين اعتمد علي الانسان البدوي والمجتمع البدوي بحثا عن النقاء اللغوي, ليضع ذلك البدوي طابعه وبصمته وأسلوب تفكيره علي الاسلوب والمنهج الذي اعتمده عصر التدوين, تسييدا للبيان علي البرهان. واعتبر الجابري ذلك العصر نقطة البدء في البحث عن المفاهيم والآليات التي ساهمت في تكوين بنية ذلك العقل ونقد تلك البنية, باعتبار أن نقد العقل كما يقول الجابري جزء أساسي أولي لكل مشروع للنهضة, وان هذه المراجعة الشاملة التي يقوم بها لآليات هذا العقل ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه, انما تهدف بالدرجة الأولي, إلي المساهمة في وضع أسس النهوض العربي, وتغليب قوي العقل المستنير علي العقل المستقيل وقوي التنوير علي القوي المضادة للعقل الفاعلة في وعي ولا وعي المجتمع العربي, وتشييد الأعمدة لما يسمي في الأوساط الأكاديمية والفكرية المشروع النهضوي العربي, من خلال تحليل الخطاب السلفي بمنهجية وموضوعية, تحليلا واعيا وعميقا والقيام بعملية نقد مسئول لما تراكم عبر حقب تاريخية من جهود فكرية والاهتداء إلي عناصرالفكر العقلاني التنويري الديمقراطي وسط ركام القوالب التي تكرس الجمود والثبات بل الانغلاق والاستبداد, وكما يقول أحد دارسي فكر الجابري وهو المغربي عبدالله المعقول, انه يبحث في التاريخ من أجل الحاضر طارحا سؤال: كيف الوصول إلي تحقيق الحياة التي يستحقها الانسان العربي؟ ربما هذا هو السؤال المركزي الذي يحكم فكر الأستاذ الجابري برمته؟. وجدير بالقول إن الاستاذ الجابري قرن القول والكتابة والتنظير بالعمل والسلوك والممارسة, فكانت حياته امتدادا لأفكاره, وانخرطا منذ بداية الشباب مناضلا في صفوف المكافحين من أجل الاستقلال في المغرب, وكان واحدا من جيل المؤسسين لحزب الاتحاد الاشتراكي زميلا لكبار مناضليه أمثال المهدي بن بركة والفقيه البصري واليوسفي. إلي أن وصل إلي عضوية المكتب السياسي الذي يدير الحزب قبل أن يستقيل متفرغا لمشروعه الفكري, وعندما وصل الحزب إلي اتفاق مع الملك علي تشكيل الحكومة برئاسة اليوسفي, عرض رئيس الوزراء منصب وزير الثقافة علي الأستاذ الجابري فاعتذر عن قبول المنصب الوزاري من أجل ألا يشغله عن مواصلة مشروعه الفكري, كما اعتذر عن مناصب أخري كثيرة خارج وداخل المغرب. تنويريا من ذوي القامات السامقة, عليه رضوان الله. [email protected]