في اليوم الرابع من هذا الشهر رحل عنا فارس من فرسان الثقافة العربية والإسلامية د. محمد عابد الجابري أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية. بعد أن خلد بفكره ومنهجه العقلي آفاق الاجتهاد ودعوات التجديد وآيات التنوير, وتمثل التراث ونقده في سياقاته الاجتماعية والسياسية والمعرفية. وفي تقديري أنه يقف خالدا بالصف الأول في عالم الفلسفة بتأثير كتاباته الغزيرة المبدعة. والجابري من أسرة مغربية عصامية تدرج في حياته من مدرس وناظر مدرسة ومفتش واستكمل دراساته في جامعة السوربون الفرنسية ليحتل كرسي الأستاذية في الجامعة. ومع تنوع ثقافته المعرفية وعقليته المبدعة الناقدة ظل الجابري أمينا متسقا في كتاباته, ملتزما بما عرف بالعقلانية الرشدية( نسبة للفليسوف ابن رشد), وداعيا إلي( استنبات رشدية عربية إسلامية, قادرة علي أن تعطي لحياتنا الثقافية ما هي في حاجة إليه من القدرة الذاتية علي التصحيح والتجديد) حسب مقولته. وهو يؤمن كذلك بأن( ترشيد الإسلام السياسي والتخفيف من التطرف الديني إلي الحد الأقصي لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع أوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية). وهو بذلك يؤكد أهمية إعمال العقل وانفتاح الرؤية الناقدة لظروف الزمان والمكان, والتحرر من قيود التفسيرات الماضوية,( ومن فساد منطق أن ما تم تحقيقه في الماضي يمكن تحقيقه في الحاضر والمستقبل) إذ أن هذا المنطق( مبني علي رؤية غير تاريخية... فالتاريخ لا يعيد نفسه, ولو كان يعيد نفسه لما كان تاريخا بل زمانا ممتدا) وللجابري مؤلفات عديدة تمثل روحه العلمية النقدية الاجتهادية في مواجهة مصادر ما أسماه ب(العقل المستقيل), نشير إلي ثلاثة من عشراتها( نقد الفكر العربي. العقل السياسي العربي, العقل الأخلاقي العربي..., كذلك تابع برعاية مركز دراسات مركز الوحدة العربية( بيروت) الإشراف علي نشر خمس من مؤلفات ابن شد مع مقدمة اضافية لكل منها, موضحا دلالاتها الفكرية) وإذا كان الجابري قد تعرض في بعض الفترات لموجات من الهجوم علي مقولاته والتي أدي بعضها إلي اعتقاله, إلا أن عزاءه جاء في نيله باستحقاق عام2008 لجائزة ابن رشد التي تمنحها ألمانيا في مجال حرية الفكر, لكنه لم يتمكن من السفر إلي ألمانيا لتسلمها نظرا لظروفه الصحية, وهي جائزة رفيعة القيمة والمقام تمنح حفزا ودعما لحرية الرأي والتعبير والتجديد في مختلف مجالات المعارف الإنسانية والاجتماعية والإعلامية والفنية. ومبتغي القول إن رحيلك عنا يا جابري لن يخففه أي عزاء لخسارتنا فيك, أيها الفارس المغربي العربي, وربما كان عزاؤنا الوحيد أن نواصل دعوتك إلي( العقلانية الرشدية في ثقافتنا وتعليمنا, وإلي إزالة عوامل غربة المثقفين عن تاريخهم, والحرص علي بيان مخاطر توظيف الدين واستغلاله في محيط السياسة, وتطبيق منطق قياس الحاضر علي الماضي) وأخيرا فإني أدعو لجنة الفلسفة في المجلس الأعلي للثقافة أن تنهض بتكريم زميلهم المغربي تقديرا لريادته وإسهاماته الكثيفة في ساحة الفلسفة والدراسات الفلسفية والثقافية.