نقيب المحامين يطالب أعضاء النقابة بالالتزام بقرارات المجلس حول «الرسوم القضائية»    فتح باب التقدم للمنح المصرية الفرنسية لطلاب الدكتوراه للعام الجامعي 2025/ 2026    «حماة الوطن» يكشف تفاصيل استعدادات الحزب لانتخابات الشيوخ: لدينا كوادر قادرة على المنافسة بقوة    نائب محافظ الدقهلية يتفقد الخدمات الصحية وأعمال التطوير والنظافة بمدينة جمصة    «مال سايب ملوش صاحب».. ساويرس: نُنادي بإنهاء أسطورة القطاع العام لأنه لا لازمة له    سعر الدولار اليوم الثلاثاء 17 يونيو 2025 في البنوك بعد انخفاض العملة الخضراء    مدبولي: زيارة رئيس وزراء صربيا تمثل نقطة انطلاق جديدة لتعزيز شراكتنا الثنائية    «مشاركة زيزو خطأ».. أحمد بلال يحذر لاعبي الأهلي قبل مباراة بالميراس    «الكلام مش جد».. طارق مصطفى يكشف سبب عدم تدريبه الزمالك    ضبط تشكيل عصابى تخصص فى سرقة الدراجات النارية ببنى سويف    مصرع عامل إثر سقوطه من برج سكنى بالمنيا    2000 جنيه للمصري و125 دولار للأجنبي، الثقافة تحدد أسعار ترخيص وعرض نسخ الأفلام والمسرحيات    «غنوة الليل والسكين» و«المدسوس» في ختام الموسم المسرحي للثقافة بجنوب الصعيد    بعد مطالبات سحب الجنسية.. يسري نصر الله يدعم هند صبري: «حبها للمصريين صعب حد يشكك فيه»    محافظ قنا: إجراءات شاملة لضبط النمو السكاني وتعزيز جهود التنمية المستدامة    بمكونات بسيطة.. طريقة عمل آيس كريم البستاشيو في المنزل    «طب القصر العيني» تستقبل سفير الكونغو الديمقراطية في مصر لتعزيز التعاون الأكاديمي    رئيسة «القومي للبحوث»: التصدي لظاهرة العنف الأسري ضرورة وطنية | فيديو    «البحوث الإسلامية»: الحفاظ على البيئة واجب شرعي وإنساني    قرار مهم من "التعليم" بشأن سداد مصروفات الصفوف الأولى للعام الدراسي 2026    "أكبر من حجمها".. محمد شريف يعلق على أزمة عدم مشاركة بنشرقي أمام إنتر ميامي    "أنا مصمم".. وصلة غناء من مرموش للاعبي مانشستر سيتي قبل مونديال الأندية (فيديو)    بدء الجلسة العامة للبرلمان لمناقشة الموازنة العامة    مشاورات مصرية هولندية بلاهاي تبحث الاستثمار والتعاون الإقليمي    سلطنة عُمان تشهد نشاطًا دبلوماسيًّا مكثفًا لوقف التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل    الرئيس الإسرائيلي يعلّق على فكرة اغتيال خامنئي: القرار بيد السلطة التنفيذية    النواب يوافق نهائيا على الموازنة العامة 2025l2026 بإجمالى 6.7تريليون جنيه    محافظ أسيوط يستقبل السفير الهندي لبحث سبل التعاون - صور    أحمد فتحي ضيف برنامج "فضفضت أوي" على Watch It    نور عمرو دياب تثير الجدل بتصريحاتها الأخيرة: "أنا بنت شيرين رضا" (فيديو)    محافظ الدقهلية يضبط صاحب مخبز يبيع الخبز بالسوق السوداء    تخصيص بالأسبقية.. مواعيد الحجز الإلكتروني لشقق صبا بأرقام العمارات    ارتفاع كميات القمح الموردة لصوامع المنيا إلى 509 آلاف طن    ضربة قوية لمنتخب السعودية قبل مباراة أمريكا بالكأس الذهبية    ماذا يحدث لجسمك عند التعرض لأشعة الشمس وقت الذروة؟    التعليم العالي: جهود مستمرة لمواجهة التصحر والجفاف بمناسبة اليوم العالمي    الداخلية تضبط منادى سيارات "بدون ترخيص" بالقاهرة    السجن المشدد 3 سنوات لمتهم لحيازته وتعاطيه المخدرات بالسلام    السفارة الصينية في إيران تحث رعاياها على مغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن    محافظ أسوان يشيد بجهود صندوق مكافحة الإدمان فى الأنشطة الوقائية    تراجع كبير بإيرادات أفلام العيد والمشروع x في الصدارة    المرور تحرر 47 ألف مخالفة متنوعة خلال 24 ساعة    طلاب الثانوية العامة بالفيوم: "امتحان اللغة الأجنبية الثانية فى مستوى الطالب المتوسط لكن به بعض التركات الصعبة جدا    بينها «شمس الزناتي».. أول تعليق من عادل إمام على إعادة تقديم أفلامه    "ليست حربنا".. تحركات بالكونجرس لمنع تدخل أمريكا فى حرب إسرائيل وإيران    البحوث الفلكية: الخميس 26 يونيو غرة شهر المحرم وبداية العام الهجرى الجديد    دار الإفتاء: الصلاة بالقراءات الشاذة تبطلها لمخالفتها الرسم العثماني    زيلينسكي: روسيا هاجمتنا بالطائرات المسيرة بكثافة خلال ساعات الليل    التعليم الفلسطينية: استشهاد أكثر من 16 ألف طالب وتدمير 111 مدرسة منذ بداية العدوان    أستاذ هندسة بترول: هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها من إيران أو إسرائيل    وزير الرياضة يرد على الانتقادات: دعم الأهلي والزمالك واجب وطني.. ولا تفرقة بين الأندية    مستشفيات الدقهلية تتوسع في الخدمات وتستقبل 328 ألف مواطن خلال شهر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 17-6-2025 في محافظة قنا    جامعة قناة السويس: تأهيل طبيب المستقبل يبدأ من الفهم الإنساني والتاريخي للمهنة    «أمطار في عز الحر».. الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الثلاثاء: «احذروا الشبورة»    بعد تلقيه عرضًا من الدوري الأمريكي.. وسام أبوعلى يتخذ قرارًا مفاجئًا بشأن رحيله عن الأهلي    «لازم تتحرك وتغير نبرة صوتك».. سيد عبدالحفيظ ينتقد ريبيرو بتصريحات قوية    ما هي علامات قبول فريضة الحج؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كامل الشناوى
ناظر مدرسة العاشقين
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 12 - 2015

في حفل خاص جمع أم كلثوم وعبدالوهاب وتوفيق الحكيم ومصطفي أمين وفكري أباظة وكامل الشناوي والفنانة كاميليا عام1945, داعبت أم كلثوم كامل الشناوي وطلبت منه أن يقول شعرا في كاميليا وكانت تعرف أنه يحبها ودخل عبدالوهاب علي الخط وقال: أنا مستعد أن ألحن هذا الشعر فورا وقالت أم كلثوم: وأنا سأغني هذا اللحن في الحال
............................................................
وأمام هذه الإغراءات المتتالية تنحي كامل الشناوي جانبا ونظم من وحي اللحظة قائلا:
لست أقوي علي هواك ومالي
أمل فيك فارفقي بخيالي
ان بعض الجمال يذهل قلبي
عن ضلوعي.. فكيف كل الجمال
ولحن عبدالوهاب الأبيات وغنتها أم كلثوم, وكانت الفنانة كاميليا لا تفهم العربية الفصحي فكان توفيق الحكيم يترجم لها معاني الأبيات إلي الفرنسية.
المثير في قصة حب كامل الشناوي بكاميليا أن حبيبته كانت عشيقة للملك فاروق
وفي لحظة ما شعر كامل الشناوي بالخطر علي نفسه فقال:
يا كبريائي لقد كلفتني خطرا
فيه المنايا مطلات بأنياب
تمرد الليل لا اغفو به أبدا
حتي أري الفجر مسفوحا علي بابي
لعل قصة حب كامل الشناوي لكاميليا تشبه قصة حياته المثيرة أيضا.
فقد ولد عام1908 بقرية نوسا البحر بمحافظة الدقهلية. وأطلق عليه والده الذي كان قاضيا بالمحكمة الشرعية اسم كامل تيمنا بالزعيم مصطفي كامل, وألحقه بالأزهر فكان يرتدي الكاكولا والعمامة لكنه عندما التقي فتاة المعادي وكانت أول حب في حياته خلع ملابس الأزهر وأطلق لقلبه وعقله العنان, كانت فتاته قطعة من الفن والجمال كما يروي يوسف الشريف في كتابه كامل الشناوي آخر ظرفاء ذلك الزمان اسمعته السيمفونية الخامسة لبيتهوفن, وسمع منها لأول مرة عن نظرية دارون وغيرت مسار حياته تماما. فبعد أن كان يذهب إلي خالها ليتلقي علي يديه دروسا للغة الفرنسية استعدادا لدراسة الحقوق في السربون هجر الأزهر وغرق تماما في الشعر والحب.
ونشر أول قصيدة له في جريدة البلاغ اعجب بها الشاعر الكبير أحمد شوقي وطلب أن يتعرف عليه. وفور أن قابله قال له: عندما قرأت قصيدتك تخيلتك شاعرا نحل العشق جسده ان من يقرأ شعرك يظن أنك شاب أضناه الهوي, وفتح له صالونه الأدبي.
وفي أحد الأيام ذهب ليقدم قصيدة لجريدة كوكب الشرق فعرض عليه حافظ عوض صاحب الجريدة أن يعمل معه مصحح بروفات مقابل10 جنيهات وكانت تلك بدايته مع الصحافة عام1930, ثم عمل في روزاليوسف اليومية وعندما توقفت قال له أنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام: لا تحزن إن جواري غرفة صغيرة لك أن ترابط فيها حتي ندبر لك عملا.
وبالفعل التحق بالأهرام وكتب الخبر والتحقيق والمقالة, وسريعا ما أصبح صديقا لمحمد محمود باشا صاحب القبضة الحديدية, وحدث أن قام الشناوي بمدح النحاس باشا في شعره ولم يمدح محمد محمود صديقه, وعندما سئل عن السبب قال: كل ما هناك أنه يستحق شعري وإذا كانت الصداقة لرئيس الوزراء فالشعر يجب أن يكون لزعيم الأغلبية.
كان تكوينه الثقافي من الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والسياسة والآداب والفنون علاوة علي ما يحفظه من الشعر العربي هو الذي فتح له الطريق للترقي بسرعة في عالم الصحافة فاختاره مصطفي أمين رئيسا لتحرير آخر ساعة عام1944, ولأنه أشهر من أجاد الأحاديث الصحفية وكان حواره يقوم علي الحركة والصورة وفوق ذلك مباراة عقلية فقد خصه الرئيس عبدالناصر بأول حديث له في في الصحافة العربية والأجنبية علي مدي4 ساعات بعد أن أصبح رئيسا لتحرير الجمهورية عام.1952 كما تولي رئاسة تحرير الأخبار عام62 حتي مات بعد ذلك بثلاث سنوات.
وكامل الشناوي هو ناظر مدرسة الموهوبين في الفن والأدب والصحافة وقد شق الطريق للعشرات الصحفيين والأدباء والفنانين ومنهم عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة ونورالهدي وبليغ حمدي ومحمد حسنين هيكل وصلاح حافظ وكمال الملاخ وأحمد رجب ويوسف إدريس ومصطفي محمود الخ
ويقول صلاح حافظ لا أكاد أعرف أديبا أو فنانا من جيلنا غير مدين لكامل الشناوي الذي كان يتحمل عن المبدع كل همومه, يشتري له الكتب والثياب, بل ويخصص حجرة في منزله لاقامة المبدع الذي ليس له بيت, وينشر له أبداعه ويدفع له من جيبه دون أن يخبره بذلك.
قصة حبه للمطربة الشهيرة
كان كامل الشناوي بدين الجسم رشيق العقل والقلب عاشقا لليل والنساء لا ينام حتي يري الفحر مسفوحا علي بابه, ولا يتوقف قلبه عن الحب يشتري الحب بالعذاب اشتريه فمن يبيع. وأحيانا كان يخاطب قلبه: احتشم يا قلبي.. فالحب طيش وشباب.. وأنت طيش فقط!
من بين قصص الحب العديدة في حياته تبقي صاحبه قصيدة لا تكذبي هي الأشهر. فهي مطربة مشهورة فتح لها باب الحظ والشهرة ولكنه ضبطها متلبسة بالعشق مع أديب شاب أصبح من أشهر كتاب القصة القصيرة في مصر والعالم العربي.. دق باب شقتها بالزمالك.. وفتحت الخادمة.. ودخل مباشرة إلي حجرتها ورأي ما رأي.. وكتب قصيدة:
لا تكذبي اني رأيتكما معا
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ويروي مصطفي أمين القصة قائلا: عشت معه حبه الكبير الأخير وهو الحب الذي أبكاه وأضناه وحطمه وقتله آخر الأمر. أعطي كامل هذه المرأة كل شيء المجد والشهرة والشعر, ولم تعطه شيئا, أحبها فخدعته, أخلص لها فخانته, جعلها ملكة فجعلته أضحوكة. وقد كتب قصيدة لا تكذبي في شقتي بالزمالك وهي قصيدة حقيقية سماها عبدالوهاب اني ضبطكما معا كان كامل ينظمها وهو يبكي وبعد أن انتهي من نظمها قال انه يريد أن يقرأ القصيدة علي المطربة بالتليفون. وكان تليفوني بسماعتين أمسك هو سماعة وأمسكت أنا وأحمد رجب سماعة في غرفة أخري وتصورنا أن المطربة ما تكاد تسمع القصيدة حتي تشهق وتبكي وتعلن توبتها وبدأ كامل يلقي القصيدة بصوت منتحب يقطع القلوب وكانت المطربة صامتة لا تقول شيئا ولا تعلق ولا تقاطع.. وبعد أن انتهي من القصيدة قالت المطربة: كويسة قوي.. تنفع أغنيها.. لازم أغنيها!
وانتهت المحادثة التاريخية ورأينا كامل الشناوي أمامنا جثة بلا حراك.
وقد قابل مصطفي أمين هذه المطربة الصغيرة بعد موت كامل الشناوي وقال لها: لقد كرهتك بسبب قصيدة لا تكذبي.
فقالت: أنا لم أحبه.. هو الذي كان يحبني, وطلب أن يتزوجني فرفضت, لأننا نختلف في كل شيء, أنا رقيقة وهو ضخم, وأنا صغيرة وهو عجوز.
قال لها: أصدقاؤه يعتقدون أنك قتلتيه
قالت: لا هو الذي انتحر.. انتحر بسبب الغيرة.
ومات كامل الشناوي متأثرا بهذه القصة التي أدمت قلبه, فيما لاتزال المطربة الرقيقة تشدو بأرق أغاني الحب والآهات حتي الآن.
رجال عصره في لوحات
لم يكن كامل الشناوي مجرد شاعر ساحر أو صحفي فاتن العبارة أو ساخر تتخرج الكلمة من فمه كطلقة تصيب وتدمي انه كل هذا, وفوق ذلك واسع الثقافة اقترب من أساطير الفكر والسياسة والفن في عصره مثل طه حسين والعقاد وأحمد لطفي السيد وأحمد شوقي ومي زيادة, ومصطفي عبدالرازق, ومصطفي مشرفة, أحبهم وكتب عنهم لوحات فنية تتحدي الزمن كما كتب عن الأفغاني والكواكبي وسيد درويش وأبونواس وفي كل ما كتب تحس أنه صديق لمن يكتب عنه حتي لو كانت تفصل بينهما آلاف السنين كأبي نواس مثلا.
رسم صورة باهرة لمي زيادة تلك التي أحبت وتعذبت وتحصنت بعفافها.. وماتت شهيدة. فقد أحبها العقاد ومصطفي صادق الرافعي ومصطفي عبدالرازق وولي الدين يكن وخليل مطران وأنطون الجميل وإسماعيل صبري وعبدالعزيز فهمي. وكان يوم الثلاثاء يوما مقدسا عند رواد صالونها لا يتخلف منهم أحد إلا إذا كان مريضا أو علي سفر!
فعندما مرض الشاعر إسماعيل صبري يوم الثلاثاء قال انه لن يعترف بهذا اليوم أبدا ولم يكتف بهذا وانما قال استغفر الله من لحظة من العمر لم تلقني فيك صبا!
ويكمل الشناوي الصورة الباهرة لمي في كتابه الذين أحبوا مي قبيل سفر مي إلي لبنان أعلنت الجامعة الأمريكية ان مي ستلقي محاضرة في قاعة يورث التذكارية وقبل الموعد المحدد لالقاء المحاضرة كانت القاعة امتلأت علي سعتها بالجامعيين والعلماء والأدباء والصحفيين والسياسيين والشباب والسيدات.
لم أكن رأيتها قبل هذه اللحظة ولم تكد تشرق فوق المنصة حتي انطلقت الايدي بالتصفيق في حرارة وعنف. وكانت مي ترتدي ثوبا أسود يطل منه وجه أبيض مشوب بشيء قليل من الشحوب, ومن فوق الرأس شعرها اللامع المنسدل في بساطة وانسجام, وكان أشد سوادا من ثوبها. لم تكن قصيرة ولم تكن طويلة.. كان قوامها نحيلا يريد أن يمتليء سمينا يريد أن ينحل. وظلت تتكلم لمدة ساعتين عن الإنسانية والفكر والمحبة والسلام وقد استهوتنا جميعا بنبراتها العذبة, وصوتها الهادئ الحلو العميق, واشاراتها ونظراتها وحسن استعمالها للفتات رأسها.. استهوتنا بنضارتها الفاتنة نضارة الفكر ونضارة الوجه والقوام.
وعندما انتهت المحاضرة وغادرت القاعة اصطدمت بشيخ معمم ينظر في منديله بكلتا عينيه لم يكن ينظر في المنديل كان يمسح دموعه! كان الأستاذ الأكبر الفيلسوف مصطفي عبدالرازق الذي أصبح شيخا للأزهر فيما بعد.
ويكمل لوحته البديعة: لقد شفيت من مرضها لكنها ماتت ووقف علي قبرها هؤلاء الذين أحبوها, فقال العقاد والدموع تطفر من عينيه كل هذا في التراب.. آه من هذا التراب!!
وقال مصطفي عبدالرازق وصوته مخنوق بالبكاء شهدنا مشرق مي زيادة وشهدنا مغيبها لم يكن طويلا عهدها ولكن مجدها كان طويلا.
ما يكتبه كامل الشناوي لم يكن إلا لوحات إبداعية لو دققت النظر ستري فيها الشمس والظلال, الشجرة الباسقة والسيف القاطع. الورد الزكي واليد الآثمة لوحات تكشف عن جمال الإنسان.. وبشاعته أيضا.
فمصطفي مشرفة عالم الذرة وضعناه في أكبر المناصب ثم قتلناه يقول: كنت كلما صافحته أحسست أنني ألمس مجموعة من الاسلاك الكهربائية فلا أكاد أمد يدي.. حتي تنتابني رعشة مبهمة لعلها رعشة الاجلال.. فقد كان شخصية جليلة مهيبة تبحر في علوم كانت حدثا جديدا بالنسبة للعصر كله. وكان يتبادل الرسائل مع اينشتاين ودعته جامعة برنستون لإلقاء محاضرة في الذرة. وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة ومديرها بالانابة إضافة إلي عمادة كلية العلوم.. ولكن حدث خلاف بينه وبين الوزارة فأقصوه عن إدارة الجامعة. وقد حزن حزنا شديدا بسبب ذلك ومنعه كبرياؤه من أن يشكو, وفي عام1950 مرض, وكما عاش حياته العلمية في هدوء لفظ آخر أنفاسه في هدوء أيضا.
وكتب عن جمال الدين الأفغاني: قبل الأفغاني كان الأدباء يحصرون مواهبهم في التغني بمآثر الوزراء وإذا خرجوا عن ذلك نظموا الشعر الماجن, وتباروا في تبادل الهجاء أو التلاعب باللفظ والاغراق في المجون ليضحكوا أرباب الجاه ويتلقوا منهم الهدايا, وجاء الأفغاني فجعل الأدب هدفا, وحوله من تسلية وترف إلي تعبير عن آمال الشعب وانفعال بمآسيه وجعل من الكلمة سلاحا ونشيدا وأغنية.
وقال في كتاب زعماء وفنانون وأدباء الأفغاني ثائر مهنته العلم وهوايته تقطيع رقاب الملوك, وتعاليمه كانت الكهرباء التي مست العقول والمشاعر فايقظتهما وانارتهما.
أما سيد درويش فانه صوت مصر.. صوت عاطفتها وفرحها وألمها ونضالها, انه صاحب الألحان التي تعبر عن الحب والحزن والأمل والتمرد علي الظلم, انه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقايين وغني بلادي بلادي لك حبي وفؤادي وقوم يا مصري مصر دايما بتناديك انه ابن كل شارع في مصر, واحد من غمار الناس, عاش مشاعرهم وجعل فنه رئة يتنفسون بها وكل ما قرأته عنه وما سمعته لم يهزني كما هزني أنه صنع أكثر من مائتي لحن وأوبريت رغم أنه مات في الثلاثين من عمره!
كما أطلق علي لطفي السيد أستاذ الأجيال وقال ان تاريخه أشبه بتاريخ بلادنا, فكلاهما في حاجة إلي مؤرخ يعيد كتابته بفهم وعدالة.
قائلا فتنتني شخصية لطفي السيد المفكر وطغت علي شخصية السياسي. كنت أجد متعة غامرة في الاصغاء إليه وهو يتحدث عن الأدب والشعر والفن والجمال والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة وكان بارعا في سرد الحكايات, يحسن رواية الدعابات ويحسن أيضا الاصغاء إليها بأذنه, وبابتسامته التي تتحول أحيانا إلي شبه قهقهة!
وهو اسم عادي لشخص غير عادي.. عقل وخلق وضمير, صوت وقور عذب, ظل يغني لجيله المعرفة والثقافة والفلسفة ولكن جيله كان بلا آذان فمازال به حتي جعل له أذنين ولسانا وشفتين فسعي الجيل ووعي وفكر وتكلم! بعد أن حمل القلم وقتل الخرافات وأحب الحقائق واغتال الظلام وأشعل المصابيح.
نحن الذين نتجرأ علي الكتب والكتابة علينا أن نستحيي عندما نري هذا المبدع الكبير يقول: ان الكتاب مسئولية لا يقوي علي تحملها إلا قادر عليها أو جاهل بها, وأنا حتي هذه اللحظة لا أقوي عليها ولا أجهلها مضيفا في كتابه بين الحياة والموت انتابني هذا الصيف طموح أن أطبع عدة كتب وديوان شعر, ولم أكد أعود إلي القاهرة حتي عدلت عن تفكيري. لقد نسيت في الإسكندرية طموحي مع رمال الشاطيء.
أنت يا صديقي يقصد أحمد رجب تصغرني بعشرين عاما علي الأقل, وستعيش بعدي, وعندما تحترق سيجارة حياتي, ويرشف القدر آخر نفس فيها, فأهرع إلي بيتي, وخذ ما تجده من أوراق وأنشره علي الناس وما أقوله لك ليس مداعبة ولكن وصية أسجلها هنا علي رءوس الأشهاد!
وداهمه المرض فعلا فقال:
قد تخلت عناية الله عني
وتخلت عناية الشيطان
ضاق بي معبدي وضاقت حاني
لا صلاتي تجدي.. ولا ألحاني
وغاب عن الوعي عام1964 وكتب بعد عودته أمضيت بضع ساعات في عالم اللاوعي, ذهبت إلي الجنة وعشت في قصورها المشرقة علي نهر الكوثر وكانت بها نافذة تطل علي طاقة جهنم.
واقتربت ساعة الوداع وكان أصدقاؤه يحتفلون بعيد ميلاده كعادتهم السنوية في منزل محمد حسنين هيكل, وكان كامل يبدع في هذا الحفل كعادته ولكنهم عندما أطفأوا الشموع ثم اضاءوا النور.. وجدوا كامل يبكي!
وبعد قليل دخل المستشفي وقالت له نهلة القدسي زوجة محمد عبدالوهاب عندي لك سهرة لطيفة بعد أن تخرج.
فقال: لا.. هذه المرة سيطول الرقاد. وقد كان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.