هل لدينا إعلام احترافى؟ السؤال يطرحه الكثيرون خصوصا بعد تزايد النقد الموجه لأداء الإعلام المحلى وتخلى بعض الإعلاميين عن الكثير من قواعد وأخلاقيات العمل الإعلامى، غير أن القضية فى حقيقتها اكبر من ذلك، فهى محل جدل على مدى عقود طويلة منذ طرحت على الأجيال الأولى من طلبة أقسام وكليات الصحافة والإعلام فى تساؤل محورى: هل الإعلام علم أم فن؟ الأوساط الأكاديمية أجابت عن السؤال وحسمت القضية عبر التراكم العلمى والمعرفى من نظريات وبحوث ورسائل علمية، بلورت علم الإعلام ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية. غير أن حسم السؤال على المستوى الأكاديمى لم ينه الجدل على المستوى المهنى حول الاحتراف فى هذا المجال، حيث تكتنفه بعض الغموض، إذ أنه من اليسير إيجاد ضوابط ثابتة تتعلق باحتراف مهنة الطب أو المحاماة ، ولكن لن لا نجد هذه الضوابط بنفس القوة فى الصحافة والمهن الإعلامية الأخرى. ويضع علماء الاجتماع سمتين أساسيتين للاحتراف المهني، هما المواثيق والمبادئ الأخلاقية، وقواعد التنفيذ. وهما مفتقدان الى حد ما فى مجال الإعلام، ولهذا فإن الأكاديميين والخبراء اهتدوا الى ضرورة وجود عدة عوامل يمكن أن تضع الاحتراف الإعلامى على الطريق الصحيح، من أبرزها: اولا : قوة العاملين فى وسائل الإعلام وتشمل القوة بمعناها المهنى أى تمتع الإعلاميين بالحد المعقول من المعرفة والتدريب الإعلامي، كما تشمل القوة بمعناها الإدارى بما يسمح لهم بالتأثير فى العمل داخل المؤسسة الإعلامية، فمثلا فى صحيفة «لوموند» الفرنسية يوجد مجلس إشراف على الصحيفة، ولجنة من هيئة التحرير تمثل آراء الصحفيين فى قضايا التمويل والسياسة، كما أن 40% من رأس مال الصحيفة يملكه صحفيون يعملون بالصحيفة. ثانيا: النقابات المهنية مثل نقابات الصحفيين التى تضع مواثيق الشرف الصحفية ، فضلا عن دورها فى مراقبة الأداء، ولكن النقد الذى يوجه إليها ينصب فى أنها تحرص على وظائف الصحفيين وما يواجههم من مشاكل أكثر من الحرص على تطوير أدائهم. ثالثا: مجالس الإعلام والصحافة وهى تراقب أداء وسائل الإعلام وتحقق فى الشكاوى التى تصل إليها بشأن ممارساتها، مثل مجلس الصحافة السويدى، والمجلس الأعلى للصحافة فى مصر. وقد كان الأخير يصدر تقارير دورية عن أداء الصحف ترصد الأخطاء المهنية التى تقع فيها. ولكن هذه التقارير للأسف لم تلاق التقدير المناسب من صناع القرار بالمؤسسات الإعلامية فضلا عن انها لم تصل إلى الجماعة الصحفية. رابعا: الدوريات والمجلات العلمية المحكمة فى مجال الإعلام ، ويمكن أن تحث الصحفيين على تعميق الجوانب المهنية والحرفية. ويضاف الى ذلك التشريعات الإعلامية التى قد تتغول فى بعض الأحيان ويطغى تأثيرها السلبى على العوامل الاربعة السابقة. هذه الجهات قائمة فى العديد من المجتمعات العربية، غير ان مجرد وجودها لا يكفي، لأن أداءها على النحو الأكمل يتوقف على مناخ الحرية المتاح. كما يتأثر الأداء الإعلامى فى مجمله بمستوى تقدم الدولة ونوعية قيمها السياسية السائدة ، فالإعلام فى نهاية المطاف يعتبر إفرازا طبيعيا للنظام الاجتماعى الاقتصادى السياسى القائم . وحتى لو اعتبرناه سلطة رابعة يراقب أداء السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فإنه فى الوقت نفسه يتأثر بأداء هذه السلطات، وقبل كل ذلك يظل الإعلام «سلطة تكرها السلطة» على حد قول الأستاذ محمد حسنين هيكل . غير أن المأساة الحقيقة قد لا تكمن فقط فى ضعف هذه الجهات التى تضع الإعلام على طرق الاحتراف أو تراخيها فى أداء عملها، وإنما فى افتقاد بعض الإعلاميين لأبجديات المهنة التى استقرت منذ عقود. ففى مجال الصحافة نجد فيضا من الانتهاكات لم تعد تنحصر فى بعض أخبار الحوادث التى تضفى وصف «مجرم» على شخص قامت أجهزة الشرطة بضبطه ولم تثبت إدانته بعد، بينما يجب ان يكون التوصيف الصحيح أنه «مشتبه فيه» اذا كان فى يد الشرطة أو أنه «متهم» إذا تحول إلى القضاء»، وإنما تجاوز ذلك الى تجهيل المصدر، وفبركة بعض الأخبار، وفى الإعلام المرئى تمتد هذه المخالفات المهنية الى انتهاك الخصوصيات والتحريض على العنف، بل تحول بعض المذيعين من محاورين وظيفتهم حسن إدارة الحوار بين أصحاب آراء متباينة، الى زعماء يتبنون مواقف معينة بل ويتوعدون المختلفين معهم الرأي! ولكن وللأمانة فإن هذه المخالفات والتجاوزات لا تقتصر على الإعلام فقط وإنما نجد هذه الأجواء فى العديد من المجالات الأخرى بمجتمعاتنا العربية، فكما لدينا تدين شكلي، وديمقراطية غير مكتملة، وعمل فهلوي، لدينا ايضا احتراف إعلامى منقوص! لكل هذه الأسباب يعتبر الاحتراف فى المجال الإعلامى قضية قيد الانجاز، وعملية مستمرة تعمل عليها الجماعة الإعلامية على عدة مستويات، اولها التدريب وتطوير مهارات الإعلاميين، وثانيها حماية أبناء المهنة من سطوة السلطات الأخرى وذوى النفوذ وفى مقدمتهم رجال المال والأعمال. وثالثها العمل على توسيع نطاق الحريات المسؤولة فى المجتمع . لمزيد من مقالات د. محمد يونس