أخبار الأهلي: شوبير يكشف مفاجآة في مفاوضات الأهلي مع نجم الجزائر    "هُتك عرضه".. آخر تطورات واقعة تهديد طفل بمقطع فيديو في الشرقية    17 صورة من جنازة هشام عرفات وزير النقل السابق - حضور رسمي والجثمان في المسجد    البورصة تغلق آخر جلسات الأسبوع على مكاسب سوقية 58 مليار جنيه    السفير المصري بليبيا: معرض طرابلس الدولي منصة هامة لتسويق المنتجات المصرية    الرئيس العراقي في القمة العربية: وحشية إسرائيل شردت 100 ألف فلسطيني    محمد المنفي: ليبيا لا تقبل التدخلات الخارجية.. وندعم حقوق الشعب الفلسطيني    جامعة الفيوم تنظم ندوة عن بث روح الانتماء في الطلاب    الثنائي متشابهان.. خالد المولهي يكشف طريقة اللعب الأقرب للأهلي والترجي في نهائي إفريقيا (خاص)    تفاصيل اجتماع وزيرا الرياضة و التخطيط لتقييم العروض المتُقدمة لإدارة مدينة مصر الدولية للألعاب الأولمبية    رئيس مجلس السيادة السوداني يوجه دعوة رسمية لشيخ الأزهر لزيارة البلاد    «42 درجة تحت الظل».. الأرصاد تكشف تفاصيل «أشد وأطول» موجة حارة هذا الصيف    محمد عبده ونجمة «أراب أيدول» ليسوا الأوائل.. نجوم أعلنوا إصابتهم بالسرطان    هالة الشلقاني.. قصة حب عادل إمام الأولي والأخيرة    رامز جلال ونسرين طافش في «أخي فوق الشجرة» لأول مرة الليلة    وكيل الصحة بالقليوبية يتابع سير العمل بمستشفى القناطر الخيرية العام    وكيل الصحة بالشرقية يتفقد المركز الدولي لتطعيم المسافرين    "لذيذ ومقرمش".. طريقة عمل بسكويت النشا بمكونات بسيطة    ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 .. رابط ظهورها بالخطوات    القوات الروسية تسقط 3 مقاتلات "ميج-29" أوكرانية    قطع مياه الشرب عن 6 قرى في سمسطا ببني سويف.. تفاصيل    الصحة تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للامتناع عن التدخين بالمدينة الرياضية بالعاصمة الإدارية الجديدة    أتلتيك بيلباو يحبط برشلونة بسبب ويليامز    الجمعة .. انطلاق نصف نهائي بطولة العالم للإسكواش بمصر    فنانات إسبانيات يشاركن في الدورة الثانية من ملتقى «تمكين المرأة بالفن» في القاهرة    عالم الزلازل الهولندي يثير الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة    محافظ المنيا: قوافل بيطرية مجانية بقرى بني مزار    «زراعة النواب» تطالب بوقف إهدار المال العام في جهاز تحسين الأراضي وحسم ملف العمالة بوزارة الزراعة    الخارجية الكورية الجنوبية تعرب عن تمنياتها بالشفاء العاجل لرئيس الوزراء السلوفاكي    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    تأكيدا ل"مصراوي".. تفاصيل تصاعد أزمة شيرين عبد الوهاب وروتانا    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات فلكيًا.. (أطول إجازة رسمية)    جامعة المنوفية تتقدم في تصنيف CWUR لعام 2024    العربية: مصر تواصل تكوين مخزون استراتيجي من النفط الخام بعشرات المليارات    ببرنامج "نُوَفّي".. مناقشات بين البنك الأوروبي ووزارة التعاون لدعم آفاق الاستثمار الخاص    معهد التغذية: نسيان شرب الماء يسبب الشعور بالتعب والإجهاد    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    وزيرا النقل والري يبحثان تنفيذ المحاور الرئيسية أعلي المجاري المائية والنيل (تفاصيل)    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    أنشيلوتي يقترب من رقم تاريخي مع ريال مدريد    الطاهري: نقاشات صريحة للغاية في جلسات العمل المغلقة بالقمم العربية    خارجية البحرين: القاهرة حريصة على نجاح قمة المنامة.. ونقدر الدور المصري    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    «القاهرة الإخبارية» ترصد آخر الاستعدادات للقمة العربية في البحرين قبل انطلاقها    كولر يحاضر لاعبى الأهلي قبل خوض المران الأول فى تونس    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    عبد العال: إمام عاشور وزيزو ليس لهما تأثير مع منتخب مصر    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حمدى الجزّار يكتب: مريم
نشر في الدستور الأصلي يوم 13 - 12 - 2011

مريم زهرة "الزاوية الحمراء"، لكنها زهرة رقيقة، وبيضاء.
فتاة طيبة، طيبة نسمات الصيف، ورائحة الأطفال، وشبع الجوعى.
مريم بيضاء البشرة مثل حمامة، وجهها أبيض كالحليب، ومنمنم التقاطيع، الشفتان رقيقتان، والأسنان ناصعة البياض، شعرها فاحم السواد، ومجدول فى ضفيرتيْن طويلتيْن، تتأرجحان على كتفيها وظهرها حتى منبت خصرها، مريم طويلة ورشيقة، كشجرة زان.
تسير مريم فى "المريلة الكحلى"، حقيبتها المدرسية بين يديها مرتاحة على صدرها الناهد، أصابعها الطويلة الرقيقة تنقر على ظهر الحقيبة بلطف كأنها تعزف أغنية لنفسها، تسمعها وحدها، وتخطو فى الحارات، والشوارع، وساحات الزاوية، خطو غزالة، تمشى بخفة كأنها طيف، تومأ لمحدثها برقبتها برقة، تسكت، وتنفرج أساريرها فتبتسم، بروح غزالة، قلما تضحك لكن ابتسامتها الوضيئة أعذب من كل ضحك.
إذا أقبلتْ مريم، فى طريقها للمدرسة، رائحة أوعائدة، حَنتْ بخطوها على تراب الشوارع، فتشفق عليها عيون أهلها، والناس. فى الثانوية التجارية يسخر منها رفيقاتها، والمدرسون والناظرة، يسمونها "حمامة السلام"، مريم رقيقة كحمامة فعلاً، وخجولة، وإذا حضرتْ، جاءت بكليتها، وإذا مضتْ، تمضى كأن لم يكن لها أثر.
مريم آخر العنقود، البنت الوحيدة، تعيش مع أبيها وأمها وأخويها، فى بيت من أربعة طوابق، بيت من حجر قديم، بُنى فى الأربعينيات من القرن الماضى، له بلكونات ضيقة من الحديد المشغول، وفيه ثمان شقق. وعلى الصف المقابل لبيت مريم حيث يتسع الشارع ويؤدى لساحة واسعة، يربض المبنى المخيف للجميع، قسم شرطة الزاوية الحمراء.
شقة مريم فى الطابق الأخير، وأمام باب شقتهم ثلاث درجات حجرية تؤدى للسطح الواسع، وعلى السطح مناشر غسيل، وعشش من الخشب، والصفيح، بناها أبوها بيديه، بها دجاج، وبط وأوز.
ها هنا، فوق السطح، قعدة مريم المفضلة، حيث تهرب من ضيق الشقة، تشم الهواء، أو تطعم الطيور، تضع لها الماء والحبوب، وتناغيها بأصوات عذبة كأنها تحدثها، ثم تغلق بابهم وتمشى خطوتين، تريح مرفقيها لسور السطح، تتابع حركة الناس فى الشارع، أو تحادث صاحباتها والجارات فى البلكونات والسطوح المقابلة. حين تكون وحدها تمامًا تدير وجهها فى السماء بعينين ذاهلتين، وتسرح مع نفسها، فى أحلام يقظة لذيدة، يظهر لها فيها بيت صغير بحديقة وأرجوحة، تتمرج فيها. بالقطع تعرف، كما نعرف نحن، أن خطيبها المدرس الشاب فقير، لكن منْ يمنع الأحلام من أن تجىء، ومنْ يمنع الرب من أن يصنع ما يريد.
مريم "دلوعة" أبيها، من شهر صنع لها ولخطيبها غرفة نوم "مصنعية"على كيفه، الزفاف سيكون بعد حصولها على الدبلوم، كما أنه اشترى لها من أسبوع موبيل نوكيا جديد بكاميرا، فباسته على خده، وأخذت له أول صورة. مريم صارت تحب تصوير الطيور، والأشجار، ووجوه الناس.
عيناها المشدوهتان، الذاهلتان، كانت ترى الشارع والساحة أمام القسم تلك الظهيرة، وجسدها الطازج كان مستندًا لسور السطوح.
كما كان يفيض نهر النيل ذات يوم، فاضت الأزقة، والحارات، الشوارع، والميادين بالناس تلك الجمعة العظيمة، عظم قيامة المسيح من القبر، ذاب الأفراد واختفوا، وأفسحوا للذات الكبرى الوجود، التظاهر، والهتاف بالحرية. قامت القيامة فى شوارع وحارات الزاوية الحمراء، واستيقظ النائمون من سباتهم الطويل..
مسيرات فى الشوارع تنادى، وتردد:
"واحد..اتنين..الشعب المصرى فين؟"
"يا أهالينا ساكتين ليه؟!"
"سلمية..سلمية"
"عَلِى وعلى وعلى الصوت ..اللى هيهتف مش هيموت"
انفجر الغضب أبيض فى الزاوية الحمراء.
مريم كانت تريد أن تعرف، أن ترى ما الذى يحدث فى الشوارع، ما الذى جرى فى الكون يا رب، وعندما اندفعت جارية على الدرجات الأربع، ووصلت للسطح رأت ما لم تره عيناها من قبل، رأت أهل الزاوية كلهم فى المساحة الواسعة أمام قسم الشرطة يهتفون:
"يسقط يسقط حسنى مبارك"
" يا حرية فينك فينك .. أمن الدولة ما بينا وبينك"
دُهشتْ، صُدمتْ، وضربت صدرها بيدها، مذهولة لا تدرى ما تصنع.
طوال سبعة عشر عامًا، هى كل عمرها، لم تسمع من قبل عمّن تجرأ ورفع الرأس والصوت هكذا، لم تر بعينيها الناس مجمعين، مصرين، على شىء بهذا الشكل.
كانت تراهم يلعبون الطاولة على المقاهى، يظيطون وهم يشاهدون مباراة كرة قدم، يتشاجرون مع بعضهم وبعض، يسخرون ويشتمون، يتحايلون على كسب القرش لكنها لم ترهم من قبل أبدًا يتظاهرون، وأين، أمام مبنى القسم المرعب الذى يتحاشى الجميع المرور من أمامه.
أبوها وأخواها معروفون بأنهم "طيبون وفى حالهم"، ما الذى جرى اليوم، ها هى تراهم الثلاثة فى الحشد بين الناس، رجال العائلة كلهم فى الشارع متفرقين، رجال الحىّ كلهم متظاهرين.
كان صوت الهتاف يهز الزاوية، يهز العالم من تحت، ومن فوق.
مريم لوحت من فوق السطح لأبيها، ولأخويها. نادت عليهم بأسمائهم واحدًا بعد واحد، ولم يسمعها أحد. هل تهتف معهم، هل تصرخ، هى رقيقة الصوت، ماذا تفعل، كانت ساكنة فى مكانها واجمة، الشمس فوق الناس أوشكت بالمغيب، قرصها أصفر وحزين، فكرت أنها يجب أن تلتقط لأبيها وأخويها الصور، الآن، حتى تصير الصور ذكرى.
مريم عادت بسرعة لشقتهم، أمها كانت تطل من الشباك، كانت تتابع ما يجرى فى الشارع ونستْ مريم تمامًا، "هتروح فين يعنى، تلاقيها فى أوضتها".
أحست أمها بحركة قدميها ودخولها، فالتفتت إليها، ورأتها وهى تلتقط موبيلها الجديد.
"رايحة فين يا مريم ؟"
"هطلع السطح..أصور أبويه وهو بيتظاهر؟!"
"يابت اقعدى..ليضربوا نار.."
لم تسمع مريم كلام أمها، وطارت للسطح.
"فين أبويه".الموبيل بين أصابعها الطويلة ممدود يصور المشهد، وعيناها تبحثان بين الحشود عن أبيها، ولا تجده.
صورت مريم بعض الفيديوهات.
فيديو دقيقتان، لشباب الزاوية الحمراء الجدعان، واحد محمول على الأعناق يهتف: "يسقط يسقط الطغيان".
خلفه يردد الشباب، العجائز، والكهول، والنسوان على أرض الشارع، وفى البلكونات.
فيديو آخر دقيقتين..من عمق شارع العروبة مسيرة زاحفة فى طريقها للساحة أمام القسم، رجال نساء وصبيان ينادون:
"يا أهالينا انضموا لينا "
" مش هنخاف مش هنطاطى..إحنا كرهنا الصوت الواطى".
مريم وجدت أباها أخيرًا.
والدها واقف أمام دكانه، دكان النجارة المفتوح، على أذنه قلم، يرتدى قميص عمله، وجهه كله سعيد، يرفع يديه الاثنتين عاليًا، وهو يهتف من أعماق روحه "ارحل ..ارحل".
مريم صوّرت فيديو أخير لبدء الضرب..
ضباط وجنود ومخبرون منتصبين فوق مبنى القسم، يشهرون البنادق والمسدسات، ومعهم آخرون، بلطجية فى قمصان وبنطلونات عادية،
والناس كما الأرز على الأرض، حول القسم يهتفون "سلمية..سلمية".
بدأوا يطلقون النيران، فارتفع فى السماء صوت الرصاص ..
انهمرت على الناس من كل صوب الطلقات الخرطوش، والطلقات الحية، وطاف ملاك الموت فوق رءوس الجميع..
ذعرت الطيور فى عششها، تصادمت فى الظلام، وصدرت عنها رفرفة وجلبة، ومريم صرخت حين سقط الشاب المحمول على الأكتاف برصاصة فى الرأس، وكانت كاميراتها الصغيرة قد التقطته، والرصاصة تصيب رأسه، سال الدم على وجهه، وعلى قميصه، وسقط للخلف، فوق من يحمله، ووسط الناس..
صرخت مريم من المنظر، صرخة مروعة، لفتت أنظار القتلة إليها ..
صعدت أمها السلالم الثلاثة جريًا، وهى تصرخ: "يا مريم ..مش قلت لك..استرها يا رب".
فى الخطوات القليلة ما بين مدخل السطح، ومقدمة السور، حيث كانت مريم ما تزال تواصل التصوير، فى الثوان القليلة التى فصلت بين أن تلمسها أمها وما وقع، كانت رصاصة قد انطلقت من فوق، من هناك، كانت نار مترصدة قد أطلقت، وأصابت جبهة الفتاة من فوق.
وكانت كاميراتها الصغيرة، فى يدها، لا تزال تلتقط صور الضحايا، والقتلة..
ومريم؟
مريم صعدتْ.
مريم صعدتْ.
وعلى جدران بيتها كتبنا :
"ارفع راسك ولو مقطوعة
خليك ميت وأنت رافعها
دى الراية هتفضل مرفوعة
دم الشهدا هوه رافعها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.