أثارت محاضرة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أمام مجلس الشؤون الإسلامية بالأقصر جدلا امتدادا من الإعلام إلى الفضاء الالكتروني، دار حول عبارة محددة هي: «حضارة الغرب أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين فى القرون الوسطي، فلما تمردت على الدين وأدارت له ظهرها، نمت وترعرعت فيما يُعرف بعصر النهضة أو عصر التنوير» وأضاف أن «حضارة المسلمين مرتبطة بالإسلام ارتباط معلول بعلته، توجد حين يوجد الإسلام، وتتلاشى حين ينحسر أو يغيب». العبارة فى ظاهرها صادمة، لكن النظر إليها فى ضوء مجمل المحاضرة، وما ورد بها من أفكار، يجعلها تحمل معنى أوسع من المعنى المباشر الذى حملته. فالمعنى المقصود بالدين الذى تمرد عليه الغرب هو «الاستبداد الديني» الذى كان سائدا فى العصور الوسطي، والمقصود بحضارة المسلمين، هى تلك الحضارة التى تقوم على الاجتهاد والتجديد، وأفرد الإمام الأكبر حديثا مطولا عن أهمية «الشجاعة وعدم التردد» فى مواجهة المشكلات بفتاوى تتناسب مع تغير الأزمنة، وأدان «صمت العلماء المؤهلين» مثلما أدان التطرف والإرهاب، وتشدد الفقهاء. تفتح محاضرة الإمام الأكبر مجالا رحبا للنقاش، يتجاوز فى تقديرى الوقوف أمام عبارة بعينها، ولكن ما يجب أن ينصب عليه الحديث هو موقع الدين فى المجتمع المعاصر. لا أشك فى أن الإمام الأكبر يساند تقدم المجتمع، وقد دعا وأشرف بنفسه على إصدار عدد من الوثائق الأساسية فى السنوات الأربع الأخيرة تؤكد أهمية الدولة الحديثة، بكل مشتملاتها من الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمواطنة، والعدالة، وحقوق المرأة، وهى قضايا دعا بنفسه الفقهاء إلى إصدار فتاوى حاسمة بشأنها تنزل إلى الأرض حسب تعبيره فى المحاضرة المشار إليها، لكن الإشكالية فى رأيي، أن التغيير الجذرى ينطوى بالضرورة على إعادة النظر فى موقع الدين فى مجتمع يوصف بالتدين، ولم يبلغ حظه من التقدم، وصعد إلى سدة الحكم فيه من رفعوا رايات الدين أيضا. هل الإشكالية فى جمود الخطاب الدينى أم فى ضرورة الاعتراف بأن تكوين الإنسان تدخل فيه عناصر أخرى إلى جوار الدين؟. الإجابة عن هذا السؤال تعيدنا إلى النظر فى العلاقة بين الغرب والدين. هل ترك الغرب الدين أم أنه قدم مفهوما للتدين يناسب مسيرة تقدمه؟. لم يدر الغرب ظهره إلى الدين، فلا يستطيع باحث منصف أن ينكر البصمة المسيحية العميقة فى الثقافة الغربية المعاصرة. وأدى تطور المجتمع، وتقدمه إلى ظهور أشكال أخرى من التدين أو ما يٌطلق عليه «الثقافة الروحية» - أى التى يستمد الفرد غذاءه الروحى منها. أبرز مكوناتها «الدين» سواء فى شكله التقليدى أو فى الحركات الدينية الكاريزمية الجديدة، وكذلك التجليات الروحية/ الثقافية فى المجتمع الحديث مثل العلم، الإبداع، الفلسفة، الموسيقى وبقية الفنون، النشاط الخيرى والاجتماعي، والرياضات الروحية المستمدة من ثقافات آسيوية مثل «اليوجا» وغيرها من مظاهر تبعث فى الإنسان راحة، وهدوءا، ورقيا فى التعامل مع ذاته أولا، ومع البيئة المحيطة به ثانيا. وقد استطاعت أوروبا التى شهدت حروبا طاحنة واستبدادا دينيا مؤسسيا لقرون أن تطور لنفسها ثقافة من الاستنارة، والاستيعاب، ونبذ الاحكام المطلقة، واحترام الاختلاف، والفردية، والعقلانية، والتحرر الإنساني، والتخلص من الخرافات والأساطير، انعكس ذلك على فهم النص الدينى ذاته، الذى أصبح يٌقرأ بذهنية «الفرد الحر» وجميعها تجسد روح الدين، وتحقق الحرية للإنسان، وهى القيم التى تتحفز أوروبا اليوم للدفاع عنها أمام الإرهاب الموحش. ألم يحن الوقت لإعادة النظر فى الفكرة المتوارثة التى لم يعد لها وجود واقعيا: «شرق» متدين روحانى فى مواجهة «غرب» مادي، شره، استهلاكي، يعبد العلم لدرجة الإلحاد؟ فلم تعد مجتمعاتنا متدينة، ولم يعد الغرب ماديا. إذ أن المتأمل لتطور العلاقات الإنسانية فى المجتمعات الحديثة يصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمعات الغربية أكثر تقديرا للإنسان، وإطلاقا لمواهبه، وحرياته، ولم يعصف المجتمع الاستهلاكى بالنزعة الإنسانية فيها، مثلما عصف بها فى مجتمعاتنا التى صارت أكثر مادية، وطبقية اجتماعياً، وفسادا اخلاقيا. بالطبع لا تخلو أى مجتمعات إنسانية، غربية أو شرقية، من أمراض اجتماعية وثقافية، لكن النظرة العامة تشير إلى أن ما نعتبرها مجتمعات غير متدينة استطاعت أن تفرز مساحات من الرقى الإنسانى والاجتماعى أكثر مما استطاعت مجتمعاتنا أن تقدمه. التحدى القاسى الذى يواجه مجتمعنا أن تتشكل لدى الفرد «المتعبد» ثقافة إنسانية، تدرك معنى الدين الحق فى التقدم، والتحرر الإنساني، واحترام الحريات العامة والخاصة، والاستمتاع بالفنون، والاستنارة الذهنية، والتخلص من ثقافة الخوف والفكر المطلق. أعتقد أن فضيلة الإمام الأكبر تشغله هذه القضايا، وسبق أن استمعت منه إلى أحاديث عامة وخاصة أشار فيها إلى أهمية بناء المجتمع الحديث، لكن الأمر يستدعى (ثورة) فى الذهن، وإنشاء أوعية مؤسسية جديدة تحقق ذلك. البداية تكون بالعلم، مثلما تطور الغرب، من خلال إنشاء معاهد دينية تقرن دراسة الدين بعلم الاجتماع، وتقدم باحثين للمجتمع لديهم النظرة الإنسانية الرحبة، والقدرة على مواكبة التقدم بخطاب دينى مستنير، يطرحون رؤى جديدة لمساعدة الفرد البائس فى مجتمعاتنا على الخروج من الحلقة المفرغة التى يعيش فيها، والبؤس هنا ليس العوز المادى فقط ولكن أيضا التصحر الإنسانى والجمود الفكري، وغياب النظرة المتفائلة للحياة. لمزيد من مقالات سامح فوزي