يحيي حقي بالنسبة لي هو الأب الذي عشت في كنفه داخل واحة من الحنان والمعرفة والتعلم. علمني كيف أتنفس الحياة والرضا والأمل.أما يحيي حقي الإنسان فهو الذي يحمل في قلبه مشاعر المحبة والتصالح مع النفس مما جعله دائما هادئ الطبع, يحمل قلب طفل ورؤية رجل صاحب حكمة ومشورة ومشاعره صادقة سواء كانت مع الطفل الصغير أو الرجل الكبير أو الغني أو البسيط.. كان البسطاء دائما محور اهتمامه, وأغلب كتاباته كانت لهؤلاء الناس..قلبي مع الكومبارس الواقف هناك في الظل ونبضات قلبه كانت موهبة تتفتح فما من أحد طرق بابه إلا ووجد عنده الأبوة والحنو والرشد والأخذ باليد إلي بداية الطريق.. ...................................................................... وللمرأة اهتمام خاص وتقدير واحترام.عند يحيي حقي فقد كان شديد الاحترام لأمه. و كما كان يحترم أمه كان يحترم زوجته وابنته وكل امرأة.. وكان شديد الإعجاب بالمرأة المصرية لقوة إرادتها وصلابتها في تحمل الصعاب والمسئولية بلا كلل ولا ملل. وليست الموهبة وحدها التي شكلت وجدان يحيي حقي, ولكنها تفجرت وتميزت من خلال محطات كثيرة في حياته.فمن محطة الأسرة العاشقة للقراءة, وحب اللغة العربية, والشعر القديم, إلي الحي الشعبي الذي نشأ فيه وهو حي السيدة زينب رضي الله عنها, والذي شغل وجدان واهتمام ومزاج يحيي حقي فكانت أغلب كتاباته لهؤلاء البسطاء, وكان لسحرهذا المكان وعطره المتعة الجمالية عند هذا الكاتب, وكأن القدر كان يعده أن يكون ابن البلد الأصيل وابن الحارة الشعبية, إلا أن القدر أعده ليكون دبلوماسيا يحمل علم بلاده ويتكلم باسمها.. في كل المحافل الدولية. . تنقل يحيي حقي في محطات عديدة في حياته, خاصة عندما عمل في أول وظيفة كمعاون إدارة في مدينة منفلوط في أقاصي الصعيد. فكيف ليحيي حقي ذلك القاهري, الذي لم يخرج من دربها, أن ينتقل فجأة إلي أقاصي الصعيد و لكن هذه النقلة الجديدة أعطت له الكثير من التجارب والدروس.. وقد أرخ لهذه الفترة في كتابه خليها علي الله حيث سرد ذكرياته هناك وروي عن رؤيته للفلاح, وتتبع حاله وشاهد معيشته وأيضا الأرض ومكانتها عنده ورائحة الزراعة وهدوء النفس. وتعلم الفرق بين زراعة وأخري, ورأي الحيوانات والتعامل معها ووصفه وصفا بديعا. و قد أفرد فصلا عن الحمير بعنوان وجدت سعادتي مع الحمير.. إنها كانت فترة ثرية شعلت الكثير من المعرفة وأضافت إلي موهبته الإحساس الرفيع بإبداع الخالق وإبداع المكان. ومع انتقاله للعمل في السلك الدبلوماسي الذي كان النافذة الحضارية العميقة في قلب ومشاعر وأحاسيس يحيي حقي من تعلم الفنون والثقافة وطبائع البشر والسياسة وتعلم اللغات وقراءة التاريخ, وذلك كله جعل كتابات يحيي حقي متميزة ولها أوجه عديدة وآراء كثيرة. فكان لكل بلد زاره سحره وحضارته وتاريخه وفنونه وعادته ما أضاف إليه الكثير والكثيرمن التجارب والمعارف. فمن الحجاز إلي تركيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من البلاد الكثيرة اكتسب يحيي حقي معارف كانت من أهم المؤثرات في حياته, وقد كتب عن تلك الفترة العديد من الكتب وعن الفنون الجميلة وكأنه فنان تشكيلي أو ناقد فني متمكن عالم ببواطن الجمال وإبداع الفنان كأنه في محراب الفن أصدق مثال من فكر يحيي حقي صاحب الأسلوب المتميز الذي سماه الأسلوب العلمي في التعبير. وعندما يذكر اسم يحيي حقي نذكر فقط قصة قنديل أم هاشم وكأنه لم يكتب غيرها.. رغم أنها قصة تعيش عصرنا الحديث بأسلوبها وفكرها وكأنها شابة ولدت حديثا وليست في النصف الثاني من القرن الماضي.. وهذه هي عبقرية يحيي حقي في كل ما كتب وليس هناك أي اغتراب عن عالمنا الجديد, و هناك كتب عديدة كتبها يحيي حقي لم تنل اهتماما كافيا... رغم أنه ترك للمكتبة34 كتابا من أمتع الكتب وأجمل ما تقرؤه له مما لا يمكن حصره كتاب مدرسة المسرح إلي تعالي معي إلي الكونسير إلييا ليل يا عين.. ولكن من أهم ما كتب في رأيي ويعتبر درة من درر هذا الكاتب كتاب صفحات من تاريخ مصر...أقدمه لكل محب للقراءة وهو أصدق شاهد علي أدب يحيي حقي. و يتناول الكتاب فصولا في وصف الأحداث التاريخية والأماكن والأسواق والأعياد والألعاب في الماضي والحكام والثورات في وصف هذه الظواهر كلها.. لكنه عمد إلي أسلوبه في القصة القصيرة حيث صبغ الحوادث بالأشياء التي وصفها والذي عكس فيه ذاته وصوره الفنية.. وهكذا وصف ثورة1919 وهو هنا لا يقوم بدور المؤرخ إنما يقوم بدور الشاهد علي وجدان الشعب.. وأصدق دليل علي مقدرة يحيي حقي الفنية ما احتواه هذا الكتاب من تصوير بنقل الحوادث التاريخية إلي رؤية أدبية قصصية من أرض الواقع.. من أمثلة هذه الصور صورة توت عنخ آمون الملك الصغير إذ وضع هذه الصورة علي لسان بلاغ مقدم من اثنين من العلماء من أساتذة التشريح من جامعة ليفربول بأن جريمة قتل قد وقعت في بلادنا وجثة القتيل مازالت محفوظة. ثم يستطرد يحيي حقي في وصف ذلك الملك الشاب الذي كان نائما في أمان الله في المتحف يذهب الناس إليه قد ضاق ذرعا وخشي علي مفاصله من أن تتصلب.. فنقل الصورة الأصلية إلي صورة فنية فيقول.. إن الملك الشاب قد تنازل عن أبهة العرش وقرر أن يسافر ويضرب في أرض الله.. بلد تشيله وبلد تحطه. ومن صفحات هذا الكتاب تصويره للمجتمع عندما جاءت الحملة الفرنسية إلي مصر سنة..1798 والصفحات مليئة بالحوادث والشخصيات رصدها يحيي حقي وأرخ لها وكأنه جبرتي العصر الحديث يشاهد ويراقب ويحصد ويكتب ويؤرخ.. وقد صور لنا الأعياد والألعاب في القاهرة والأسواق كأسواق العصر.. وسوق الكانتو وسوق الخيل وبائع القباقيب وصانع الطرابيش.. إلي آخره.. حتي إن الذكريات الحديثة في العصر القريب أرخ لها في هذه الصفحات وهي عن زيارته للجبهة بعد النكسة وتقابل مع نجوم الفن والإعلام والشعراء وتفاعل الشعراء مثل شاعرنا الراحل عبد الرحمن الأبنودي والفنانة سعاد حسني.. تلك الرحلة كانت مهمة وكنت شاهدة عليها وقد ختم هذا الكتاب بفصل عنوانه سجل هذا الشعب.. حيث كتب: أي عجب! لم يترك غير هذا الشعب سجلا كاملا باقيا علي الدهر مستوعبا لجميع معيشته ومعتقداته علومه وفنونه وعمله ولهوه.. ما من ساعة من عمره إلا وقلنا كيف كان يقضيها.. مامن مهنة كانت إلا كان لها نصيب في هذا السجل.. وهكذا كتب يحيي حقي وشرح صادق الود والريق الحلو وهكذا كان يحيي حقي الذي طالما سمعته يردد هذا البيت من الشعر الذي يقول:نحن أمواج إن نسترح نمتعن أحياء بأن لا تستريحوها قد استرحت يا والدي.