أعلنت الحكومة منذ أسابيع قليلة أنها ستمنح مزارعى القمح دعما نقديا مباشرا قدره 1300 جنيه للفدان،بحد أقصى 25 فدانا. ويحصل الفلاح على هذا الدعم مقدما فى بداية الموسم، على أن تقوم الدولة بشراء القمح عند الحصاد وفقا لمتوسط السعر العالمي، دون تحديد مسبق لسعر الشراء. التطور الجديد يعكس عدة أمور فى مقدمتها سعى الحكومة لتفادى ما حدث لها خلال العام الماضى حينما باع الموردون لها الترماى وفازوا بنحو 1.7 مليار جنيه من دعم القمح دون وجه حق. خبراء التموين والعديد من خبراء الزراعة أكدوا أن الموردين كانوا يخلطون القمح المستورد منخفض الجودة بالقمح المصرى ويبيعونه لوزارة التموين بالسعر المرتفع الذى كانت قد حددته لتشجيع المزارع المحلي، والذى كان يزيد بنحو 100 جنيه للأردب عن سعر القمح المستورد. النظام الجديد يغلق الباب أمام التلاعب والغش، فثمن الشراء فى كل الأحوال لن يزيد عن متوسط الأسعار العالمية.. ومن ناحية أخرى فإن مبلغ الدعم المقرر لن يسلم للمورد الذى قد يكون تاجرا أو مستوردا، بل سيسلم نقدا للفلاح الذى يزرع القمح. كلام يبدو جميلا بالفعل، ومع ذلك ولأن الشيطان يكمن فى التفاصيل، فقد أثار هذا القرار ثائرة الفلاحين وخبراء الزراعة الأكاديميين ومسئولى وزارة الزراعة معا. الحكاية أن الفلاحين وخبراء الزراعة حسبوها بالورقة والقلم فوجدوا أن الحكومة قد حددت سعر استلام المحصول بمتوسط الأسعار العالمية للقمح خلال الربع الأول من عام 2016، و سعر الصرف المعلن للدولار من جانب البنك المركزى فى أول أبريل القادم. الخبراء يقولون إن هذا التوقيت هو الذى تنخفض فيه الأسعار العالمية للقمح إلى أدنى مستوياتها، بحيث يتوقع ألا يتجاوز متوسط السعر العالمى لأردب القمح ما يعادل 240 جنيها تقريبا، ومع إضافة رقم الدعم المقرر من الحكومة سيتراوح السعر النهائى الذى يحصل عليه الفلاح بين 311 جنيها و 320 جنيها للأردب. الثمن المتوقع لا يغطى تكلفة إيجار الأرض وتجهيزها وثمن التقاوى و الزراعة والرى والأسمدة والمبيدات والحصاد والتحميل. باختصار.. الحسبة خسرانة! خبراء الزراعة أكدوا أنه رغم الترحيب بأن يقدم الدعم النقدى المباشر للفلاح وليس للمورد، إلا أن مبلغ الدعم يجب أن يرتفع ليغطى تكاليف الإنتاج خاصة وأن تلك التكاليف قد ارتفعت خلال العام الماضى بما يتراوح بين 20% و25%. تساءلوا كيف يتم استبعاد خبراء مراكز البحوث الزراعية وقطاع الشئون الاقتصادية بوزارة الزراعة من عملية تقدير تكلفة انتاج أردب القمح، وأكدوا أن قيمة الدعم الكفيل بتغطية التكلفة يجب ألا تقل عن 2000 جنيه للفدان. أما مجلس الاتحاد التعاونى الزراعى المركزي، الذى يمثل 7400 جمعية تعاونية زراعية على مستوى الجمهورية، فقد أعلن رفضه بالإجماع لقرار مجلس الوزراء بشأن توريد القمح فى الموسم الجديد، مؤكدا أن هذا القرار يخالف الدستور الذى يلزم الدولة بشراء المحاصيل الاستراتيجية من الفلاح بسعر مجز، وطالب بألا يقل سعر أردب القمح عن 420 جنيها كما كان الحال خلال العام الماضي. على صعيد آخر تواترت أنباء عن تراجع شديد فى مبيعات تقاوى القمح عالية الإنتاجية على مستوى الجمهورية فى منافذ الجمعيات الزراعية والإدارة المركزية لإنتاج التقاوى بوزارة الزراعة، وهو ما قد ينذر بتراجع المساحات المزروعة قمحا خلال الموسم المقبل. وفى نفس السياق ترددت أنباء عن توقف الشركات العاملة بمشروع شرق العوينات بمحافظة الوادى الجديد عن زراعة القمح والتى كان يتوقع أن تشغل أكثر من 80 ألف فدان. القرار وتداعياته يثير التساؤل حول رؤية الحكومة وأولوياتها.. هل هناك سعى لتحقيق أى درجة من درجات الأمن الغذائى أم أن الأولوية المطلقة هى لتخفيض تكلفة الدعم فى الموازنة العامة للدولة؟ هل تتلخص رؤيتها فى التعامل مع سلعة استراتيجية مثل القمح ورغيف العيش للمواطن المصرى فى أن تكون الأولوية للشراء بأقل سعر يستوى فى ذلك السوق العالمية أو الزراعة فى الداخل؟ وزير التموين يعلن أنه قد تغلب على ظاهرة احتكار عدد محدود من المستوردين على مناقصات توريد القمح للحكومة وأن هيئة السلع التموينية أصبحت قادرة على التعامل مباشرة وبكفاءة مع البورصات العالمية للحبوب. هل يعنى ذلك أن الحكومة قد قررت الاعتماد على الاستيراد للإفادة من اتجاه الأسعار العالمية للقمح إلى الانخفاض، لذا يتم تطبيق سياسة سعرية تحفز الفلاحين على تخفيض المساحة المزروعة وتخفيض حجم الانتاج المحلى؟ قرار مجلس الوزراء يقول إنه يستهدف إعطاء الحرية للفلاح لتسويق محصوله وفتح أسواق جديدة للقمح المصرى عالى الجودة.هل يمكن أن تستهدف سياسة الحكومة حث المزارع المصرى على تصدير القمح المحلى عالى الجودة على أن نقوم باستيراد القمح العالمى الأقل جودة وسعرا؟ ما هى بالضبط رؤية الحكومة؟ القضية فى الواقع أكبر من موضوع دعم الزراعة والذى تتعامل معه الحكومة باعتباره جريمة يجب الكف عن اقترافها، رغم أنه حتى فى أعتى الدول الرأسمالية يتم دعم الفلاح كى لا يتخلى عن الزراعة التى صارت ربحيتها أقل من قطاعات النشاط الأخرى. القضية الآن هى القمح ورغيف العيش، قضية أن نسيطر على حد أدنى من شروط إنتاج لقمة عيشنا اليومى حتى لا نقع تحت رحمة تقلبات مواردنا من النقد الأجنبى وتقلبات السوق العالمية ومخاطر السياسة الدولية. القضية ببساطة هى قضية أمن قومى. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى