لا يذكر أنه تعثر يوما فى حجر وتأوه، كان يركله بخفة وينظر إلى أى مدى ذهب، بقدر المسافة تقاس قوة ركلته، يضحك دوما ملء فمه، ينهل من الحياة قدر استطاعته وقدر رحابتها له، نهم للحياة والطعام والحب. يطرق بحدة على رأس المسمار فتصدر شرارة احتكاكهما، يمسك بمقبض منشاره ويموضعه أعلى خطوط قلمه العزيز (الرصاص) الكامن خلف أذنه، يوغل فى الخشب خلفاً وأماماً فى متوالية، تتساقط حبات العرق من جبهته فتنحدر لتستقر فوق البقع على قميصه.. لا يأبه لها، فقط يضيق ذرعاً ببطنه المتدلية التى تعوق منشاره وتصطدم به، ويتندر على حاله أمام الصبية، ويسخر من بطنه المرتجة كلما طرق بأنها تتراقص مثل حلوى الجيلي. قدمه تؤلمه.. تورمت فى البداية إثر وطأة خاطئة فوق مسمارٍ شارد، ولم تفلح معها كل وصفات «الحاجة» التى وضعتها له وربطتها بجرحه، من عجين السكر إلى البصل المشوي، ولا تلك المراهم التى أتت بها «كرملة» ابنته، والتى يدللها بذاك الاسم عوضاً عن مسمى كريمة، نسبة لخالته أم زوجته، والتى لم ينجب منها سواها. اِزرقّ إصبعه وتحول الأمر إلى كابوس.. لجأ لطبيب المستوصف المجاور للجامع، أخبره أن ثمة اشتباها فى إصابته بالسكر.. لم يخبر عائلته بما دار، عاد إلى المنزل يحمل أكياساً كثيرة تكتظ بالطعام والحلوي.. فلا نواهى الطبيب أو محاذيره تجعله يوماً يقلع عن ولعه بتلك النظرة فى أعينهن وهن رهن دخوله عليهن ليبدأن تناول طعامهن، تلك النظرة التى يتباهى بها وسط نظرائه من النجارين وشاربى النرجيلة فى المقهي. أصبحت ثقيلة خطواته.. يُهيأ له أن قدمه لا تطيعه، امتدت الزرقة لبقية الأصابع، تورمت. قال الطبيب له ممتعضاً: حالتك متأخرة يا حاج.. والسكر فوق الخُمسمية.. لازم بتر، وهتاخد أنسولين بانتظام. على كرسى مدولب يجلس ما تبقى من الحاج «برهوم» إثر ثلاث جراحات بتر، القدم ثم الساق الأخرى بأكملها.. على المقهى يقهقه عالياً، يرمى النرد وينازل رفاقه الأصحاء: كش ملك وده كش ليه بس؟ يضحك الحاج «برهوم»: هههه... عنده السكر. يقول آخر فى مداخلة معهم: العيب موش على الخشب.. هههه العيب على النجار.. يرد برهوم فى سخرية: يعنى كان يعمل إيه يركب له وصلة.. يبقى مش صنايعى صح. يشرد، لكنه لا يترك الحزن يتملكه ليكمل عليه، أخبره أحدهم على سبيل المواساة أن ما بُتر استبقه للجنة، يرد برهوم ساخراً من حاله مخاطباً نفسه: ومستعجلة ليه.. موش كنا نروح سوا. يجعله فى ميزان حسناتك يا حاج. تغرورق عيناه من شدة الضحك: ميزان مغشوش.. هاهاها ناااااقص. يتدخل ابن جاره المثقف.. ويربت على كتفه: ربنا يديك الصحة.. إنت وأمثالك من الكادحين «ملح الأرض».. يعنى من غيركم لا زرع ولا نبتة ولا صنعة. يبتسم لابن جاره المواسى له.. يهز رأسه موافقة أو تفكيراً.. لا أحد قادر على تفسير تلك النظرة.. ثم ينفجر ضحكاً يملأ أرجاء المقهي: هاهاهاها... خليها سكر طيب. يشاركه البعض الضحك، والآخر يتوجس حزناً رابضاً فوق صدر الرجل، ويخشون عواقبه أو يخشون أن يؤدى الكتمان إلى الإطاحة بعقله. تسير عجلات الكرسى وهو يجلس واجما مسلما أمره ومقوده لمن وراءه، يتبتل بدعاء لا يسمعه سواه.. فى ليله. صباحا.. الطرق على أشده، والجميع واجم. المقهى هاديء مساءً، ولا يسمع سوى بعض الترتيل المختلط بهسيس العامة صباحا على ناصية الطريق أمام الجامع توضع «الخشبة» التى ينقل عليها الموتى إلى المقابر، وبجوارها الكرسى المدولب (هبة لغير القادر)..