دعنا نواجه أنفسنا بصراحة، فرغم ذلك اللقاء العابر الذى حدث بين وزير السياحة المصرى السيد هشام زعزوع، والممثل الأمريكى مورجان فريمان، وقد حمل الأخير لوحا من الورق المقوى مكتوبا عليه - فيما يبدو بشكل ارتجالى وعلى عجل - «هذه هى مصر»، نقول إنه رغم هذا اللقاء فقد تردد فى الصحف السينمائية العالمية ما يؤكد اانزعاج فريمان مما حدث له فى مصر، كما جاء على سبيل المثال فى موقع «هوليوود ريبورتر»، ذلك الانزعاج الذى كشف لنا عن حالة من الارتباك تسود مؤسساتنا والمسئولين عنها، وأرجو - إن استوعبنا الدرس جيدا- أن نتلافى جوهريا ما حدث من مفارقات مضحكة مبكية. بدأ الأمر وكأننا فوجئنا بوجود فريمان فى مصر، وهو من هو فى عالم السينما الآن، ناهيك عن دوره بالغ الأهمية فى شبابه فى اشتراكه فى برامج تعليم الأطفال، مثل «شارع سمسم» أو «شركة الكهرباء»، وهو الدور الذى ترك أثرا بالغا فى نفوس جيل الثمانينيات من أطفالنا. وبدا الأمر أكثر إثارة للمفاجأة، حين تردد فى وسائل الإعلام أن فريمان جاء إلى مصر لتصوير فيلم باسم «قصة الله»، وربما كان هذا الاسم هو الذى دعا مؤسسة الرقابة عندنا للانزعاج. ولكى تنفض مؤسسة الرقابة ومسئولوها أياديهم عما يحدث، وفى نوع من إبراء الذمة، قررت مخاطبة سلطات الأمن الوطنى (!!)، حسب ما جاء فى بوابة الأهرام بتاريخ 21 أكتوبر، لتقول إنها «مالهاش دعوة»، وإنها لم تصرح لفريمان بالتصوير، بينما القانون ينص من وجهة نظرها على الحصول على هذا التصريح منها مسبقا، خاصة أن ما سوف يتم تصويره يتعلق بصورة مصر«، وأنها قضية «أمن قومى»، طبقا لخطاب الرقابة إلى الأمن. وهنا دخلت هيئة الاستعلامات على الخط، لتؤكد أنها من أصدر هذا التصريح قبل شهور، وأن الأفلام التسجيلية تقع فى دائرة سلطاتها، بينما لا تتعدى سلطات الرقابة الأفلام الروائية!! وبينما ليس هناك حقا فى القانون أو الفن خط فاصل بين ما هو تسجيلى وما هو روائى، وبينما الرقابة أيضا تحمل اسم «الرقابة على المصنفات الفنية» أيا كانت، فإن هذا الارتباك، الذى انعكس فيما يبدو على مهمة مورجان فريمان ذاتها بشكل أو آخر، يدل على أننا نتحدث كثيرا ولا نفعل إلا القليل، وأن معظم ما نفعله يأتى فى إطار التهويش والتشويش. نحن نتحدث عن فكرة «الشباك الواحد» لتسهيل المعاملات، لكن الحقيقة أن هناك شبابيك وأبوابا وربما دهاليز متعددة أيضا لمرور تلك المعاملات، كما أننا نتحدث عن قانون للخدمة المدنية لتقييم الموظفين، دون أن نقوم أولا بتنقية مئات الآلاف من القوانين والقرارات المتعارضة أحيانا، والتى قد تترك الموظف فى حيص بيص، أو تسمح له بانتقاء قانون ضد الآخر، وكله بحسابه. لكن المهم فى ذلك كله ليس الأوراق والمستندات والإجراءات، فالأهم هو المغزى من وجودها أصلا، وهل يمكن أن تحقق ما نعتقد أنه الحفاظ على «الأمن القومى» وبصورة مصر؟ هل يتصور أحد أن مورجان فريمان جاء إلى مصر للإضرار بالأمن القومى؟ وهل من المطلوب منه أن يحافظ على ما «نرجو» أو حتى «نحلم» أنه صورة مصر؟ لقد كان من الممكن لفريمان أن يستغنى تماما عن زيارة مصر، بينما تقوم الصور المولدة كومبيوتريا، بما وصلت إليه من أكبر قدر من الإتقان، بتناول فكرته وهو جالس فى أحد استوديوهات هوليوود. وليس سرا أنه فعل ذلك حقا منذ سنوات مع النجم جاك نيكولسون، فى فيلم يمكن ترجمة اسمه إلى «قائمة الأمنيات المتبقية»، إذ ظهرا وخلفهما الأهرام، بينما لم تطأ أقدامهما مصر أصلا!! (من المضحكات المبكيات، أن بعض الصحافة الفنية أرادت إدانة فريمان، فذكرت أدوارا رمزية له فسروها بأنها تشير إلى «الله» ونسوا أنه أدى شخصية المسلم، أكثر الشخصيات نبلا وتحضرا فى فيلم «روبين هود، أمير «للصوص»). إن أردت تلخيصا لهذه الحالة من الارتباك، فإن لها وجهين ليست هناك صلة بينهما، أولهما هو تخلفنا الشديد عن تسويق مواقع التصوير السينمائى والتليفزيونى فى مصر، رغم التنوع التاريخى والجغرافى فى هذه المواقع، ووجود أيدٍ عاملة رخيصة، وأجواء طبيعية لا تجعل المنتج يؤخر التصوير يوما واحدا، بسبب سوء الأحوال الجوية. وربما كان جزء من علاج تخلف صناعتنا السينمائية يأتى بالاحتكاك المباشر بصناع سينما عالميين على الأرض المصرية. أما وجه القضية الآخر فهو «البارانويا» التى تجعلنا نشعر بالهلع، إذا ما جاءت سيرة «صورة مصر» أو «الدين» هلع لم نعبر عنه عندما أعلن شيخ سلفى يدعى مرجان، وآخر يدعى الشحات، عن رغبتهما إما فى تدمير «الأصنام» (الآثار!!) أو تغطيتها بالشمع، خوفا من عبادتها (كم علامة تعجب يمكن أن تكفى هنا؟؟). هذا فى الوقت الذى أصبنا فيه بالرعب من أن اسم الحلقات التى يصورها مورجان فريمان هو «قصة الله» أى تطور فكرة الألوهية عبر التاريخ وعند الشعوب المختلفة. هل يمكن لأحد أن يناقش مثل هذه الفكرة دون أن يبدأ بمصر؟ إن المرء يخشى أحيانا أنه إذا كان عالم المصريات بريستيد قد ظهر فى عصرنا، فإنه لن يسمح له بكتابة «فجر الضمير». أما صورة مصر، والإسلام، فنحن وليس غيرنا هم المسئولون عنها، وما يحدث حولنا من إرهاب بالغ الدموية باسم الاسلام لا يمكن أن يضاهيه فيلم، فالواقع أقسى وأمر من كل الأفلام. لمزيد من مقالات أحمد يوسف