السير الشعبية في الثقافة العالمية عامة نتاج رؤية الشعوب لأبطالها، وتصوغها المخيلة الشعبية حسب الزمان، والمكان، ووفق ثقافة الراوي ووعيه، وتختلط فيها الأسطورة بالحقيقة، ويتفوق فيها الخيال أحيانا على الواقع، وتزداد أهمية السير إذا اتصلت بميول الناس السياسية، ومعتقداتهم، فيمكن أن تصبح أفقا لتعويض الهزائم، ببطولات بديلة، كما تصلح للسمر في المقاهي والسهرات، كما يمكن استلهامها في الإبداعات كالأدب، والسينما، والتشكيل، وغير ذلك. وأهمية السير الشعبية أنها تكشف عمق اهتمام العامة من غير المتعلمين، بالأوضاع السياسية، وغيرها من الأمور الجوهرية، كالمتغيرات الدينية والاجتماعية، بمعزل عن الصفوة، وبحنكة إبداعية بعيدة عن المباشرة، ما يفيد بأن تلك الطبقات تتأثّر بالأحداث الكبرى، وتُؤثّر فيها، لكن بآليات مختلفة عن طرائق النُخبة. والسير ظاهرة إنسانية، لا تخص شعبا بعينه، ولا بلدا دون غيره، وليس العرب هم أول من ابتدعها، بل سبقهم المصريون القدماء ، والبابليون، والإغريق، إلى الأساطير والملاحم. وفي فترة الحروب الصليبية ظهرت «أنشودة رولان» «Chanson de Roland » الشعبية الفرنسية، وكانت منتشرة منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأثَّرت بعمق في وجدان الشعوب الأوروبية، وربما كان لها دور كبير في شحن العوام هناك ضد العرب والمسلمين، وأجَّجت الصدام الديني الشهير، و هى أقدم «أناشيد المآثر» أو البطولة الفرنسية، عن معركة «رونسيفو» «Roncevaux» وحدها، وهي أقدم ما تبقى من الأدب الشعبي الفرنسي، ومخطوطاتها المتعددة تعكس شعبيتها الكبيرة من القرن الثاني عشر إلى الرابع عشر، وأقدم نسخها «مخطوطة أكسفورد» التي تصل إلى 4004 أسطر، وتعود إلى عام 1140 و 1170، وبالمقابل في العصور الوسطى تقريبا، ظهرت حكاية الملك النعمان وابنه ضوء المكان، والعجوز شواهي ذات الدواهي، في ألف ليلة وليلة، تحمل نفس التطرف ضد الروم. ورُويت قصة «رُولان» لأول مرة في أغنية، وهي قصيدة ملحمية كتبها فرنسي مجهول، بناء على حادثة حقيقية وقعت عام 778م، ووصف المؤلف «رُولان» بالبطل، لأنه أظهر من وجهة نظره شجاعَة وإخلاصاً بقبوله مهمة حماية مؤخرة جيش الملك «شارلمان» من «الباسكيين أثناء عبوره سلسلة جبال البرانس بين فرنساوأسبانيا بكل ما حملته من مخاطر، على رأسها موت «رولان» ورجاله على يد الباسكيين، والعرب كما تقول الملحمة. تمثال رولان وتمجِّد الأنشودة الشعبية «رولان»، وتبالغ في بطولاته، وانتصاره على المسلمين مع أنه مات في معركة "رونسيفو" عام 778م هو وجنوده، لكنها تكشف الروح العدائية التي سادت أوروبا تجاه المسلمين في العصور الوسطى، حيث أوردت أن «رولان» أباد مئات من المسلمين قبل أن يلقى حتفه، وأنه نفخ بوق الاستغاثة بضعف وهو يموت، فتنبه «شارلمان» فعاد مسرعاً ليثأر لابن أخيه ويقضي على بقية جيوش المسلمين، ويخترق حصونهم ويفتح مدائنهم. وثمَّة روايات عربية تقول إن قوات إسلامية أرادت استعادة الأسرى العرب، على رأسهم حاكم برشلونة « سليمان الكلبي» الذي أسره «شارلمان» حين قرر العودة إلى فرنسا فهاجمت مؤخرة جيش شارلمان وأجهزت عليها وعلى «رولان»، ويقول المؤرخ الإسباني «رامون بيدال» أن الباسكيين تحالفوا مع المسلمين، وكمنوا في مضائق جبال البرانس، وهاجموا معاً مؤخرة الجيش، لأن «شارلمان» غزا بلادهم وحطم عاصمتهم. تقول الأنشودة: « الجبالُ عالية والصخور تصعد نحو السماء، والأودية سوداء، والفرنسيون يعبرونها بمشقة بالغة، والأحجار تنزلق من تحت أقدامهم، ويسمعون صوت الجيش المتحرّك من بُعد شديد. وعندما دخل رجال شارلمان إلى فرنسا، ورأوا "جاسكوني" تذكّروا ديارهم وأولادهم وزوجاتهم، لكن "شارل" كان حزينًا، فلقد ترك في الأودية السوداء لبلاد الأسبان ابن أخيه "رولان" الذي يحبّه كثيرا. » وتُعدُ أنشودة «رولان» أدباً شعبياً صليبياً استباقياً، حيث جعلت موقعة «رونسيفو» حرباً صليبية، وصورت «شارلمان» الإمبراطور أباً للمسيحية، لمحاربته المسلمين وبنائه كنيسة «سان ماري لاتيني» في بيت المقدس، وقدمت «رولان» كفارس مسيحي يقاتل أعداء الله، ونعتت الأنشودة المسلمين في بدايتها بالكُفَّار، تماما كما وصف الراوي الشعبي المسلم الروم في حكاية الملك النعمان بألف ليلة وليلة سابقة الذكر. ومن المعروف أن الأمور حين استقرت للمسلمين في الأندلس، لم يتوقفوا عن محاولاتهم غزو فرنسا منذ عام 92ه، وكانت تسمى بلاد الغال، شمال جبال البرانس، ولم توقفهم غير هزيمتهم القاسية في موقعة «بلاط الشهداء» على يد «شارل مارتل»،بالقرب من جنوب العاصمة الحالية باريس. وبعد ذلك شهدت الأندلس حربا بين العرب والبربر تزامناً مع العشرين سنة الأخيرة من حكم بني أمية في دمشق (112 – 132ه)، وحين سقطوا، بسط العباسيون نفوذهم على كل أمصار الدولة الأموية، ووصلوا إلى تونس والجزائر، ولاحقوا الأمويين في كافة البلاد، وتمكن «عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان» المعروف ب «عبد الرحمن الداخل» من الإفلات، وفر منهم إلى الأندلس، واستقر هناك، وحين عرف الناس مكانته بايعوه، وحاول ترسيخ أقدامه منذ عام 138ه، لكن ثورات العرب والبربر عليه لم تهدأ، ففي سنة (157ه/773م) وسط الثورات والفتن، اتفق حاكم سرقسطة «الحسين بن يحيى الأنصاري» وحاكم برشلونة وجيرونة «سليمان بن يقظان الكلبي» على التنصل من تبعيتهما ل«الداخل»، فأخرجا شمال الأندلس الشرقي عن طاعته، فأرسل الداخل جيشا بقيادة «ثعلبة بن عبيد الجذامي»، فهزمه «سُليمان الكلبي» وأسره وتفرّق جيشه سنة 158ه/775م، فمنح هذا النصر ثورة الشمال دفعة قوية، لكن «الأنصاري» و«الكلبي» طلبا نجدة «شارلمان» ملك الفرنجة، لخوفهم من «عبد الرحمن الداخل». وذهب «سليمان الكلبي» الذي تُسميه الرواية اللاتينية «ابن الأعرابي»،إلى بلاط «شارلمان» في ربيع 160ه/777م، في مدينة «بادر بورن» شمال غرب ألمانيا، وعرض عليه التحالف ضد «عبد الرحمن الداخل»، وطلب منه غزو ولايات الأندلس الشمالية، وتعهّد بمعاونته، وتسليمه المدن التي يحكمها وعلى رأسها سرقُسطة وبرشلونة، ويُسلّمه أيضا القائد العسكري الأسير «ثعلبة بن عبيد» قائد جيش «الداخل»، ويعلنوا الخضوع والولاء له. وافق «شارلمان»، وهو حفيد «شارل مارتل» هازم المسلمين في موقعة «بلاط الشهداء»، على العرض المغري، ليقضي على المسلمين، ويستعيد الأندلس بمباركة الكنيسة، ووصفته الروايات اللاتينية بمنقذ نصارى ويهود الأندلس من المسلمين. تقول الأنشودة إن «شارلمان» بقي في إسبانيا سبع سنوات، دانت له خلالها كل مدنها إلا «سرقسطة» التي حاصرها، وحين ضعف صمود حاكمها الملك «مارسيل» كما تسميه الملحمة، أرسل وفدًا إلى «شارلمان» عارضا عليه رفع الحصار عن «سرقسطة» مقابل أن يدين له بالولاء ويُرسل له من خراج مدينته ما يشاء، وعارض الفارس «رولان» هذه المطالب بشدة وأصر على إكمال الحرب،لكن «جانلون»، أحد أهم الأمراء، وافق على مطالب حاكم «سرقسطة»، مما شجع «شارلمان» على قبولها وإرسال مندوب إلى حاكم «سرقُسطة»، فاقترح «رولان» أن يكون «جانلون» هو مندوب «شارلمان»، لكن «جانلون» الذي كان يخاف أن يقتله المسلمون رفض، فأصر «شارلمان» على إرساله، فذهب حاقدًا على «رولان»، عازماً على الانتقام منه، وخلال رحلته اتفق مع ملك المسلمين على كمين للتخلّص من «رولان» الذي عانى منه المسلمون كثيرًا، شريطة أن يحاول «جانلون» جعل «رولان» قائدًا لمؤخرة جيش الانسحاب، وهذا ما تمّ تنفيذه في موقعة «رونسيفو»، وحين عاد «شارلمان» بجيشه لإنقاذ «رولان» وجده وجنوده قتلى، فانتقم من الجنود المسلمين، ومن «جانلون» الخائن. وقبل ذلك. حين قرر «شارلمان» غزو إسبانيا جمع قوّاته في ربيع سنة 778م/161ه ، قبل الشتاء، وقسّم جيشه إلى قسمين، عبر أحدهما جبال البرنيه من الناحية الشرقية، وعبرها القسم الثاني تحت إمرته من الناحية الغربية على الطريق الروماني القديم، قريبا من منطقة رونسيفال الوعرة، وكانت خطته أن يجتمع الجيشين على ضفاف نهر الإيبرو أمام أسوار «سرقُسطة» ليلتقي حلفاءه من المسلمين. لكنه حين اجتاز منطقة نافارو التي يسكنها الباسكيون أقصى شمال الأندلس، وكانوا شعبًا قوياً رفضوا الانضواء تحت الحكم الفرنجي، أوالإسلامي، ارتكب «شارلمان» خطأه الفادح، باستعامل القوة المفرطة مع «بنبلونا» عاصمة الباسكيين، وأباد أهلها، وسبى نسائها، وحرق دورها، وقتل رجالها لأنهم دائما مع العرب ضد الفرنسيين، ما جعل الباسكيين يضمرون له الحقد، ويطلبون دعم «عبد الرحمن الداخل» الذي أمدهم بالأسلحة، وأرسل إليهم جيشا من العرب لمساندتهم. لذا قرر «شارلمان» الانسحاب، مصطحباً معه «سليمان الكلبي» أسيرا لعدم وثوقه فيه، وكان حاكم «سرقسطة» «الحسين الأنصاري» رفض فتح أبوابها أمام «شارلمان»، ربما لحنقه على «سليمان الكلبي»، وربما خوفًا من الخيانة والقتل، وربما لشعوره بذنب الاستعانة بالفرنجة على المسلمين وبلادهم، وهو ما دفع «شارلمان» إلى الإسراع بالعودة إلى فرنسا، خشية هجوم جيش «عبد الرحمن الداخل» عليه في تلك المنطقة الوعرة، وبسبب الأخبار التي وصلته من الشمال بأن السكسونيين خرجوا عن طاعته، وخربوا وأحرقوا الأراضي حتى ضفاف نهر الراين، وأثناء الانسحاب من شمال الأندلس تجلى دور «رولان»، في حمايته مؤخرة جيش عمه، وألهبت هذه الروايات المخيّلة الشعبية الأوربية، حيث أصرَّت «أنشودة رولان» على أن المسلمين هم الذين هاجموا مؤخرة جيش شارلمان المُنسحب، وقتلوا بطلها «رولان»، فكانت سببًا في تجدد تلك الروح العدائية خلال الحروب الصليبية بعد أكثر من ثلاثة قرون. تقول الأنشودة: «لقد ترك «شارلمان» في أسبانيا، نقباءه الإثنى عشر، أشهر الشجعان في جيشه، و20 ألف فرنسي لا يخافون الموت، وواصل المسير نحو فرنسا، ولم تغلبه مخاوفه، ولم يُظهر أفكاره للآخرين... - كان «شارلمان» حزينًا، وكان كل الفرنسيين يعرفون السبب، وكلّهم يخاف على «رولان»، وأخذوا ينظرون إلى سيف «جانلون» ومعطفه وخيوله المُحمّلة! ومع أن الرواية الرسمية التاريخية ظلّت تركز على أن «الباسكيين» هم الذين أجهزوا على مؤخرة جيش «شارلمان»، وربما أقر التدوين الرسمي هذه الحقيقة، التي خالفتها الروايات العربية والإسبانية لاحقا، وكان الغرض منها تقليل وقع الهزيمة على المستوى النفسي للأوربيين، فأن يُهزم الأوروبي على يد مسيحي باسكي خير من هزيمته على يد مسلم «كافر»! وكان القرن الحادي عشر قد شهد اتساعاً هائلاً لنفوذ الكنيسة والبابوية في أوربا، وكان باباوات مثل «يوحنا الثاني عشر»، و «جريجوري السابع» يجبران ملوك أوربا على الخضوع أمامهما، لتحويل بأس المسيحيين إلى أعدائهم، فبدلاً من محاربة الأوربيين بعضهم، كان عليهم توحيد جهودهم ضد مسلمي الأندلس، وكان أهل شمال إسبانيا قد أصبحوا قوة ضد الوجود الإسلامي في الأندلس، ونظّمت الحملات الصليبية، وجُمعت لها النذور، وأصدر البابا «ألكسندر الثاني» صكوكًا بالغفران لكل من شارك في تلك الحرب، واتسع نطاق الحرب إلى بلدان المشرق الإسلامي، وجزر البحر المتوسط الإسلامية. وأعيد إحياء «أنشودة رولان» لتكون على رأس دعاية الحروب الصليبية، لتأثيرها الكبير في وجدان الأوروبيين، وكان دور «الأغاني الحماسية» في الدعاية كبيرا، لأنها جسَّدت الصورة النمطية للمسلمين، بأثرها السلبي في الوجدان المسيحي، وهذه الأغاني كانت كثيرة في اللغات الأوربية المختلفة، خاصة الفرنسية والألمانية، وكان بعض الشعراء يقودون الحملات الصليبية، لشحن مشاعر الأميين من العامة، ودفعهم للتطوع في الحملات الصليبية هم وأبناؤهم، ليثأروا من المسلمين «البرابرة» الذين قتلوا بطلهم الشعبي «رولان»! ومن الحوارات التي وردت في « الأنشودة»: - « أوليفير: يا صديقي رولان، صدّقني .. من الأفضل أن تنفُخ في البوق. رولان: وحق إلهي، لن يُلجئني أحد أبدا إلى طلب النجدة، ولن يستطيع أحد أن يقول يومًا، إن رولان كان خائفًا، وفي المعركة سوف أضرب ألفًا وسبعمائة ضربة، وسترون الدم يخضب سيفي، وكل الفرنسيين شجعان مثلي، وسيفعلون كما أفعل، وسيموت أهل إسبانيا»!. وقيل أن مؤخرة الجيش أبيدت عن آخرها، ولم يتبق سوى «رولان» وثلاثة من قادته قتلوا معه في النهاية، وحين شعر «رولان» بنهايته نفخ في البوق حتى مات. أما عن نهاية «سليمان الكلبي» فالمعلومات متباينة، فمنهم من قال أنه قُتل، وقال آخرون إن «عبد الرحمن الداخل» سجنه حتى مات، لكنهم جميعا اتفقوا على أن «الكلبي» جلب العار لنفسه، وأهل بيته بما لم يستطع التاريخ أن يمحوه. وبالمقابل لهذه الأنشودة، يحتفل «الباسكيون» إلى الآن بالنصر على جيش «شارلمان»، وقتل «رولان» بطرقهم الخاصة، وروايات مختلفة عن الأنشودة.