فى افتتاحه مؤتمر مؤسسة الفكر العربى، أكد الرئيس السيسى: الحاجة الماسة لإعطاء أولوية قصوى لتطوير قطاع الصناعة؛ وربط استراتيجية التنمية الصناعية بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية؛ لتسهم فى تحسين مستوى معيشة المواطن، وتخفض من الاعتماد على الاستيراد. وبعد دعوة الرئيس الى أولوية تعظيم الموارد بالتصنيع، وعدالة توزيع ثماره، آمل أن يتبنى برنامج الحكومة المُعد لتقديمه الى مجلس النواب مهمة تصنيع مصر، حتى لا يبقى فريضةً غائبةً، كما كان الأمر فى برامج الحكومات المتعاقبة؛ منذ وأد مشروع تصنيع مصر فى عهد عبد الناصر باعلان انفتاح اقتصادى، غرس جذور الفساد المنظم والجشع المنفلت. وقد سجلت فى ورقتى بمؤتمر مؤسسة الفكر العربى، المعنونة: الصناعات التحويلية رافعة التنمية الاقتصادية العربية، أنه لا طريق غير التصنيع إذا أردنا تعزيز الأمن الاقتصادى، القومى والإنسانى، وتصفية التخلف والتبعية، وتقليص البطالة والفقر. فالتصنيع، رافعة التنمية الاقتصادية والشاملة، وركيزة النمو المتواصل للإنتاجية والتنافسية والتشغيل والتصدير، والسبيل لنيل الكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والحياة اللائقة, والطريق لتعزيز السيادة الوطنية واسترداد الريادة التاريخية. وبغير التصنيع لن تعرف مصر عدالة توزيع الغنى فى بلد متقدم يتمتع بالثراء، وستبقى أسيرة وهم أن الرخاء سبيله عدالة توزيع دخل قومى متدن، لن يثمر سوى عدالة توزيع الفقر. ورغم وجوب محاربة الفساد، علينا استيعاب أن خسائره على تدنى قيمة العمل وتكريس نهب الأمة وإضعاف الاستثمار الانتاجى، تزيد عليها خسائر عدم كفاءة إدارة تخصيص وتنمية مواردنا النادرة. ومنذ تخلت الدولة عن قيادة التصنيع، وتركت أمر التنمية للسوق الحرة، الفاشلة والظالمة، عانت مصر تهميش الذات؛ فتخلفت وبشدة عن بلدان سبقتها فى كل حقب تاريخها، وصارت يدها هى السفلى بعد أن كانت العليا، تتلقى العون بدل تقديمه، وتعمقت أسباب فقر المصريين؛ دخلًا وقدرةً. وقاد هدر ثروة الأمة المتاحة للاستثمار بعيدا عن التصنيع لتكريس تراجع مكانة ودور مصر، لأن مكانة أى دولة ودورها تتوقف على قدراتها الصناعية التكنولوجية، فى المجالين المدنى والعسكرى. ولن تصبح مصر دولة متقدمة بمجرد تحقيق معدل مرتفع للنمو الاقتصادى; حتى وإن استدام هذا النمو عقوداً! وإنما بتحولها إلى دولة صناعية، وبغير التصنيع لن تشارك من موقع التكافؤ فى إدارة شئون محيطها الاقليمى والعالمى. وبفضل التصنيع بمفهومه الواسع، أى بنشر ثمار التحديث الصناعى التكنولوجى فى بقية قطاعات الاقتصاد, ستغدو مصر- كما الدول الصناعية- مُصَدِرةً للسلع المصنعة, بمكوناتها ذات المحتوى المعرفى الأرقى والقيمة المضافة الأعلى, بل ومُصَدِرةً للمعرفة والتكنولوجيا والخدمات والغذاء والاستثمار! ورغم وجوب استزراع كل شبر واستغلال كل قطرة ماء، تتأكد حتمية تصنيع مصر فى ظل قيود المياه والأرض المتاحة للتنمية الزراعية. ولا يعنى التصنيع إهمال الزراعة؛ لأن رفع الإنتاجية فى الزراعة المصرية يستحيل بغير إمدادها بمدخلات التقدم الصناعى التكنولوجى, وتصنيع منتجاتها ومضاعفة قيمتها المضافة. أضف الى هذا، مخاطر تعميق الاعتماد على الصادرات المتقلبة للخدمات؛ مثل الدخل السياحى أو إيرادات القناة أو تحويلات المهاجرين أو العوائد البترولية. وتعظيم القيمة المضافة من الثروة البترولية مرهون بتطوير الصناعات البتروكيماوية فى حلقاتها الأرقى, ومضاعفة القيمة المضافة للسياحة تتوقف على ما يتيحه التصنيع من إنتاج محلى لمستلزماتها.. إلخ! وأكرر لمن روجوا فرية أن مصر لا تملك القدرة على التصنيع، وأن مزية الاقتصاد المصرى تكمن فى تنوعه، أن عوامل النجاح واحدة، وبكلمات أخرى: الفالح فالح فى كله، والخائب خائب فى كله!! وبغير التصنيع، لا سبيل لتنمية مستديمة على أسس وطنية؛ تضاعف الثروة والدخل بغير حدود ولا قيود، وستبقى دعوة العدالة الاجتماعية مجرد مطلبٍ بعدالة تقاسم فقر؛ لا يتيح غيره دخلٌ قومىٌ متدنٍ! وبغير التصنيع لن تتحقق الكرامة الانسانية للمصريين، لأن هدرها حصاد مرير للفقر: شاملًا فقر الدخل؛ المؤدى للحرمان من القدرة على إشباع الحاجات الإنسانية الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، وفقر القدرة؛ المتولد عن الحرمان من فرص التعليم الجيد والرعاية الصحية اللائقة. وشاملًا الفقر النسبى، المتولد عن الإحساس بالفقر جراء العجز عن تحقيق التطلع المشروع لنوعية حياة أفضل، يراها المصريون مع اتساع فجوة الدخل والثروة داخل الوطن، ومع الاغتراب بالهجرة المؤقتة أو الدائمة الى بلدان غنية. ولن يتمتع المصريون بأمنهم الإنسانى, فيتحرروا من الحاجة والفاقة والخوف من المستقبل, إلا بفضل ما تتيحه عملية التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية, تؤمن لهم عملا لائقا، ودخلا مرتفعا، وحياة كريمة ومديدة بصحة جيدة. ولن يتحقق تقدم مصر بجسارة وثبات على طريق التصنيع بغير أن تثق- قيادة ونخبة وأمة- فى قدرتها على أن تصبح دولة صناعية, وأن تدرك أن إنجازات محاولاتها للتصنيع على مدى القرنين الماضيين, رغم ما تعرضت له من إنتكاسات, تؤكد ولا تنفى هذه القدرة. ولا أزعم ان مهمة التصنيع يسيرة، ومن ذلك، على سبيل المثال، تدهور التعليم والتدريب، وهو ما كشفه تراجع مصر الى المرتبة قبل الأخيرة فى مقياس عالمى لجودة التعليم، وهى التى علمت الدنيا أكثر مما تعلمت منها!! ويقينا لن تتحسن جودة التعليم بجانب مراعاة الجدارة والعدالة معا، وبغير مضاعفة الانفاق عليه ليبلغ المستويات العالمية، ولن تتوفر الموارد اللازمة لهذا الانفاق بغير عملية التصنيع، بدءا من الحد الأدنى المتاح من العمالة المؤهلة والمدربة متاح فى مصر. ويتطلب التصنيع- كما أوجز الرئيس السيسى أمام مؤسسة الفكر العربى، وفى إطار تكامل صناعى عربى منشود: توفير التمويل الضرورى، وتطوير البنية الأساسية والمعلوماتية، وتفعيل مكافحة الفساد، وتعزيز الاستثمار للاستفادة من الموارد، وخاصة البشرية المتمثلة فى العمالة المدربة من أجل تعزيز الصناعة، وتوظيف إنتاجها للنهوض بقطاعات أخرى مثل الزراعة لتحقيق نهوض اقتصادى شامل، يأخذ بعين الاعتبار تطوير منظومات التعليم والتدريب والبحث العلمى والتطوير التقنى.. وفى مقالات أخرى، سأتناول- إن شاء الله- استراتيجية وسياسات تصنيع مصر. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم