الرباعيات هى أحب قوالب الشعر عندي؛ لأنها تعين على نفى الفضول وعلى التحرر من أسر القافية، فتجيء كل رباعية بمثابة الومضة المتألقة، أو بمثابة الحجر الكريم، قيمته فى اختصاره إلى قلبه وصقله لا فى كبر حجمه. وقد يتوهم المتعجل أن أضعف بيت فى الرباعية هو بيتها الثالث غير المقفى، ولكنه فى نظرى عمادها. ففى البيتين الأول والثانى عرض لأوليات الموقف، وفى البيت الثالث ارتفاع مفاجئ إلى قمة. قد تبدو للنظرة الأولى أنها جانبية ليتبعه فورًا من شاهق كأنه طعنة خنجر يختم بها البيت الرابع فصول المأساة. البيت الرابع هو دقة المطرقة على السندان بعد أن كانت مرتفعة فى الهواء لذلك أكره للبيت الرابع أن يجيء على صيغة الاستفهام لأن حبله ممدود. أسارع هنا لأستشهد برباعية فى هذا الديوان الصغيرة الحجم القوى الأثر كأنه “قنبلة يدوية” الذى أخرجه سنة 1963 الفنان الشاعر الأستاذ صلاح جاهين باللغة العامية والذى يسعدنى اليوم أن أقدمه للقراء. الرباعية السابعة تقول: “خرج ابن آدم من العدم، وقلت ياه.. رجع ابن آدم من العدم وقلت ياه.. تراب بيحيا وحى بيصير تراب الأصل هو الموت ولا الحياة؟ عجبي.” فإنى أحس أن البيت الثالث ليس هو حركة الارتفاع، بل هو حركة السقوط، من شاهق هو الختام، والسؤال الذى جاء بعده لغو، يزيد من ضعفه أنه جاء على هيئة استفهام حبله ممدود. وينبغى كذلك أن لا يكون البيت الثالث استمرارا لعرض الأوليات الواردة فى البيتين الأول والثانى ، بل تتمثل فيه- كما قلت- حركة جانبية مفاجئة، وهى فى نظرى حركة ارتفاع ليتحقق بها طعنة الخنجر الذى يهوى بها البيت الرابع. وهذا العيب يتمثل مع الأسف فى الرباعية الأولى لصلاح جاهين التى تقول: “مع إن كل الخلق من أصل طين وكلهم بينزلوا مغمضين بعد الدقايق والشهور والسنين تلاقى ناس أشرار وناس طيبين عجبي..” فالبيت الثالث هنا لغو لأنه استمرار فى العرض، لا تتمثل فيه حركة جانبية وزاد من ضعف هذا البيت الثالث أنه جاء على روى الرباعية مع أن الأصل فيه، وحلاوته، أن يكون على خلافها. يؤسفنى أن أكون قد بدأت بالنقد. هكذا شاء استطراد الكلام. اصبر قليلا تجدنى من أشد المعجبين بصلاح جاهين وديوانه “الرباعيات” الكمال الذى أنشده يتمثل فى الرباعية الآتية: “دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت.. وحاجات كثير بتموت فى ليل الشتا.. لكن حاجات أكثر بترفض تموت عجبي..” فى البيتين الأول والثانى عرض للأوليات، والبيت الرابع. دقة المطرقة – لم يتحقق أثره إلا لأن البيت الثالث «الخارج عن الروي» قد خدعنا بتأكيده أن أشياء كثيرة تموت فى الشتاء. فإذا بنا نفاجأ كأننا نسقط من شاهق أن أشياء أكثر ترفض أن تموت فى الشتاء. وانظر أيضًا إلى الرباعيات الآتية: “مرحب ربيع مرحب ربيع مرحبا يا طفل ياللى فى دمى ناغى وحبا علشان عيونك يا صغير هويت حتى ديدان الأرض والأغربة عجبي..” فكلمة “هويت” فى البيت الثالث خادعة، يخيل إليك أن جاهين يحب القمر والزهور والجمال، ولكنه يفاجئك بعد هذا الارتفاع بهبوط من شاهق فإذا هو يحب كذلك ديدان الأرض وأغربتها. والضوابط التى ذكرتها لك ليست مانعة – ليس فى الفن قيود كالحديد – غلبة الأمر أننى أفضل القالب الذى وضعته على غيره، لذلك ينبغى لك أن لا تأخذ فى رباعيات جاهين كل سؤال على أنه ينتهى بعلامة استفهام. إنه فى أحيان كثيرة ينتهى فى حقيقة الأمر بعلامة تعجب أشبه ما تكون بعلامة استفهام وهى ليست كذلك. فهذه الرباعيات لا ينطبق عليها تمحكى فى وصفها بالضعف لأن البيت الأخير ينتهى بسؤال، وكذلك لم أكره فى رباعيات أخرى كثيرة أن يكون البيت الثالث شطرة غيرة منفصلة عن شطرة البيت الرابع ويكون الختام مقسمًا على البيتين معًا، وتكون الرباعية فى حقيقة الأمر – إذا كان المعنى هو القياس لا الوزن – ثلاثية. فمن أمثلة علامة التعجب المختفية فى زى علامة استفهام: “وأنا فى الضلام من غير شعاع يهتكه أقف مكانى بخوف ولا أتركه ولا ييجى النور وشوف الدروب احتار زيادة: أيهم أسلكه؟ عجبي.” فليس هذا باستفهام محتاج إلى جواب. لا معنى أن تقول له خد جوابك “خذ هذا الدرب اليمين” أو “هذا الدرب شمال”. أما فى سؤال: “الأصل هو الموت ولا الحياة؟” فإنه قطعًا يحتاج إلى جواب ولو بقولك: “لا أدري”. ومن أمثلة الرباعيات التى التحم فيها البيت الثالث والرابع. “غدر الزمان يا قلبى مالهوش أمان وحاييجى يوم تحتاج لحبة إيمان قلبى ارتجف وسألنى أآمن بايه؟! أآمن بأيه محتار بقالى زمان عجبي.” ولكن هذه الرباعية وأمثالها تأسرك بجمالها الفاتن وبراعة لفظها ورقة معانيها وعمقها فيمتنع عليك أن تحس بأنها فى حقيقة الأمر ثلاثية. والرباعيات هى أفضل القوالب للشاعر الفيلسوف الذى يريد أن يعرض علينا مذهبه، لا فى بحث فقهى أو فى تتابع منطقى بل فى ومضات متألقة. الديوان حينئذ يأخذ شكل العد الذى تنسلك فيه حبات من حجار كريمة مختلفة المياه ولكنها تنبع جميعًا من معين واحد. إياك أن تظن أنك تستطيع أن تتبين غوره، فهذا الحصى اللامع الذى تظن أنه فى متناول يدك إنما هو غارق فى قاع سحيق، وما قربه إلا من خداع انكسار الضوء فى الماء. الديوان هو حياة الشاعر ولكنه لا يعرض عليك أيامها بالتتابع بل يختار منها لحظاتها الفريدة. قد تقرأ أنت الديوان فى ساعة ولكنك تحس أنك عشت مع الشاعر طوال حياته الشعورية المديدة، وإياك أيضًا أن تغفل أن الصورة التى هى أمامك هى من جنس هذه الصور التى يختلف نطقها باختلاف زوايا النظر, إليها هكذا علمنا عمر الخيام أمام الرباعيات الرباعية الواحدة تنبئ عن إقبال شديد على الحياة وإكبار لها. وتعلق بها، وتنبئ فى الوقت ذاته عن الاستهانة بهذه الحياة واحتقارها لا تدرى أهى لذة حسية أم هى لذة روحية؟ أمتفائل هو أم متشائم مؤمن؟ هو أم كافر؟ إن كانت الحيرة مؤلمة فليس هنا لذة تفوق لذة هذه الحيرة التى يلقيك عمر الخيام فى أحضانها أو بين مخالبها، ذلك لأنها ليست ناجمة من أنك تجد نفسك فى فراغ من حوله فراغ، بل لأنك فى قلب دوامة تدور من حولك لا تعرف أين رأسها من ذيلها، هذا هو عين الخدر الذى يحبه الكبار الذين يركبون أرجوحة الصغار. وإذا كنت تمتعت بهذا الخدر على يد عمر الخيام فإنى قد تمتعت به أشد المتعة على يد صلاح جاهين. هذه الرباعيات هى صلاح جاهين، وصلاح جاهين هو هذه الرباعيات, لذلك لم يجد غضاضة من أن يتخذ من نفسه هو مرجعًا لكل رموزه، فقد وصف نفسه بأنه قرين مهرج السيرك لا تدرى هل هو يضحك أم يبكي.. هل هو مطمئن أم خائف؟ هل هو مستسلم للحياة أم رافض لها؟.. هل هو يؤمن بالبشر أم يكفر بالفناء أم بالبقاء؟.. هل يعطف على ضعف الإنسان أم يضيق به؟.. قد لا تعرف كيف تجيب على هذه الأسئلة. ولكنك ستعرف ولا ريب شيئًا واحدًا لا يمكن لك إنكاره: هو أنك لقيت عنده السعادة التى كنت تتمناها ولا تجدها: أن تقابل فنانًا أصيلاً لأحد لإنسانيته ورقته وصدق نظرته وعمقها، هو وحده الذى يجود عليك بفيض الكريم بين الخيام وجاهين . ................. تنم رباعيات عمر الخيام عن أنها لم تتشكل إلا بعد أن استقر ربها على رأى فلسفى فى الحياة، نضج عنده أولا وتحدد، ثم تكامل واتسق. وحتى إذا كان قوام هذا الرأى القاطع هو الحيرة، فإنها حيرة مقننة ثابتة، إنه المحور المرسوم من قبل الذى تدور عليه الرباعيات جميعها، كل واحدة منها تقيس منه وتنعكس عليه، كل رباعية جزء فيه خصائص الكل، يكشف ويعرف به، فلا نشعر ونحن نمضى فى قراءتها أننا نشهد تشييدًا متعاقبًا لبنيان لا نعرف كيف يكون إلا بعد تمامه. الرباعيات تتعلق بالرأى وحده دون صاحب الرأي، فليس فيها إشارة تنبئ عن شخصيته أو هيئته أو صفاته. أما صلاح جاهين فقد كتب رباعياته منجمة، فى كل عدد من صحيفة أسبوعية واحدة، وما أظنه دار فى خلده أو فى خلدنا وهو يفعل ذلك أنه يعكس فى هذه الرباعية خصائص الكل لرأى فلسفى فى الحياة نضج واستقر فى ذهنه، بل خيل إليه – كما خيل إلينا – أنه ترك حبله على الغارب. ما وقع فى شبكته من صيد فهو قانصه، يستمد الرباعية مرة من عالم الفكر وحده، ومرة من مشاهدة المحسوس، ولا بأس عليه أن يشير أحيانًا إلى شخصه فنعلم مثلا أن صلاح جاهين رجل بدين. “بين موت وموت بين النيران والنيران ع الحبل ماشيين الشجاع والجبان عجبى على دى حياة.. ويا للعجب ازاى أنا – يا تخين – بقيت بهلوان عجبي..” ولعله ذهل – كما ذهلنا نحن – حين جمع هذه الرباعيات أخيرًا فى كتاب لا يزيد حجمه على حجم كف الصبى الصغير فإن هذه النفثات المنجمة المتناثرة نطقت – وبعضها ينضم لبعض – بأنها جميعًا وليد رأى فريد فى الحياة، له اتساقه وله بدنه الواحد رغم تعدد وجوهه لا تجده إلا عند صلاح جاهين. ومع ذلك فنحن لا نشعر أن هذه الرباعيات تدور حول محور مرسوم من سابق، بل تشهد وحيًا منوعًا لفكرة لم تتمركز، وظل يدور حولها. فهذه رباعية تكتفى بتسجيل الواقع المحسوس: “صوتك با بنت الآيه كأنه بدن يرقص يزيح الهم يمحى الشجن يا حلوتى وبدنك كأنه كلام كلام فلاسفة سكروا نسيوا الزمن عجبي.” ويخيل إلىّ أن صلاح كتبها بعد أن حضر مجلسًا جمع بين الرقص والغناء. ولكن الرباعيات شيدت فوق هذا الحجر البسيط تعبيرا فلسفيا عميقا تحول فيه الرقص من حركات مادية إلى رؤية عجيبة للحياة، نكاد نشهق لها. فنقرأ هذه الرباعية الجميلة التى بلغت من الفن ذروته: “رقاصة خرسا ورقصة من غير نغم دنيا.. يا مين يصالحها قبل الندم ساعتين تهز بوجهها يعنى لا يترجرجوا نهديها يعنى نعم عجبي..” وهذه رباعية محدودة الأفق، لعلها هى الأخرى مستمدة من لعب صلاح جاهين مع ابنه فى يوم عيد: ولدي.. إليك بدل البالون ميت بالون انفخ وطرقع فيه على كل لون عساك نشوف بعينيك مصير الرجال المنفوخين فى السترة والبنطلون عجبي.” يرفع صلاح فكرتها البسيطة التى تقابل مزاحها بابتسامة خفيفة إلى مقام لنظرة الشاملة: هيهات لنا أن نبتسم ونحن نقرأها: “إنسان.. أيا إنسان ما أجهلك ما أتفهك فى الكون ما أضألك شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك؟ عجبي.” لم يكربنى هذا التفاوت الملحوظ فى مستوى الرباعيات, بل بالعكس فرحت به وشكرت لصلاح أن أتاح لى أن أشهد تشييد بنائه الفذ البديع من أساسه. ذهلنا كثيرا حين رأينا الرباعيات قد كشفت، بعد اجتماعها، عن رأى واحد ينظمها. وذهلنا أكثر حين تبين لنا أنه ليس برأى سطحى أو ساذج لا يرتفع ماؤه رغم جماله وصفائه عن رسغ القد. إنه ليس بمثابة رد فعل كنقرة على وتر يستهلكها صداها الذى يموت سريعًا ضعفًا كأنه أزيز بعوض ثم صمت وفراغ، بل هو ماء كالبحر الخضم الذى يصعب عليك أن ترى ساحله، إنه يبتلعك فتغوص فيه، وهيهات أن تصل إلى أعماقه، متعدد الأمواج والألوان. إن نقرة الوتر لها دوى مهول لا ينقطع، تكاد تضع كفيك على أذنيك من شدة وقعه وإلحاحه. إنه كالغابة المتشابكة يتكشف لك عند كل خطوة منظر مختلف. أنت ماض فى سبيلك ولكنك ربما تكون قد ضللت الطريق من حيث لا تدرى وكأن الغابة تستدرجك عن عمد لتفنى بين أحضانها. ولكنى أعتقد أن امتحان هذا الرأى أشد دخولا فى التحليل النفسى منه فى الفلسفة، فالصلة بين الرأى وصاحب الرأى وثيقة جدًا، فالرأى هنا هو فى الحقيقة طبع ومزاج، وما قصد صلاح فى ظنى أنه يقدم لنا مذهبًا فلسفيًا متكاملاً يختص به، بل غاية مطلبه ولذته أن يكشف لنا عن معدن رحه، من وراء أستار شفافة ملونة كقوس قزح. وقد يقف المستحيل أو الجاف النيئ الإحساس عند بهرجة الألوان ولا يتعداها ولعمرى إنه معدن فذ نفيس عقد غاية التعقيد كأنه اللغز. لذلك سيتحول كلامى عن الرباعيات إلى أسرار تكوينه الذاتى الذى هو الأصل فى هذه الرباعيات. وأزعم لك أنى اهتديت – فيما يخيل إليّ – إلى مفتاح اللغز. إلى الأرض التى أقيم البناء من فوقها فسترها إلى طرف الخيط الرئيسى الذى لا يستقيم إلا به تتابعه وتفك عقده، فهذا الخيط كرة متشابكة متداخلة ملتفة بحيث ينبهم عليك من أين تمسكه، وقد تقع على طرف فتجذبه فينتهى سريعًا بين يديك، تاركًا الكرة على حالها وسرها أنه منها ولكنه عنصر ثانوى لا يصل إلى قلبها. ولكن حاشا لى أن أزعم أيضًا أننى اهتديت إلى الحق كله أو بعضه فما أبين إلا عن رأى شخصي، كما يحتمل التصديق يحتمل التكذيب رغم الحجج التى وثقت بها، لأننى أحببت صلاح وخالطت شعوره بشعورى إلى درجة التوحد والاندماج. ................. أكرر هنا كلمة الذهول لأصف بها إحساسى حينما وجدت أن اثنتين من الرباعيات – مدسوستين بين أخواتهما – تنفردان عن بقية الكتاب انفراد العنصر الدخيل الغريب الذى لا مبرر لوجوده، لشدة تعارضه مع الأصل تعجبت من أين ولماذا جاء وما معنى وجوده؟ مخاوف الطفل الرباعيات كلها نزهة جميلة يخالط دعابتها حزن رقيق وأسى غير ممزق، لأنه يضع يده دائمًا فى يد الأمل. أما هما فصرختان أو لولتان بالليل البهيم يرتجف لها القلب. فبدأ منهما تفهم صلاح، بل قد نرتد معه إلى طفولته. إنه أولا خائف من الخوف” وهذا أقسى أنواع الخوف. اسمعه يقول: “سهير ليالى وياما لفيت وطفت وفى ليلة راجع فى الضلام قمت شفت الخوف. كأنه كلب سد الطريق وكنت عاوز اقتله.. بس خفت. عجبي الطفل يرى الكلب بالليل فيحس بالخوف يرج قلبه، ولكن صلاح لم يصادف فى طريقه كلبًا، بل صادف الخوف ذاته، وقف أمامه وجهًا لوجه. الخوف هنا ليس شعورًا داخل القلب، بل هو مخلوق حى له شخصه وكيانه أنه يطلع على الناس فيرونه رأى العين، لكن تحديقه فى صلاح شل قدرته على تبين ملامحه فلم يستطع أن يراه فى وهمه إلا فى صورة كلب يسد الطريق. وهذا التشبيه المسعف هو ولا ريب من ذكريات الطفولة. أغلب الظن أنه يرجع إلى حادثة وقعت فعلاً لصلاح فى طفولته. أدرك صلاح وهو يعانى الحياة أن الكلب الذى أخافه فى طفولته إنما هو رسول هزيل لمخلوق أشد هولا وإرهابًا. ويعترف صلاح بصراحة أنه لم يقتحم الطريق، إنه خاف من الخوف، فلم يقل فى نهاية الرباعيات مثلا: “قمت زغت. وقد يوهمك صلاح فى هذه الرباعيات أنه يروى لك لقاءً عارضًا حدث له ذات ليلة، دلالة متصورة على شخصه، وربما أوحى صلاح لك بأن هذه الدلالة تشمل كل الناس، نطاقها هم البشر وليس غير، وأن لا خوف حيث لا إنسان. ولكن لا، إن الخوف عند صلاح يرتفع إلى مقام التفسير الشامل الكلى للكون كله، بنجومه وأفلاكه وسديمه وأجزم أن الرباعية التالية فريدة فى الشعر العربى كله، لا أعرف لها مثيلا فى روعتها وشد وقعها فى القلب، ولا فى رسم صور للكون من خلال رؤية وليدة الزلازل والبراكين التى صَحبَت مخاض النشأة الأولى: “كان فيه زمان سحلية طول فرسخين كفين عيونها وخشمها بربخين ماتت، لكن الرعب لم عمره مات مع أنه فات بدل التاريخ تاريخين عجبي لا معنى لهذه الرباعية إلا بالتفسير الذى أزعمه، وصلاح يصدر فيها عن فكرة الرجل البدائي، الذى يسارع إلى تحويل الظواهر الكونية إلى قوى شريرة تسكن العالم السفلي، تتمثل له فى شكل حيوانات أو حشرات مؤذية فالكون عند صلاح لا يزال يثير الرعب كما أثاره يوم النشأة الأولى. إنها انتهت ولكن الرعب باق رغم مر القرون. الخوف يتمثل لصلاح فيراه فى صورة كلب، والرعب يراه فى صورة سحلية، والكلب والسحلية رمزان لهيمنة قوة الشر الكامنة فى الكون، يقف الإنسان أمامها عاجزًا مسلوب الإرادة رغم ما يعتلج به قلبه من حب للحياة والخير والجمال.ومن هنا تأتى الحيرة فى فهم الكون وقدر الإنسان. ولعل أول مشهد يراه الطفل عندنا يتمثل فيه التردد فى فهم الفرق بين العدم والوجود، بين الموت والحياة. هو ذيل السحلية حين ينهال عليه القبقاب فينقطع وينفصل عن الجسد. إنه يظل – وهو الموت – يتلوى ويتحرك، ويحدق فيه الطفل بعين مذهولة، وقد وقر فى نفسه أيضًا أن السحلية – دون سائر الحيوان – تتكلم، فهى ترج لسانها على سقف حلتها فيصدر منها صوت كأنه تنادى به الناس، فيرد عليها أصحاب البيت قائلين: “صاحب البيت اسمه محمد” تشفعًا بالرسول لدفع شرها وأذاها. فمخاوف صلاح جاهين مخاوف الطفل أو الرجل البدائى كامنة فى أعماق قلبه. قلما نصادف كلمة الخوف، أو الرعب بعد ذلك فى الكتاب ولكننا نحس بأثرها فى رباعيات قليلة أخرى لا يستقيم تفسيرها إلا به. انظر إلى الرباعية التالية: “ورا كل شباك ألف عين مفتوحين وأنا وأنتى ماشيين يا غرامى الحزين لو التصقنا نموت بضربة حجر ولو افترقنا نموت متحسرين عجبي!!” هذه عيون يخاف منها صلاح، إنها عيون القدر المترصد بالشر، الذى يفرق بين الحبيب وحبيبته. والشر هنا معناه أن لا مناص للإنسان من الوحدة فى هذه الحياة، وأن اللقاء مؤجل – إن كان هناك لقاء – إلى عالم الأرواح. إن صلاح يرتجف أيضًا من الوحدة. ولعل صلاح وقت أن كان طفلاً يلعب فى الحارة لم ينقطع عنه الإحساس بأن من وراء شباك البيت عينا تراقبه، إنها رغم حنانها تأسره وتقيده وتفسد عليه لعبه. وصلاح خائف أيضًا من شيء آخر، هو الفناء: “أحب أعيش ولو أعيش فى الغابات أصحى كما ولدتنى أمى وأبات طاير.. حيوان.. حشرة.. بشره بس أعيش محلا الحياة.. حتى فى هيئة نبات عجبي..”. الخوف من العدم والفناء هو الذى يجعل لمجرد الوجود روعته وبهاءه. ولكن الرباعية توحى بأن صلاح لا يجعل كلمة “العيش” تعنى “الوجود” وحده، بل تعنى قبل كل شيء الفهم والقدرة على التمتع. إنه ليس بفهم عقلى يختص به الإنسان، بل فهم فطرى غريزى يشاركه فيه الحيوان والنبات. وأخيرًا يكتب صلاح كل مخاوفه الأرضية والكونية فى رباعية واحدة: “لو كان فيه سلام فى الأرض وطمان وأمن لو كان مفيش ولا فقر ولا خوف ولا جبن لو يملك الإنسان مصير كل شيء أنا كنت أجيب للدنيا ميت ألف ابن عجبي!!”. هذه هى بلاوى الدنيا، يُتوّجُها بلاء كونى هو عجز الإنسان عن التحكم فى المصير. وانظر إلى كلمة الخوف التى اندست بين بلاوى الدنيا، فقد نطقت بدلالة لم تكن لتتبين إلا على ضوء الرباعيتين من اللتين بدأت بهما حديث الخوف. هذه هى بداية الخيط الذى سنفهم بفضله – وهو يقودنا – بقية الأسرار التى ينطوى عليها قلب صلاح جاهين – وهى شعوره بالخوف. ولولا هذه البداية لما استطعت وفقا لمنطق متسق – على الأقل فى تقديرى – أن أتتبع اتصال النمو الشعورى المنعكس من بقية الرباعيات رغم تبعثرها وقفزاتها وازدواج وجهها. فبخطوة متوقعة يسيرة ينتقل صلاح من الشعور بالخوف إلى الشعور بشلل الإرادة، فلا تفسير لهذا الشلل إلا بهذا الخوف المبدئى والبدائي. إنه شلل تام يكاد يشبه الموت، بل هو الموت بعينه: “ودخل الربيع يضحك لقانى حزين نده الربيع على اسمى لم قلت مين حط الربيع أزهاره جنبى وراح وايش تعمل الأزهار للميتين عجبي..” صلاح لم يتحرك بإرادة ليقطف بيده أزهار الربيع، بل الربيع بجلالة قدره هو الذى تقدم إليه، ونادى عليه باسمه، ووضع الأزهار جنبه، ومع ذلك لم يستطع صلاح أن يفتح فمه ويقول: “من؟” أو يمد يده ليأخذ الأزهار أو حتى يصوب إليها منخريه لشمها لأنه مشلول الإرادة، يحسب نفسه من الأموات.
وبخطوة أخرى يسيرة متوقعة ينتقل صلاح فيمر من الشعور بشلل الإرادة إلى الشعور بالملل، إذ لا فهم لهذا الملل إلا إذا أرجعناه لشلل الإرادة: “أيوب رماه البين بكل العلل بعد سبع سنين مرضان وعنده شلل الصبر طيب. صبر أيوب شفاه بس الأكاده مات بفعل الملل عجبي..”. سأتكلم فيما بعد عن أن قيمة صلاح فى نظرى راجعة إلى أنه يخاطب بغير إفصاح ضمير القارئ بكل ما يختزنه من تراث دفين، ولكنى أراه فى الرباعية السابقة يهزأ بهذا التراث ويستبدل به صورة جديدة. فالمستقر فى ذهنى مثلا – شأنى فى ذلك شأن بقية العامة – أن أيوب ابتلى بمرض جلدي، وكان يدور على بيوتنا ونحن صغار باعة ينادون على عشب برى هو “رعرع أيوب” فكنا من كلمة “رعرع” وحدها نفهم أنه مصاب بقروح. رعرع هى نضارة الجلد وسلامته وبعد برئه من قروحه. هى فى ذهننا مرهم مرطب يوحى بنضارة ورق الشجر فى الربيع، ونتصور أيوب أنه كان جالسا تحت شجرة. وإذا أردت التأكيد من صدق هذا الشعور – الذى اسمه بالتراث الدفين – أعود للروايات التى وردت فى كتب التفسير فأجد بعضها ينص على أنه كان مبتلى بالجدري، فصورة أيوب فى ذهنى هى صورة رجل منبوذ بالعراء، يتجنبه الناس حتى أقرب أقربائه، ولكنه ليس مشلول الجسم بل بالعكس إنه دائم الحركة يحك جلده بأظافره، وليس هو أيضًا بمشلول الإرادة، لأنه متعلق بالشفاء بإصرار يثير الإعجاب والتقزز فى آن واحد، ولكن الكلام الذى قلته سابقًا عن شلل الإرادة هو الذى يفسر كيف أن صلاح حدد وعين مرض أيوب بأنه الشلل. وكلمة مشلول فى هذه الرباعية توحى بأنه كان مشلول الجسم والإرادة معًا. وقد شفى أيوب عند صلاح ولكن.. الأكادة أنه مات بفعل الملل، الملل الذى هو وليد شلل الإرادة. فأيوب هنا ليس النبي، بل هو الإنسان الحديث كما يراه صلاح فى نفسه، وصلاح هنا متصل شعوريًا ببودلير.وانظر إلى خفة الدم فى كلمة “فعل” فى هذه الرباعية، إنها مقتبسة رأسًا من قاموس العامية لا الفصحى. أتجاوز عن الخطوة المتوقعة التالية لأقفز إلى نتيجة بعيدة لهذا الشعور بالشلل والملل، لأننى أريد أن أفرغ من رباعية فريدة لا أحب أن أتناولها إلا بإيجاز شديد. وأرجو أن يكون ما وهبه الله لصلاح من قدرة صادقة هائلة على الدعابة قد قضى على سمها وبث الصلة اللعينة بينها وبين رباعيات الشلل والملل، إنها الرباعية التى أسميها – مكرها – رباعية النزعة الانتحارية، لأننى أفضل أن لا أرى فيها إلا دعابة خالصة لا تؤخذ مأخذ الجد. “الدنيا أوده كبيرة للانتظار فيها ابن آدم زيه زى الحمار الهم واحد.. والملل مشترك ومفيش حمار بيحاول الانتحار عجبي..” والانتظار هنا يعنى كشوق الروح للخروج من سجنها واللحاق بملكوت الجمال المطلق، الجمال الإلهي. وسنرى فيما بعد أن هذا التشوف كان وراء حزن صلاح وثورته على ضعف الإنسان وفساد أصله، إنه تلهف على قدوم الحبيب، على الظفر بشيء جديد فى عالم رتيب، عالم جنون أيضًا، ولكن الكلمة تخاطب كذلك ضمير القارئ فى مستويات أدنى. الانتظار من أهم بلاوى العالم الحديث، انتظار فى عيادات الأطباء، أمام مواقف الأتوبيس، فى ذيل طابور أمام باب السينما، انتظار قدوم يوم القبض. وكلمة الانتظار هنا تعنى أن كلمة الملل التى تبعتها، إذ أصبحت الكلمتان عندنا مترادفتين وتأمل تكرار نغمة الملل فى هذه الرباعية أيضًا. وسنرى فيما بعد أننا لو استثنينا رباعية واحدة تتحدث عن العندليب – وأراهن أن صلاح لم ير العندليب قط بل لا يعرف ما هو شكله، ولكنه عنده طائر خرافى يمثل الرقة والجمال، أرقى من البلبل والكروان والهدهد، تلك الطيور التى تسبح فى جو هذا الوادى ويعرفها صلاح – أقول لو استثنينا هذا العندليب الخرافى سنجد أن الحيوان الذى ورد ذكره فى الرباعيات كلها هو الكلاب والخنازير والتماسيح والسحالى والدود. نضم إليها كلمة “الحمار” الواردة فى الرباعية السابقة، إنها من جنسها. وهى توحى أيضًا بشيء من الضجر والحنق يبعثان إلى أن تكون له رفسة مثل رفسة الجواد العريق إذا وقع فى يد ظالم لا يرحمه ولا يحترم كرامته. هذا أيضًا سنراه فيما بعد حين نتكلم عن استخدام صلاح لكلمة “طنط” أو “تف”. كيمياء الحزن ................. إذا ولجنا من أبواب ثلاثة متلاحقة فى دهليز مظلم هى أبواب الخوف والشلل والملل، أفضينا إلى ميدان فسيح مترامى الأطراف، ومع ذلك تظلله كله – رغم صغرها – ظل راية واحدة ترفرف فوق سارية عالية فى وسطه.. راية الحزن، من حرير أسود جميل شفاف، نسجته العذارى، والجفون مسبلة على النهود، بأصابع تتكتم رعشة الصبان والحنان، تغار حاسة اللمس من حاسة النظر عند التطلع لهذه الراية من بعيد. إنه الحزن الذى يجتره أهل الشرق بتلذذ وتنعم، يختلط عندهم بالتأسى على النفس أولا ثم على البشر كافة، لأن جذوره متصلة باعتقادهم فى القدر الذى لا مهرب منه. لن يخدعنا صلاح وهو يصف نفسه تارة بالبهلوان، وتارة بالمهرج، فإن النغمة الغالبة على الرباعيات هى نغمة الحزن، لا لأن صاحبه قد مسته الحياة بضر فى صحته أو رزقه أو عواطفه، بل لعل الحياة كانت به شديدة الترفق، كريمة لم تبخل عليه بشيء – وإنما هو حزن وليد التزمل فى هذا الكون المجهول وفى أسراره الغامضة، وليد الحيرة فى فهم وضع الإنسان فيه، وهل هو مجبول على الشر، لا حيلة له فى جبلته. إنه حزن سامٍ يرتفع عن الأرض، طاهر كالبحر لا يعكره دنس، ولو كان جثة الكفر الذى تسلل واقتحم ثم عام وسبح فغرق، وإن بقيت أواخر صرخاته تدوى فى الأذن. إنه حزن نروح تتشوف للخلود لا حزن جسد يوقن أنه فانٍ، وصلاح يتأمل الكون، ويتأمل الإنسان ولا يسفر هذا التأمل إلا عن هذا الحزن الدفين.. إنه لا يحس به فى نفسه وحده بل يراه فى كل العيون. “أعرف عيون هى الجمال والحسن وأعرف عيون تأخذ القلوب بالحضن وعيون مخيفة وقاسية، وعيون كثير وبنحس فيهم كلهم بالحزن عجبي..” آه.. كم أطال صلاح تأمل العيون لا بنظره بل بقلبه. أحس منها بشكله الوجِع الأبكم. ولكنه ليته أضاف إلى عيون البشر عيون الحيوان أيضًا! الرباط الذى يجمع الناس جميعًا عند صلاح هو رباط الحزن المكتوم، وقد بلغ من شيوع هذا الحزن أن أصبح مألوفًا، وفقد بالتالى روعته وجلاله. “يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع حزين أنا زيك وأيه مستطاع الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع الحزن زى البرد.. زى الصداع عجبي..” أصبح علاج صلاح لهذا الحزن هو السخرية به، إذ هان قدره لشدة ألفه به. ولكنه قبل ذلك يسخر من نفسه. لأنه رغم هوان هذا الحزن فهو عالق به كأنه دودة علق لا يستطيع أن ينفضها عنه. وسنرى فيما بعد أن خشبة النجاة التى يتعلق بها صلاح هى السخرية والدعابة.. سخرية طيبة غير لاذعة، ودعابة غير مروضة ولا مخلوعة العذر. وهذه الرباعية تخاطب التراث فى ضمير القارئ، فدلالة القمقم مستمدة من ألف ليلة وليلة، وتذكرنا بقصة العفريت الذى ظل دهورًا طويلة محبوسًا فى قمقم فى قاع البحر إلى أن استنقذه صياد مسكين. ولولا هذا التراث لما أفصح النص اللغوى وحده عن الإيحاءات المقصودة منها. آه.. كم أنت إنسانٌ يا صلاح، حتى إنك لتؤاخى حتى العفاريت وتنفق عليهم. ولكن لماذا يحتضن صلاح جاهين كل هذا الحزن على صدره العريض ومن فوق لغز يبتسم بسخرية حلوة ودعابة محببة؟ إنه يمر فى رباعياته مر الكرام بالهموم المعاشة والاجتماعية. إنها خارجة عن مجال قلقه واهتمامه، لا تستوقف إلا فلتة وقليلا، كدح الإنسان فى سبيل رزقه، خوفه من العجز عن تأمين هذا الرزق ولو بأدنى حد يصون له آدميته. حرصه على تملك حريته وإرادته بين إخوانه داخل حدود بلده وخارجها لا جور منه أو عليه، المظالم الاجتماعية، لماذا كان غنى وكان فقرًا تخمة ومجاعة، علم وجهل؟ ما هذا القانون المثالى للمعاملات الفردية والاجتماعية؟ كل هذا يتركه صلاح جانبا ويكتفى فى رباعية واحدة بنفثة عميقة من صدره العريض تنبئ بأنه يحلم بوضع مثالي، كأنه بعيد المنال، أن يسود فى الوطن والعالم كله أمن وسلام وطمأنينة وتعاطف. “غمست سنك فى السواد يا قلم عشان ما تكتب شعر يقطر آلم مالك، جرا لك أيه يا مجنون.. وليه رسمت وردة وبيت وقلب وعلم عجبي..” وليس معنى هذا أن صلاح يستصغر ضغط الهموم المعاشة، بل ينبغى للإنسان فى رأيه أن يتحرر منها ولكى يفرغ لهمومه الروحية ولكى يملك القدرة على تذوق الجمال، فهو فى رباعية فريدة يسخر بظرف وبرفق من أستاذه وإمام طريقته عمر الخيام لأنه لا يشغل نفسه بهذه الهموم المعاشة: “ياللى نصحت الناس بشرب النبيت مع بنت حلوة وعود وضحك وحديت مش كنت تنصحهم منين يكسبوا ثمن دا كله والا يمكن نسيت؟ عجبي..” وكذلك لا يحبس صلاح نفسه طويلا فى المجال الأخلاقي. إنه لا يقول لنا ما الذى يحبه. العفة والوفاء والصدق لا ترد على لسانه، بل يقول لنا ما لذى يكرهه. إنه يكره النفخة الكدابة. فالإنسان عنده مثل بالون الأطفال، يكفى أن تلمسه بسن إبرة حتى ينزل على فاشوش. صلاح يكره النفاق: “حبيت.. لكن حب من غير حنان وصحبت.. لكن صحبة مالهاش أمان رحت لحكيم وأكثر لقيت بلوتي أن اللى جوه القلب مش ع اللسان عجبي..” ويكره القسوة والاستغلال الظالم:. “قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق والناس ما هياش ناس بحق وحقيق قلبى رميته وجبت غيره حجر داب الحجر.. ورجعت قلب رقيق عجبي” ولكن كرهه الأشد الذى يرجه رجا منصب على تعذيب الإنسان لأخيه الإنسان، فينحط دون مرتبة الوحوش الضارية، إنها تفترس لتأكل ولكنها لا تعذب لتتلذذ بالانتقام. وكأنما فقد صلاح بقية أمله فى أن يبذل الإنسان شيئا من جهده لعون أخيه، فكل مناشدته له أن لا ينقلب عليه هو الآخر وبلا تهون بجانب الويلات التى يعانيها فى هذا الوجود المطبق عليه كأنه قيد من حديد ليست البلوى أنه لا يلين، بل لا يبين.. “أنا كل يوم أسمع.. فلان يعذبوه أسرح فى بغداد والجزائر وأتوه ماعجبش من اللى يطيق بجسمه العذاب وأعجب من اللى يطيق يعذب أخوه عجبي..” ................. يحصر صلاح نفسه إذن فى مجال الهموم الروحية. الإنسان منذ تلبس روحه ببدنه لا ينفك يعانى من أسئلة كثيرة تلح عليه وترهقه فلا يجد لها جوابًا رغم توالى الحقب وتقدم العلم وغزو الفضاء، لماذا ومن أين وإلى أين؟ وهب عقلاً قد تتكشف له كل الأسرار إلا سره. فما نفعه؟ كيف نصل إلى معلوم بمجهول. هل الكون صدفة أم له خالق لا نعجز عن تصوره؟ كيف الوصول إليه؟ أناس فطاحل أجلاء انتهوا من جولتهم المضنية ينصحك أن لا وصول للإيمان وأنت مفتح العين إلا بأن تبدأ الرحلة وأنت مؤمن مغمض العينين، فكيف تكون النهاية هى البداية؟ وكيف يقود العمى إلى الإبصار؟ ما هو هذا الكون وما هى حكمة الوجود وما هى وظيفة الإنسان فيه؟ أمجبول هو على الخير والطهر أم على الشر والنجاسة؟ هل يستطيع بقدرته الصادقة على استبطان أحسن النيّات وعلى الارتماء فى أحضان الإيمان والتشوق للخلاص والطهر والخير؟ أن يزحزح ولقد قيد أنملة خط قدره أو سير نظام واحد من أنظمة الكون أم يظل يقرع كل الأبواب، كالشحاذ يسأل المحسن أن يعطيه فرصة أخرى فالعمر قصير والمزالق جمة فلا تلقى له من نافذة ولو بكسرة جافة وتقول له النوافذ المغلقة: حل مشكلتك بنفسك وتحمل عبئك وحدك؟ فصلاح يريد أن يلحق بركب الفلاسفة والمتصوفين. إنه يقف ويدور حول هذه الأسئلة، ولكن دون أن ينفذ إلى لقبها ويستخلص لنفسه جوابًا قاطعًا.. فلا مفر لك أن تسأل نفسك بعد أن تفرغ من الرباعيات: “وهل أتى صلاح بشيء جديد؟” وسنرى الإجابة على هذا السؤال فيما بعد. وقد تنبئ بعض الرباعيات أنها لا تنفى عالم المثل الذى قال به أفلاطون، ولكن صلاح يرى أن هناك فصامًا تامًا واستحالة اتصال بين عالم المثل والوجود الحسي. “يا قرص شمس ما لهش قبة سما يا ورد من غير أرض شب ونما يا أى معنى جميل سمعنا عليه الخلق ليه عايشين حياة مؤلمة؟ عجبي..” فأنت ترى أن الشمس موجودة ولكن ليست لها قبة، والورد موجود ولكن ليست له أرض. عالم المثل مليء بالجمال ولكن الوجود الحسى معدنه الألم. لا عجب أن صلاح حين شق طريقه وسط اللهاليب ليصل إلى ينبوع الغرض الأسمى، ينبوع الحواديت، وجد الخنازير والكلاب تشرب منه: “ينبوع وفى الحواديت أنا سمعت عنه أنه عجيب.. وفى وسط لهاليب: لكنه شقيت كما الفرسان طريقي.. لقيت حتى الخنازير والكلاب شربوا منه عجبي..” وقد تفسر هذه الرباعية بأن الفيض الأسمى لا يبخل فيجود حتى على الكلاب والخنازير – كل الأحياء عنده سواء، ولكن نغمة الرباعية تبطن خيبة الأمل. فصلاح لم يصل للينبوع إلا بشق الطريق بجهد، وفى وسط اللهيب فرآه مبذولاً لخنزير لم يبذل جهدًا ولكلب لم تسقط للوصول إليه شعره من فروته: الجمال ويقف صلاح من الجمال موقف المتردد، يتشوق إلى درجة التحرق لبلوغ الجمال: “تسلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب بيجى الربيع تطلع زهورك عجب وأنا ليه يمضى ربيع وبيجى ربيع ولسه برضك قلبى حتة خشب عجبي..” متشوق للقاء الحبيب لأن الحبيب هو الجمال، أو قل هو وجه الله سبحانه: – “ليه يا حبيبتى ما بينا دايما سفر ده البعد ذنب كبير لا يغتفر ليه يا حبيبتى ما بيننا دايما بحور أعدى بحر الاقى غيره انحفر عجبي..” ثم إذا به فجأة يكفر بهذا الجمال لأن الحياة عبث فى عبث. “نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش طيور جميلة بس من غير عشوش قلوب بتخفق.. إنما وحدها هى الحياة كده كلها فى الفاشوش؟ عجبي..” ................. وصلاح يؤمن أن الأصل فى الخلق واحد ولكن المصير هو الذى يتغير. وأول رباعيته فى الديوان تقول: “مع أن كل الخلق من أصل طين وكلهم بينزلوا مغمضين بعد الدقائق والشهور والسنين تلاقى ناس أشرار وناس طيبين عجبي..” ويحسن بنا أن نقف عند كلمة “طين” فى البيت الأول، فهى قد تنبئ بأن صلاح يعتقد بأن الأصل معدن خسيس يمثل الشر، فى قلب كل إنسان مضغة منه: “يا مشرط الجراح أمانة عليك وأنت فى حشايا تبص من حواليك فيه نقطة سودة فى قلبى بدأت تبان شيلها كمان.. دا الفضل يرجع إليك عجبي..” وإنى أحب – كما قلت سابقًا – فى رباعيات صلاح أنها تخاطب العميق من وجدان القارئ فهذه الرباعية نفهمها حق الفهم بوجداننا بفضل ما رسب فيه من تلاوة سيرة- الرسول عليه الصلاة والسلام- فقد أنبأتنا أحاديث غير قليلة أن ملكين شقّا قلب الرسول وهو صبى ليستخرجا منه مضغة سوداء. ومخاطبة الوجدان هو مجال هذا الشعر العباسي. والدنيا كلها عند صلاح غارقة فى الشرور ولذلك فلا أمل لها فى الوصول إلى بر النجاة: “نوح راح لحاله والطوفان استمر مركبنا تايه لسه مش لاقيله بر آه من الطوفان.. وآهين من بر الأمان ازاى تبان والدنيا غرقانة شر عجبي..” ................. والإنسان فى هذا الكون لا تزيد قيمته عن صفر. “إنسان أيا إنسان ما أجهلك ما أتفهك فى الكون وما أضألك شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك عجبي..” وهو كذلك معدوم الحرية، عبد لشهواته ولو ذاق منها الأمرين: “السم فى الهوا. منين يضر والموت ولو لعدونا.. منين يسر حط القلم فى الحبر.. واكتب كمان والعبد للشهوات.. منين هو حر؟ عجبي..” ولعل الإنسان هو الذى جلب على نفسه كل هذه المصايب لأنه يريد أن يخضع الكون لمقاييسه كما نرى فى الرباعية التى أولها “إنسان يا إنسان”. ................. ويخرج صلاح من هذه الجولة المضنية وهو محنق. تجرى على لسانه ألفاظ “طنط وتف” ويخرج أيضًا وهو متشائم. فلو تمثل الجمال المطلق على شيء فمآله أن يفترسه الشر ويتضح أنه وهم. “كروان جريح مضروب بشعاع من قمر سقط السموات فؤاده انكسر جريت عليه قطة عشان تبلعه أتاريه خيال شعرا ومالوش أثر عجبي..” ولكن صلاح يتشبث بخيط واهٍ من الأمل، فالحياة عنده إصرار على الحياة رغم ما يحيط بها من أعباء وشرور، ومع ذلك ينتهى صلاح باعتقاده أنها فى نهاية الأمر إنما تبطن شرا، فهو لا يتخلى عن تشاؤمه. “دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت وحاجات كثير بتموت فى ليل الشتا لكن حاجات أكثر بترفض تموت عجبي..” ................. ياللى أنت بيتك قش مفروش بريش يقوى عليه الريح يصبح مفيش عجبى عليك، حواليك مخالب كبار ومالكش غير منقار وقادر تعيش عجبي..” ثم يسلم صلاح نفسه – لئلا تتحطم – إلى السخرية الوديعة بالإنسان، إنها غير قاسية، بل تنطوى على حنان وحب شديدين. وأكثر سخرية صلاح موجهة للمتعالين المتعنطزين، فلست أعرف فى كل الذى قرأت سخرية ألذع من هذه السخرية التى أجدها فى الرباعية التالية: “يا طير يا عالى فى السما طظ فيك ماتفتكرشى ربنا مصطفيك برضك بتاكل دود وللطين تعود تمص فيه يا حلو.. ويمص فيك عجبي..” هل استقر صلاح واطمأن بعد تجاربه المزلزلة؟ إن سألته اليوم ما الذى تملك لما أجابك إلا بقوله، لا أملك إلا قلبا مليئا بالمحبة والتسامح إزاء ضعف الإنسان. “فتحت شباكى لشمس الصباح ما دخلش منه غير عول الرياح وفتحت قلبى عشان أبوح بالآلم ماخرجش منه محبة وسماح عجبي..” ما الجديد ؟ ولكن بعد هذا كل هل أتى صلاح بشيء جديد؟ ................. هيهات أن تجد هذا الرجل فى الغرب، أؤكد لك أننى بحثت عنه – لأنى أحبه – حين عشت فى الغرب فلم أعثر عليه، ذلك أن موطنه هو الشرق موطن الصحراء الممتدة، والسماء الصافية، والنجوم اللامعة المنتشرة، وللكون لحن هو خليط همسها جميعًا، ففى الشرق لقيت هذا الرجل كثيرًا حتى ألفته وجلست إلى جانبه مرارًا فلم يحس بوجودى بل كنت أنا هذا الرجل أحيانا وأنا فى الشرق، فلما انتقلت للغرب اشتقت أن أكونه وحاولت فأخفقت، ولو قد نجحت وهزأ الناس من بواخي. إنه الرجل الذى يخلو لنفسه، تحسب أن ليس فى مواجهة الطبيعة كلها أحد غيره، ظهره محنٍ وكأنما فوقه أثقال، ورأسه دان إلى القلب كأنما ينصت لوشوشته وقد تكون فى يده أحيانا عصى يخط بها على الأرض لغة لم تكتشف أبجديتها بعد ولكنه يظل صامتًا، لا تدرى أسارح الذهن فى متاهات سحيقة؟ أم هو مستغرق فى التفكير، اعترضته فكرة فسلمت فعانقت فحضنت – كما نفعل فى الشرق – فاستوعبت فليس منها فكاك؟ وكلما طال الصمت اكتسى وجهه شيئًا فشيئًا بغلالة من الحزن، حزن رفيق غير مفترس، ليس له أنياب تنهش بل راحة يد كالطيف تربت بحنان.. يدل اطمئنان الرجل على أنه يجد لهذا الحزن الرقيق لذة تنتشى بها روحه ويتحلب لها فمه. ثم فجأة يمصمص بشفتيه ويهز رأسه وينطق لنفسه – فلا أحد معه – بكلمة واحدة. هى تارة (دنيا) وتارة (حكم) – جمع حكمة – أين كان؟ ما هى تقدمات هذه الكلمة الواحدة – لا أحد يدري. بل لعله هو نفسه لا يدري، ولو نصب لهذا الرجل تمثال يكون توءم لكان خليقًا أن يكون هو النبى الذى يطوف به فى الشرق ركب أهل التصوف والحكم المرسلة.. فكلهم يصدرون أول الأمر عن هذا الاستعبار والشوق الرقيق فإذا خبطهم الوجد تفرقوا كالطير المنطلق من محبس ولكل منهم صيحته المحترقة المجلجلة فى الفضاء، ولعل الكروان هو رمزهم حين يسبح ربه هاتفا (الملك) وهو طير موطنه الشرق أيضًا.. وقد لحق صلاح جاهين فى رباعياته بهذا الركب.. إنها أيضًا وليدة الخلوة والاستعبار والحزن الرقيق، وضع قلبه على يده ومده إلينا – وهذا هو فيض الكريم – وقال: كلوا من كنوزي.. تذوقوها تجدوها لذيذة ولكننا نقول له: قد أكلنا وشبعنا من هذه الكنوز إلى حد التخمة.. فهو لم يأت بجديد، إنه يجتر تراثه المنتقل إليه مع بقية أملاك الوقف التى أكل الدهر عليها وشرب حتى أصبح جلالها وسط العمارات الشاهقة المبنية بالأسمنت المسلح فى عصر الذرة نوعًا من تحشم الشاكرين لربهم على الستر، وأصبح صوت تداعيها البطيء نوعًا من أنين الذكريات – بل إن صلاح اكتفى بتسجيل اهتزازاته المباشرة كأنما يخشى أن يبح صوته من قبل أن ينطق، وهذه الاهتزازات المباشرة يحكم عليها أهل الغرب عادة بأنها فطرية بدائية ساذجة، فهم يطلبون لصاحبها أن يصبر عليها حتى تستقر وتنظمها نظرة واحدة شاملة، تنصف بالعمق والاستيعاب، فلا تكون الطبيعة عندهم – كما هى عند صلاح – فرقا متجمعة، بل وحدة موزعة. فالأثر المتبقى فى النفس بعد قراءة الرباعيات أنها خدوش الأظافر فى الصخرة الصماء التى هى القدر. ومما يزيد فى الشعور بفطرية هذه الرباعيات التى عامت فوق بحر التصوف دون أن تغرق فيه أن الاهتمامات الأولى لصاحبها – كما تفهم – هى البحث عن حلول مادية لمشكلات روحية. فليقل لنا صلاح على أى جنب يمضغ فكه. غير أنى لا أقول هذا الكلام إلا لأننى أضعه فى كفة ترجحها كفة أخرى تجعل من الرباعيات عملا فنيا رائعًا، فلا حد لإعجابى بها وحبى لها، لأن عصارتى هى الدم الذى يجرى فى عروقى منذ مولدى فى المهد الذى نشأ فيه حافظ وجلال الدين ورابعة العدوية ومحيى الدين وابن الفارض. وأول ما نجده فى الكفة الراجحة هو تعبيرها الصادق الظريف الخفيف الدم عن مزاج ابن البلد فى مصر – فصلاح ابن بلد مصفي، لم يفسده التعليم أوالتثقيف بل زاده رقة على رقة – حتى جسمه – كما قلت مرة – يشبه بشدق نافخ فى مزمار بلدي.. ويخيل إليك أن صلاح أخذ الدن المترب من عمر الخيام وصبه فى قلة قناوى وضعها – وفى حلقها فلة أو وردة – على رصيف قهوته التى يشرب فيها التعمير ساعة العصارى ليكرع منها – ولا حاجة للكوب – كل عطشان عابر سبيل.. وهذا ثواب مبجل ومضمون عندنا، ولكنك إذا دققت النظر فى تخاريم شباك هذه القلة لوجدتها آية فى الصنعة الباهرة والزخرفة الجميلة، شباك أين منه دنتلا البندقية. وقد زهقنا أشد الزهق ممن يكتبون لنا بأساليب لا تمت إلى مزاجنا بأدنى سبب، كأنهم وهم يؤلفون يترجمون عن لغة أقوام آخرين، ذلك لأنهم يكتبون بلغة القواميس لا بلغة قلوبهم ولا يفرقون بين الأسلوب الفنى وأسلوب موضوع الإنشاء الذى لابد أن يبدأ بجملة (خلق الله الإنسان). وإذا لم يصل أدبنا إلى التعبير عن مزاج أهله فأنه سيظل – ولله الحمد – كالماء الصافى لا طعم ولا لون ولا رائحة.
ولا تحسبن أن سبب صدق تعبير صلاح عن مزاج ابن البلد راجع إلى أن الرباعيات مكتوبة بالعامية. فالمضمون فيها طغى على الشكل اللغوى حتى محاه ولا أخجل من الاعتراف بأننى لم أكن أحس وأنا أقرأ الرباعيات أنها مكتوبة بالعامية، ذلك أن صلاح قبل أن يكون ابن بلد مصفى هو الفنان المصفى الأصيل المتعدد المواهب، هو الفنان بشخصه وفى ذاته ولو لم يخط حرفا واحدًا، فكل ما يصدر عنه هو فيض – فيض الكريم.
ومن أمثال صلاح ينشأ فى كل بلد (مجتمع الفنانين) الذين يعادون البورجوازية ويصادقون الأشراف والشحاذين على حد سواء، فهل هو موجود لدينا؟ لقد مر الزمن الذى كان الاتصاف فيه (بالبوهيمية) جواز مرور لقهوة الفن.. إنما بحثنا اليوم هو عن أصحاب الأمزجة الفنية الموهوبين، حتى ولو لم يخطوا حرفا واحدًا.. لى صاحب منهم تغنينى جلسة قصيرة معه بما لا تغنينى قراءة ألف كتاب، وربما كففت عن قراءة إنتاج أحد المؤلفين لأننى قابلته فرأيت وأحسست أنه جلف غليظ القفا، حتى لو كتب الروائع، يفتح الله.. فليست المسألة فى الرباعيات هى بأى لغة كتبت، بل ماذا قال صاحبها. وأنا واثق أن صلاح لو كتب باللاوندى لفهم القارئ أن المؤلف ابن بلد فى مصر. والميزة الثانية أن صلاح سمح لنفسه أن يحدثنا عن نفسه، عن صفاته وأوهامه ومخاوفه ونوع النكتة التى يحبها، فهو لم يثقل علينا بنظريات مجردة، بل قدم لنا ترجمة ذاتية تنبض بالحياة. وأستطرد هنا كذلك وأقول إن صلاح بعمله هذا لم يكتف بتقديم النتائج، بل جعلنا نصحبه فى كل خطوة يخطوها فكأنه جعلنا نطل على عقله وهو يعمل.. وأغلب المؤلفين عندنا لا يسمحون لنا أن نطل على عقولهم فهم يأتون لنا بالنتيجة النهائية – على بلاطة – كأنما نزلت عليهم من السماء نزول المن والسلوى، فإذا أكلناها وجدناها مفقودة العصارة كأنها مصاص القصب، كأنهم يخشون أن يقال إذا كشفوا سيرهم المتردد المتخبط بأنه نوع من التعري، ومن أوجه هذه الظاهرة أن أدبنا يكاد يكون خلوًا من وصف أزمات الضمير، فلا عجب أن كتب شبابنا بأسلوب لا تفرق بينه وبين أسلوب الشيوخ.. وأسلوب صلاح فى الرباعيات هو أسلوب صلاح، بل هو صلاح نفسه. كتب صلاح بالعامية – عامية أنيقة رشيقة ولكنه طعّمها بألفاظ وتراكيب غير قليلة من الفصحى، فصلاح ابن بلد معه (الأنس) بل استعار من الفصحى حركة التنوين ليجعلها نونا ساكنة فى قافية إحدى رباعياته. عجبى عليك، عجبى عليك يا زمن يا بو البدع يا مبكى عينى دما ازاى أنا اختار لروحى طريق وأنا اللى دخل فى الحياة مرغما عجبي.. فجاء هذا النطق وسط العامية تعبيرا صادقًا حلوًا عن مزاج ابن البلد حين يتسلطن يقول صلاح فى هذه الرباعية (أنا اللي) ويقول فى رباعية أخرى (أنا الذي) لأن الذى يقوده ليست هى اللغة بل النغمة. واللغة العامية مملوء بمطبات كثيرة وجلدها سريع التحول من النعومة إلى الخشونة بحيث يحق لمن يتأملها أن يؤمن بأنها تتأبى أن تنقاد وتدخل فى قيود بحور الشعر.. هى لغة فى صميمها فوضوية.. خذ مثلاً النفى بحرف الشين الساكنة فى ذيل فعل ماض آخر حرف فيه ساكن أيضا لأنه مجزوم بكلمة (ما) الواردة قبله. وأنت تعلم أننا نكره التقاء الساكنين. انظر مثلا هذه الرباعية. ياما صادفت صحاب وصاحبتهمش وكاسات خمور وشراب وما اشربتهمش اندم على الفرص اللى أنا سبتهم والا على الفرص اللى ماسبتهمش عجبي..” انظر كيف تثقل كل قافية على النطق لو أخذت وحدها وبالأخص كلمة (ماسبتهمش) ويكاد الفم وهو ينطقها يتكور كفم القمع ويمتد السكون على حرف السين إلى نوع من وش الصغير ليحل محل الحركة التى يتطلبها التقاء الساكنين. وقد عرف صلاح كيف يضع على جميع المطبات قناطر يعبر فوقها برشاقة رغم بدانته وحمله الثقيل من كراكيب العامية، حتى رباعية النفى بالشين حين تقرؤها خبطة واحدة تشربها فى شيء من السهولة دون أن تقف فى الزور – ذلك الذى يقوده هو أذن شديد الحساسية بالنغم ولعل السبب أن قالب الرباعية الأصيل قد استولى عليه وخبطه وعلمه حسن الأدب، إذ ينبغى أن أعترف أن بعض قصائده المطولة التى نشرها فى الأهرام بإمضاء (ص.ج) وهى مكتوبة بالعامية تبدو للسانى وأذنى وحتى لعينى – خالية خلوًا تاما من النغم، فلا أعرف هل هى شعر أم نثر؟ إن كانت شعرًا فهى أردأ الشعر وأن كانت نثرا فهى أحط النثر، إنها حطام لا كيان. لقد كان قلب الرباعيات بمثابة قيثارة من صنع ستراديفاريوس فأمدت العازف البارع صلاح بما لا يجود به غيرها وبما لا تجود لغيره. كم أتمنى أن يلتقى الشعراء عندنا إلى قالب الرباعيات فلو بعثوه من مرقده لأنقذهم من حيرتهم وجمودهم وفك عنهم أسر القوافى المطولة كذيل ثوب الزفاف فى أفرح الأثرياء. يحتاج إلى عشرين صبية لحمله. والنغمة العامية لها أيضًا جذب شديد لأعلى بل إلى أسفل، إلى الابتذال وقد عرف صلاح كيف يتفادى هذا الابتذال بفضل رقة حسه ومزاجه وكرهه لكل ما هو غث وغليظ وثقيل – كل ما هو عفن وقليل الحياء ولكنك إذا سمحت لأعصابك المخدرة بسحر هذه الرباعيات أن تبرد قليلا فقد يختلط عليك الأمر فى بعض الأحيان فتبدو لك اللفتة البارعة كأنها نكتة مبتذلة: بره القزاز كان غيم وأمطار وبرق ما يهمنيش – أنا قلت – ولا عندى فرق غيرت رأيى بعد ساعة زمان وكنت فى الشارع وفى الجزمة خرق عجبي..” فلو غيرت كلمة عجبى بكلمة (انزل) لصلحت هذه الرباعية أن تدخل فى ريبرتوار شكوكو العظيم. لم يهدد أحد اللغة الفصحى كما هددها صلاح. ضع فى كيس واحد كل ما كتب بها من أزجال وقصائد وأغان فلن يصعب عليك أن تلقيه فى أول كوم زبالة يقابلك فى سوق التوفيقية، حتى بيرم التونسى لم يشكل خطرا على الفصحى لأنه اقتصر على المحاكاة والوصف، أما صلاح فقد رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحى وثقافة المثقفين – فهى فى الحقيقة لغة ثالثة – إلى مقام اللغة التى تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرًا، وهذا خطر عظيم، ومع حبى لهذه الرباعيات أتمنى من صميم قلبى أن تكون عاقرًا فنحن فى غنى عن هذه البلبلة التى لابد أن تصيب حياتنا الأدبية. فالإجادة فى هذه اللغة الثالثة لن تكون إلا فلتة من الفلتات، فلو استخدمها كل من هب ودب تحول غذاؤنا كله إلى بضاعة دكان التسالي.. لب وفول وحمص وفشار. ونحن من علمنا بهذا الخطر لا نستطيع أن نتجاهل هذه الرباعيات إلا كنا كالنعامة التى تدفن رأسها فى الرمال وهذا هو ردى على الأستاذ الجليل نزيل دمياط الذى أتتلمذ على يديه وأغترف من فضله فقد كتب إلى يقول (لم وفيم هذا العناء كله من أجل هذه الرباعيات المكتوبة بالعامية؟).