بعد أن بكينا ليل نهار, علي انتحار صديقنا الحمار, مرت بنا الأيام, فكدنا أن ننسي حزننا والآلام, ومالت بنا الحال, ففقدنا كل الآمال, وغرقنا في الأهوال, وفي تربية العيال. ثم إننا في ليلة ليلاء, أصابنا الإعياء, من شدة البلاء, فانطلقنا إلي الخلاء, نتنسم الهواء, وإذا بنا بعد غياب الشمس, نسمع صوتا كأنه الهمس, يدندن لنا في خفوت: بس.. بس.. بس, فلما أن تتبعنا مصدر الصوت, قادنا إلي نهاية الغيط. وما إن نظرنا بتمعن, رأينا ما لم تصدقه الأعين, ولا خطر علي قلب بشر, فتعجبنا من تصاريف القدر. لقد شفنا صديقنا الحمار, الذي مات دون سابق إشعار, وادعوا عليه الانتحار, يرتدي ثوبا أبيض في أبيض, و يسير الهوينا كأنه يتريض. وساعتئذ ماتت الصرخة في حلوقنا, ورحنا بظهور أكفنا, ندعك مدهوشين عيوننا. وهتفنا بصوت واحد, سبحان الأحد الواحد, ألم تمت يا مسكين؟ كيف عدت يا حزين, إلي الحياة يا زفت الطين؟ فتقافز ابن الكلب في صهللة, وضحك ضحكته المجلجلة, ثم نطق بالبسملة, وقال: اسمعوني يا أحباب, يا أبناء الغاب, إن الغجر بعد أن أهالوا فوقي التراب, وظنوا أنني ميت ميت, وأن روحي قد طلعت, كتمت أنفاسي في بطني, وفنجلت لهم عيني, وخرج من أسفلي ريح, نفاذ الرائحة قبيح, فهرولوا مسرعين, وغادروني ضاحكين, وكانوا معتقدين, أنني من الميتين. آنئذ تقافزنا في الهواء تكاد تقتلنا الفرحة, وحزمنا الغزال بالطرحة, فصار يرقص كالمجنون, كأنه مدمن للترامادول أو الأفيون, وتحلقنا جميعا حول الحمار فهنئناه, وهمسنا لبعضنا بانتباه: إياكم والفتانين الوشاة. واتفقنا علي أن يظل الخبر طي الكتمان, وأن لا يعرف بعودة الحمار إنسي ولا جان. وهكذا عزلناه في تعريشة مظلمة, كي لا يتعقبه الكفرة الظلمة, بمؤامراتهم المؤلمة. وكنا بين الحين والحين, نتسلل إلية متخفين, في جنح الظلام, في انضباط ونظام, نطلعه علي حالتنا المزرية, وعلي فضائحنا المدوية, فكان ينصحنا فيحسن النصائح, ولم لا.. وهو الوحيد فينا الناصح, والفاهم الفالح. .. ثم حدث أن وقع لنا ما لم يكن في الانتظار, عندما أصدر الثعلب المكار, تعميما في منتهي الغرابة, ضجت له حيوانات الغابة. لقد منع عنا الهلفوت, التبول في الطرقات أو في البيوت, وحدد لنا مكانا ضيقا تحت الشجر, يحرسه الغفر, وملأه بالحلل والقلل, وأجبرنا علي أن نملأ الأواني بالبول, فلم نعرف السر وراء هذا الفعل. وأصر أمكر القوم, علي أن لا نتبول إلا مرة واحدة في اليوم, فركبتنا الهموم هما فوقه هم. وعلي الفور جرينا إلي الحمار, قاريء الأفكار, نحكي له المصيبة, ونستفسر عن سر تلك القرارات العجيبة. فلما أن استشرناه في الأمر, وعما إذا كان يعرف السر. هز رأسه في انتباه, وتيبست شفتاه, واستغرق في تفكير عميق, ثم أطلق زفيرا أعقبه بشهيق, وأخرج من الزعبيل, السيجار الطويل, الملفوف في منديل, ثم صرخ في الفيل: أريدك يا ثقيل, أن تعرف أين يأخذ المكار بولكم هذا, ولماذا يجمعه في الأواني هكذا لماذا. غطس الفيل ثم أب, وعاد يقتله التعب, وقال للحمار: إن الثعلب المكار, يجمع أنصاره آخر النهار, خلف الأسوار, ويظلون يجمعون البول في زجاجات, ثم يبيعونه لنا في الصيدليات, علي أنه دواء, يعالج الأمراض والأدواء.. وهكذا يجمعون الثروات, من آلامنا والآهات, ونحن كالإمعات, كلما أعطانا, قلنا هات. هنالك كدنا نتجنن, وانتفضنا نصخب ونتشعنن, وصرنا نشتم ونلعن, فقال الحمار: إسكت منك له يا عبيط, فإن الحل عندي بسيط. قلنا وما هو ذاك يا زعيم, وكيف التصرف مع هذا اللئيم؟ قال: احبسوا بولكم أياما لا تفلتوه, ثم اخرجوا للقصرالمنيف, وعلي وجهه أطلقوه, فإن سألكم: ماذا تفعلون؟ قولوا: لقد أصابنا الجنون.. وها نحن نرد لك الكيل كيلين يا ملعون!