بعد أيام قليلة تخطو مصر خطوة كبيرة علي طريق المشاركة الشعبية مع صانع القرار السياسي بانعقاد مجلس النواب، عقب انتخابات شكلت في الخيار الشعبي تنوعا سياسياً واجتماعياً منح شرائح وفئات قدرة أكبر علي الوصول إلي المجلس التشريعى، ورفع من نسبة مشاركة الشباب والمرأة في أول تجربة برلمانية بعد الثورة الشعبية في 30 يونيو التي خرجت الجماهير فيها رفضاً للتهميش، وسيطرة فئة أو جماعة علي العملية السياسية وحماية لهوية المجتمع. في كلمته خلال احتفال المولد النبوي الشريف، قال الرئيس السيسي موجها كلامه للشعب المصري، إننا قد أكملنا الاستحقاق الثالت لخريطة المستقبل، بمشاركة واعية من المرأة المصرية، ليكتمل بذلك البناء المؤسسي، والتشريعي للدولة وتواصل مسيرتها نحو غد أفضل بالتعاون البناء والعمل المشترك بين مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث الحرص علي العمل المشترك بين السلطات الثلاث يأتي في مقدمة الأولويات في تلك المرحلة الدقيقة من العمل الوطني، وتعكس مفرداته علي الدوام رغبة حقيقية في أن يقوم البرلمان القادم بواجباته كاملة في صياغة القوانين، ومراقبة أداء الحكومة، ولو عدنا إلي مناشداته للمواطنين قبل بدء العملية الانتخابية فسنجد دعوات لضرورة حسن الاختيار لنواب الشعب، ووضع المستقبل نصب أعيننا ونحن أمام صناديق الاقتراع. تحدث الرئيس أيضا في احتفال المولد النبوي الشريف إلي الناس حديثا مباشرا ومن القلب قائلا: «موقع الرئاسة الذي توليته بإرادتكم الحرة ما هو إلا تكليف وضعني أمام العديد من المسئوليات الجسام التي أدعو الله عز وجل أن يعينني عليها بمساعدتكم. أود أن أؤكد لكم أنني أشعر بنبضكم، وبما تعانيه كل أسرة مصرية فقدت أعز ما لديها في معركتنا ضد الإرهاب.. وأسعي جاهدا بمعاونة الحكومة وجميع أجهزة الدولة للوفاء بمتطلباتكم».. هذا الربط بين تكليف الشعب وبين ضرورة أن يتحمل الكل المسئولية الجماعية في الوصول إلي ما نصبو إليه، لم يكن إلقاءً للمسئولية علي سلطة دون أخري، أو فئة دون فئات أخري، بل أمنية أن يعي الجميع قدر المسئولية الثقيلة قبل عقد البرلمان لأولي جلساته بعد أيام قليلة. وبينما تتقدم مصر فى عملية التحول السياسى والاقتصادى والاجتماعى خطوات ملحوظة، أحسب أن الأمر يستدعى اليوم أن تحدد مؤسسة الرئاسة أهداف المرحلة الجديدة التى تمر بها البلاد، بناء على تجربة الشهور الماضية التى أوضحت الحاجة إلى وضع إطار واضح لأولويات السلطة السياسية وتعريف الرأى العام بتلك الأولويات من أجل مشاركة شعبية أوسع فى تحمل تحديات الإصلاح، وتحديات مواجهة الفساد، وإطلاق طاقات المواطنين من خلال جسور الثقة الجديدة التى يتعين أن تكون من خلال روافع إعلامية محترفة تلائم المرحلة الجديدة. ولن نتقدم خطوات ملموسة دون وضع الرؤية الاستراتيجية الملائمة للحكم أمام مجلس النواب الجديد، والتى يجب أن تنصب فى الشأن الداخلى على تحديد وجهة السياسات التى سيتم اتباعها فى السنوات المقبلة لتحقيق الأهداف، ويتعين من وجهة نظرى أن تتضمن تلك الرؤية محددات تؤكد: تبنى سياسات تدعم الطبقات الفقيرة والوسطى وتهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء المجتمع، وتحقيق سيادة القانون والعدالة الناجزة، والارتقاء بالتعليم والبحث العلمي، كما تهدف إلى بناء ثقافى جديد يقوم على احترام التراث المصرى والحقب التاريخية المختلفة، وتقديم إعلام وطنى من مؤسسات الدولة يعمق الروح الوطنية والتماسك الاجتماعى. وفى شأن أولويات قضايا الوضع الداخلى أيضا فى برنامج العمل الوطنى المرتقب، والذى ينتظر أن تحوله الحكومة الحالية إلى برنامج تفصيلى ينتظر الناس البدء بإجراءات مرحلية فى المدى القصير والمتوسط من بينها تطوير الجهاز الحكومى من خلال منظومة متكاملة من الإجراءات التى تستهدف رفع مستوى الأداء، وتوفير فرص تدريب أفضل للعاملين، وتأهيلهم بما يكفى لتطبيق عادل لقانون الخدمة المدنية فى مدة زمنية محددة.... وتطبيق نظام اللامركزية فى المحليات على مستوى تجريبى فى وحدات بعينها بما يحث الوحدات الأخرى على تبنى النظام فى المستقبل... والبدء فى عملية تحديث قوانين الدولة المصرية وتنقية وتبسيط تلك القوانين بما يتناسب مع مشروع الدولة المدنية الحديثة... وإطلاق استراتيجية التصنيع الجديدة التى تتضمن حوافز واسعة للمستثمرين المصريين... ووضع رؤية شاملة لكيفية توظيف اكتشافات الغاز الطبيعى فى المستوى الداخلي، وكيفية استفادة الصناعة المصرية من التطور العملاق فى صناعة الطاقة المصرية.... وإعادة بناء مؤسسات الإعلام العام (الصحافة القومية والراديو والتليفزيون العام) فى ضوء الأهداف العريضة للبرنامج، والبدء برفع مستويات الكفاءة المهنية، وضخ دماء شابة، وتوفير استثمارات جديدة. ولأن قضايا.. الأمن القومى والسياسة الخارجية لا تنفصل عن الرؤية الاستراتيجية فى برنامج العمل الوطني، فإن الأولويات المنشودة فى المرحلة القادمة يمكن إجمالها فى الآتي: تأكيد حماية حدود الدولة المصرية ضد التهديدات الداخلية والخارجية، وتوفير كل الإمكانات والقدرات اللازمة للقوات المسلحة المصرية للقيام بتلك المهمة بموجب الدستور... وتحديد إطار واضح لقضايا الأمن القومى المصرى وأولويات تلك القضايا هى مكافحة الإرهاب وقضية الدولة الفلسطينية ومياه النيل والحدود مع قطاع غزة والصراع الداخلى فى ليبيا والإرهاب فى سوريا، والهجرة غير الشرعية وأمن الخليج والموقف من دولة إيران والعلاقات مع الولاياتالمتحدة، والعلاقات مع دولة روسيا الاتحادية، وكذلك مع الاتحاد الأوروبى. أولويات هذه المرحلة أيضا... إتباع سياسة خارجية تقوم على احتواء المخاطر التى تهدد الأمن القومى المصرى والعربى من خلال التعاون مع الدول العربية الشقيقة فى الإقليم وتأكيد موقف الدولة المصرية من حماية كيان الدول العربية، والوقوف بحزم ضد سياسات الإضرار بوحدة وسلامة أراضى تلك الدول الشقيقة التى تواجه أخطر تهديد لبقائها... ووضع استراتيجية جديدة للتعامل مع الجماعات التى تستخدم الدين وسيلة للوصول إلى السلطة وتضمينها فى خطاب السياسة الخارجية المصرية، ووضع إطار للمؤسسات الدينية خاص بصناعة سياسة تفصيلية متماسكة لمواجهة التهديد السابق، وعلاج أخطاء العقود الأخيرة التى لم تقم فيها المؤسسات المعنية بدور حقيقى فى مواجهة الجماعات المتشددة... والتعاون مع الدول الصديقة فى العالم الخارجى من أجل الوصول إلى إطار حل للقضايا الإقليمية السابق الإشارة إليها.
فى الشأن السابق.. ننتظر من الجهات المختصة بالقضايا السابقة إعداد «كتاب أبيض» بالموقف المصرى من القضايا السابقة وعرضه على رئيس الجمهورية، وتقدير موقف للأوضاع والتطورات والتوقعات وكيفية التعامل معها خلال عام 2016، وإصدار توجيهات بشرح الموقف على المستويين الداخلى والخارجى وإشراك مجلس النواب فى عملية شرح السياسة الخارجية للدولة المصرية من خلال ما يسمى ب«الدبلوماسية البرلمانية» التى بالتأكيد ستكون إضافة مهمة للتحرك السياسى الخارجي، حيث يترقب العالم الخارجى زيارات نواب الشعب المصرى إلى العواصم المعنية فى الشهور المقبلة واستضافة مصر لوفود برلمانية من الدول الصديقة. الرؤية الإستراتيجية لبرنامج العمل الوطنى يمكن أن تدشن مرحلة جديدة فى السياستين الداخلية والخارجية وتحدد معايير أداء الحكومة والقياس الذى يمكن نواب الشعب من مراقبة عملها عن وعى كامل بالأولويات والأهداف وهى رؤية لا يمكن إغفالها فى ظل التنوع الكبير فى تشكيلة البرلمان وغياب حزب يستحوذ على أغلبية نيابية ووجود أغلبية من المستقلين فى حاجة إلى بوصلة استرشادية تعينهم على القيام بواجبات العمل التشريعى والرقابة. وفى ظل وجود أغلبية من النواب حديثى العهد بالعمل البرلماني، تكون الرؤية الاستراتيجية أمرا، لا غنى عنه فى المرحلة المقبلة. السياسة وليس الإعلام لا تتحرك وسائل الإعلام فى أى بلد فى فراغ أو فى سياق خارج عن السياقات السياسية والاجتماعية للمجتمع والشكوى الدائمة من انفلات المنظومة الإعلامية هى ظاهرة منتشرة فى دول كثيرة. بعض الدول تعانى من فوضى الإعلام وتأثيراته السلبية على قيم وأخلاقيات المجتمع وعلى الروح المعنوية للأفراد وعلى التماسك الاجتماعى وبعض الدول تدخلت بشكل حاسم لضبط بوصلة الإعلام الداخلى من خلال قواعد تنظيمية واضحة لا تضع قيودا على الممارسة ولكنها ترسم إطارا حاكما يعلى من شأن المسئولية الاجتماعية لوسائل الإعلام ويعالج الشطط والإنفلات المحتمل. وفى المراحل الانتقالية، كما هو الحال فى الحالة المصرية يمثل تطوير منظومة التشريعات التى تحكم الأداء الإعلامى وتضبط أنماط الملكية أولوية قصوى لا يمكن لأى متابع للحالة الإعلامية، خاصة على شاشات الفضائيات، أن يتصور حالة التراخى السائدة فى التعامل مع القوانين التى طال انتظارها لعلاج أوجه القصور فى المشهد الحالي, وتلعب الحكومات بالتعاون مع البرلمانات فى أغلب الدول الديمقراطية دوراً حاسما فى إعداد التشريعات المطلوبة ويكون نتاج النقاشات الواعية تشريعات منصفة ووافية تعطى للمجتمع حقوقا واضحة لضمان حماية القيم والأخلاق العامة ومنع الخروج عنها أو إساءة استخدام الحرية فى التعدى على حقوق الأخرين أو تشويه سمعة الأفراد لأغراض بعينها، وتلك هى المسئولية التى نتحدث عنها مرارا وتكرارا دون أن نرى تحركا حاسما لوضع نهاية لحالة الإنفلات السائدة فى إعلامنا اليوم. إن الشكوى من خروج إعلاميين على المتعارف عليه فى الممارسة الإعلامية الرصينة لن تحل معضلات المشهد الراهن دون أن تعرف التشريعات المرتقبة الخاصة بإنشاء مجالس الصحافة والإعلام طريقها إلى النور بموجب الدستور المصرى الحالي. وفى ظل ازدحام الأجندة التشريعية القادمة بالقوانين السابق إصدارها أو التى من المنتظر مناقشتها فى مجلس النواب الجديد، يكون إعطاء تحرك صانع القرار بالتنسيق مع البرلمان فى شأن تنظيم قانونى عاجل للمشهد الإعلامى أولوية قصوى حتى لا تتوه التشريعات الإعلامية فى الأدراج أو تتدخل الحسابات المصلحية فى تعطيل التشريعات المطلوبة على حساب الصالح العام. فقد أضعنا الكثير من الوقت فى مناقشات عبثية وفى حسابات لا نهاية لها بينما المجتمع يئن تحت وطأة الانفلات وهو ما عبر عنه رئيس البلاد مرات عديدة فى أحاديثه وخطبه إلى الأمة. فالقوانين الواضحة وحدها كفيلة بوضع الأمور فى نصابها دون تأخير حتى لا نستمر فى الشكوى بلا طائل أو فائدة. فهل نرى تحركا حاسما فى الأيام القادمة؟