صوت بلغاريا مع أنطاكية.. البطريرك دانيال يندد بالعنف ويدعو إلى حماية المسيحيين    «الشؤون العربية والخارجية» بنقابة الصحفيين تعقد أول اجتماعاتها وتضع خطة عمل للفترة المقبلة    3 أيام متتالية.. موعد إجازة ثورة 30 يونيو 2025 للقطاع العام والخاص بعد ترحيلها رسميًا    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب في المملكة العربية السعودية اليوم الخميس 26 يونيو 2025    رئيس كهرباء البحيرة يوجه بتأمين التغذية الكهربائية للقرى السياحية بمنطقة الضبعة    محافظ قنا يتفقد مشروع تطوير ميدان المحطة.. ويؤكد: نسعى لمدينة خضراء صديقة للبيئة    رئيس شركه البحيرة يتفقد عدد من الفروع التابعة لقطاع الساحل الشمالي    رئيس البرلمان الإيراني: الوكالة الدولية للطاقة الذرية سربت معلومات عن المراكز النووية الإيرانية لإسرائيل    الدفاعات الإيرانية تسقط طائرة مسيّرة مجهولة قرب الحدود مع العراق    فتوح يحمل حكومة الاحتلال مسؤولية جريمة قتل المستعمرين 3 مواطنين في كفر مالك    ضياء رشوان: ترامب أدرك عجز إسرائيل عن الحسم مع إيران وحوّل الأزمة لفرصة دبلوماسية    خزينة صن داونز تنتعش بمبلغ مالي ضخم من كأس العالم للأندية    الزمالك يستقر على قائمته الأولى قبل إرسالها لاتحاد الكرة    وزير الرياضة يهنئ أبطال السلاح بعد التتويج ب 6 ميداليات أفريقية    حمزة المثلوثي يعلن رحيله عن الزمالك.. ويوجه رسالة مؤثرة للجماهير    مصطفى نجم: الزمالك على الطريق الصحيح    تامر عاشور ل جمهور حفله: «اعذروني.. مش قادر أقف» (فيديو)    مع إشراقات العام الهجري الجديد.. تعرف على أجمل الأدعية وأفضلها    المؤتمر الطبي الأفريقي.. مصر ترسم خارطة اعتماد الجودة والابتكار الرقمي في الرعاية الصحية    شيخ الأزهر يهنئ الرئيس السيسي والأمتين الإسلامية والعربية بالعام الهجري الجديد    مدرب باتشوكا يُشيد بالهلال قبل صدام الحسم فى مونديال الأندية 2025    الكرملين: كوبا ومنغوليا والإمارات وأوزبكستان يشاركون في قمة الاتحاد الأوراسي    ضياء رشوان: إيران وأمريكا لم تعودا خصمين    «مثل الكلبة».. ترامب يدعو لطرد صحافية من «CNN» بسبب تقاريرها حول حجم دمار المنشآت النووية الإيرانية    مجمع إعلام شمال سيناء يحتفل بذكرى ثورة 30 يونيو "إرادة شعب.. حماية وطن ".. اعرف التفاصيل (صور)    رئيس هيئة الدواء المصرية: نحرص على شراكات إفريقية تعزز الاكتفاء الدوائي    أخبار كفر الشيخ اليوم.. المؤبد لطالب أنهى حياة آخر    رسميًا بعد الهبوط الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 26 يونيو 2025    مروة عبد الجواد: الإنسان يتحرك داخل قفص تاريخه الرقمي في زمن الذكاء الاصطناعي    رياضة ½ الليل| أزمة قيد بالزمالك.. قرار شكوى زيزو.. أسباب الإطاحة بالأهلي.. إنجاز مجلس لبيب    عبد الغني وأوكا هدافا شباب اليد قبل مواجهة البرتغال فى ربع نهائى بطولة العالم    مدرب العين: لا بديل عن الفوز على الوداد المغربي في مونديال الأندية    حادث تصادم..وفاة وإصابة 5 أشخاص من أسرة واحدة بالمنيا    عاجل- هل حررت مها الصغير محضرًا رسميًا ضد طليقها أحمد السقا؟ (تفاصيل)    «الطقس× اسبوع».. حار إلى شديد الحرارة رطب نهارًا يتخلله رياح نشطة وشبورة مائية بالمحافظات    إصابة 10 أشخاص إثر تصادم سيارتين فى الإسماعيلية    إصابة 11 شخص من كلب ضال فى الغربية    خبير ذكاء اصطناعي: التكنولوجيا تحولت لسلاح رقمي لنشر الفوضى واستهداف الدول العربية    ابنة وزير شؤون مجلس الشورى الأسبق تكشف تفاصيل مشكلة بشأن ميراث والدها.. ومحامية تعلق    لجنة إعداد الانتخابات بتحالف الأحزاب المصرية في حالة انعقاد مستمر    محمد رمضان: رفضت عرضًا ب 4 ملايين دولار في الدراما علشان فيلم «أسد» (فيديو)    بلاغ رسمي ضد أحمد السقا.. طليقته تتهمه بالاعتداء عليها وسبّها أمام السكان    جمال الكشكي: سياسة مصر تدعم الاستقرار وتدعو دائما لاحترام سيادة الدول    ممر شرفي من المعتمرين استعدادا لدخول كسوة الكعبة الجديدة (فيديو)    إليسا تهنئ نادر عبد الله بعد تصدره قائمة المكرمين من ساسيم: مبروك من نص قلبى    بعد الانفصال... وليد سامي يستعد لطرح أغنية "أحلام بسيطة"    هذا ما يحبه الرجال..3 أشياء تفعلها النساء الجذابات بشكل منتظم    30 مليون يورو قرض أوروبي لمؤسسة ألمانية تغذي صناعة السيارات    مع حلول العام الهجري الجديد 1447ه.. متى يبدأ رمضان 2026 فلكيًا؟    دار الإفتاء تعلن اليوم الخميس هو أول أيام شهر المحرّم وبداية العام الهجري الجديد 1447    دعاء العام الهجري الجديد 1447ه مستجاب.. ردده الآن لزيادة الرزق وتحقيق الأمنيات    محافظ الإسماعيلية يشهد الاحتفال بالعام الهجري الجديد بمسجد الروضة الشريفة    محافظ الدقهلية: 1517 مواطنا استفادوا من القافلة الطبية المجانية بميت غمر    رئيس الوزراء يستعرض النتائج التعاون بين جامعة أكسفورد ومستشفى 500500    احذر المفاهيم الخاطئة.. معلومات مهمة عن "فيتامين د" والأطفال    النيابة العامة بالمنيا تقرر تشريح جثة مدير المخلفات الصلبة بالمحافظة    أجمل عبارات ورسائل التهاني بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة 1447ه    خالد عبد الغفار يوجه بضرورة تطوير التقنيات الحديثة في مجال الصحة الرقمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حمدى الجزّار يكتب: مريم
نشر في الدستور الأصلي يوم 13 - 12 - 2011

مريم زهرة "الزاوية الحمراء"، لكنها زهرة رقيقة، وبيضاء.
فتاة طيبة، طيبة نسمات الصيف، ورائحة الأطفال، وشبع الجوعى.
مريم بيضاء البشرة مثل حمامة، وجهها أبيض كالحليب، ومنمنم التقاطيع، الشفتان رقيقتان، والأسنان ناصعة البياض، شعرها فاحم السواد، ومجدول فى ضفيرتيْن طويلتيْن، تتأرجحان على كتفيها وظهرها حتى منبت خصرها، مريم طويلة ورشيقة، كشجرة زان.
تسير مريم فى "المريلة الكحلى"، حقيبتها المدرسية بين يديها مرتاحة على صدرها الناهد، أصابعها الطويلة الرقيقة تنقر على ظهر الحقيبة بلطف كأنها تعزف أغنية لنفسها، تسمعها وحدها، وتخطو فى الحارات، والشوارع، وساحات الزاوية، خطو غزالة، تمشى بخفة كأنها طيف، تومأ لمحدثها برقبتها برقة، تسكت، وتنفرج أساريرها فتبتسم، بروح غزالة، قلما تضحك لكن ابتسامتها الوضيئة أعذب من كل ضحك.
إذا أقبلتْ مريم، فى طريقها للمدرسة، رائحة أوعائدة، حَنتْ بخطوها على تراب الشوارع، فتشفق عليها عيون أهلها، والناس. فى الثانوية التجارية يسخر منها رفيقاتها، والمدرسون والناظرة، يسمونها "حمامة السلام"، مريم رقيقة كحمامة فعلاً، وخجولة، وإذا حضرتْ، جاءت بكليتها، وإذا مضتْ، تمضى كأن لم يكن لها أثر.
مريم آخر العنقود، البنت الوحيدة، تعيش مع أبيها وأمها وأخويها، فى بيت من أربعة طوابق، بيت من حجر قديم، بُنى فى الأربعينيات من القرن الماضى، له بلكونات ضيقة من الحديد المشغول، وفيه ثمان شقق. وعلى الصف المقابل لبيت مريم حيث يتسع الشارع ويؤدى لساحة واسعة، يربض المبنى المخيف للجميع، قسم شرطة الزاوية الحمراء.
شقة مريم فى الطابق الأخير، وأمام باب شقتهم ثلاث درجات حجرية تؤدى للسطح الواسع، وعلى السطح مناشر غسيل، وعشش من الخشب، والصفيح، بناها أبوها بيديه، بها دجاج، وبط وأوز.
ها هنا، فوق السطح، قعدة مريم المفضلة، حيث تهرب من ضيق الشقة، تشم الهواء، أو تطعم الطيور، تضع لها الماء والحبوب، وتناغيها بأصوات عذبة كأنها تحدثها، ثم تغلق بابهم وتمشى خطوتين، تريح مرفقيها لسور السطح، تتابع حركة الناس فى الشارع، أو تحادث صاحباتها والجارات فى البلكونات والسطوح المقابلة. حين تكون وحدها تمامًا تدير وجهها فى السماء بعينين ذاهلتين، وتسرح مع نفسها، فى أحلام يقظة لذيدة، يظهر لها فيها بيت صغير بحديقة وأرجوحة، تتمرج فيها. بالقطع تعرف، كما نعرف نحن، أن خطيبها المدرس الشاب فقير، لكن منْ يمنع الأحلام من أن تجىء، ومنْ يمنع الرب من أن يصنع ما يريد.
مريم "دلوعة" أبيها، من شهر صنع لها ولخطيبها غرفة نوم "مصنعية"على كيفه، الزفاف سيكون بعد حصولها على الدبلوم، كما أنه اشترى لها من أسبوع موبيل نوكيا جديد بكاميرا، فباسته على خده، وأخذت له أول صورة. مريم صارت تحب تصوير الطيور، والأشجار، ووجوه الناس.
عيناها المشدوهتان، الذاهلتان، كانت ترى الشارع والساحة أمام القسم تلك الظهيرة، وجسدها الطازج كان مستندًا لسور السطوح.
كما كان يفيض نهر النيل ذات يوم، فاضت الأزقة، والحارات، الشوارع، والميادين بالناس تلك الجمعة العظيمة، عظم قيامة المسيح من القبر، ذاب الأفراد واختفوا، وأفسحوا للذات الكبرى الوجود، التظاهر، والهتاف بالحرية. قامت القيامة فى شوارع وحارات الزاوية الحمراء، واستيقظ النائمون من سباتهم الطويل..
مسيرات فى الشوارع تنادى، وتردد:
"واحد..اتنين..الشعب المصرى فين؟"
"يا أهالينا ساكتين ليه؟!"
"سلمية..سلمية"
"عَلِى وعلى وعلى الصوت ..اللى هيهتف مش هيموت"
انفجر الغضب أبيض فى الزاوية الحمراء.
مريم كانت تريد أن تعرف، أن ترى ما الذى يحدث فى الشوارع، ما الذى جرى فى الكون يا رب، وعندما اندفعت جارية على الدرجات الأربع، ووصلت للسطح رأت ما لم تره عيناها من قبل، رأت أهل الزاوية كلهم فى المساحة الواسعة أمام قسم الشرطة يهتفون:
"يسقط يسقط حسنى مبارك"
" يا حرية فينك فينك .. أمن الدولة ما بينا وبينك"
دُهشتْ، صُدمتْ، وضربت صدرها بيدها، مذهولة لا تدرى ما تصنع.
طوال سبعة عشر عامًا، هى كل عمرها، لم تسمع من قبل عمّن تجرأ ورفع الرأس والصوت هكذا، لم تر بعينيها الناس مجمعين، مصرين، على شىء بهذا الشكل.
كانت تراهم يلعبون الطاولة على المقاهى، يظيطون وهم يشاهدون مباراة كرة قدم، يتشاجرون مع بعضهم وبعض، يسخرون ويشتمون، يتحايلون على كسب القرش لكنها لم ترهم من قبل أبدًا يتظاهرون، وأين، أمام مبنى القسم المرعب الذى يتحاشى الجميع المرور من أمامه.
أبوها وأخواها معروفون بأنهم "طيبون وفى حالهم"، ما الذى جرى اليوم، ها هى تراهم الثلاثة فى الحشد بين الناس، رجال العائلة كلهم فى الشارع متفرقين، رجال الحىّ كلهم متظاهرين.
كان صوت الهتاف يهز الزاوية، يهز العالم من تحت، ومن فوق.
مريم لوحت من فوق السطح لأبيها، ولأخويها. نادت عليهم بأسمائهم واحدًا بعد واحد، ولم يسمعها أحد. هل تهتف معهم، هل تصرخ، هى رقيقة الصوت، ماذا تفعل، كانت ساكنة فى مكانها واجمة، الشمس فوق الناس أوشكت بالمغيب، قرصها أصفر وحزين، فكرت أنها يجب أن تلتقط لأبيها وأخويها الصور، الآن، حتى تصير الصور ذكرى.
مريم عادت بسرعة لشقتهم، أمها كانت تطل من الشباك، كانت تتابع ما يجرى فى الشارع ونستْ مريم تمامًا، "هتروح فين يعنى، تلاقيها فى أوضتها".
أحست أمها بحركة قدميها ودخولها، فالتفتت إليها، ورأتها وهى تلتقط موبيلها الجديد.
"رايحة فين يا مريم ؟"
"هطلع السطح..أصور أبويه وهو بيتظاهر؟!"
"يابت اقعدى..ليضربوا نار.."
لم تسمع مريم كلام أمها، وطارت للسطح.
"فين أبويه".الموبيل بين أصابعها الطويلة ممدود يصور المشهد، وعيناها تبحثان بين الحشود عن أبيها، ولا تجده.
صورت مريم بعض الفيديوهات.
فيديو دقيقتان، لشباب الزاوية الحمراء الجدعان، واحد محمول على الأعناق يهتف: "يسقط يسقط الطغيان".
خلفه يردد الشباب، العجائز، والكهول، والنسوان على أرض الشارع، وفى البلكونات.
فيديو آخر دقيقتين..من عمق شارع العروبة مسيرة زاحفة فى طريقها للساحة أمام القسم، رجال نساء وصبيان ينادون:
"يا أهالينا انضموا لينا "
" مش هنخاف مش هنطاطى..إحنا كرهنا الصوت الواطى".
مريم وجدت أباها أخيرًا.
والدها واقف أمام دكانه، دكان النجارة المفتوح، على أذنه قلم، يرتدى قميص عمله، وجهه كله سعيد، يرفع يديه الاثنتين عاليًا، وهو يهتف من أعماق روحه "ارحل ..ارحل".
مريم صوّرت فيديو أخير لبدء الضرب..
ضباط وجنود ومخبرون منتصبين فوق مبنى القسم، يشهرون البنادق والمسدسات، ومعهم آخرون، بلطجية فى قمصان وبنطلونات عادية،
والناس كما الأرز على الأرض، حول القسم يهتفون "سلمية..سلمية".
بدأوا يطلقون النيران، فارتفع فى السماء صوت الرصاص ..
انهمرت على الناس من كل صوب الطلقات الخرطوش، والطلقات الحية، وطاف ملاك الموت فوق رءوس الجميع..
ذعرت الطيور فى عششها، تصادمت فى الظلام، وصدرت عنها رفرفة وجلبة، ومريم صرخت حين سقط الشاب المحمول على الأكتاف برصاصة فى الرأس، وكانت كاميراتها الصغيرة قد التقطته، والرصاصة تصيب رأسه، سال الدم على وجهه، وعلى قميصه، وسقط للخلف، فوق من يحمله، ووسط الناس..
صرخت مريم من المنظر، صرخة مروعة، لفتت أنظار القتلة إليها ..
صعدت أمها السلالم الثلاثة جريًا، وهى تصرخ: "يا مريم ..مش قلت لك..استرها يا رب".
فى الخطوات القليلة ما بين مدخل السطح، ومقدمة السور، حيث كانت مريم ما تزال تواصل التصوير، فى الثوان القليلة التى فصلت بين أن تلمسها أمها وما وقع، كانت رصاصة قد انطلقت من فوق، من هناك، كانت نار مترصدة قد أطلقت، وأصابت جبهة الفتاة من فوق.
وكانت كاميراتها الصغيرة، فى يدها، لا تزال تلتقط صور الضحايا، والقتلة..
ومريم؟
مريم صعدتْ.
مريم صعدتْ.
وعلى جدران بيتها كتبنا :
"ارفع راسك ولو مقطوعة
خليك ميت وأنت رافعها
دى الراية هتفضل مرفوعة
دم الشهدا هوه رافعها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.