على الرغم من التقدم المحرز فى الحروب الدائرة على الإرهاب فى المنطقة العربية، إلا أن هذه الحروب تفتقد بعض الشروط اللازمة لنجاحها. من المؤكد أنه فى النهاية ومهما طال الزمن أو قصر، سوف تنتصر الدول، ولكن من غير المرجح أن تنتهى الظاهرة الإرهابية فى المنطقة، وسوف تكون تكلفة النصر فى هذه الحرب مرتفعة، وسوف تستغرق فترة زمنية أطول، ولن يكون هناك مناعة ضد احتمالات إعادة اختراع الإرهاب، وتجدد موجات إرهابية أشد عنفا، إذا لم يجر استدراك عدد من الشروط منذ الآن.
ثمة مجموعة من النواقص فى المواجهة الحالية مع الإرهاب، أبرزها: أولا: تفاوت الرؤى: فليس هناك اقتناع حقيقى من قبل أطراف عربية بالحرب، أو بتصنيف «الجماعات الجهادية» كجماعات إرهابية، وذلك من واقع تراث عربي/ إسلامى هائل يمجد المقاومة باسم الدين، يجرى إنزاله على الواقع بشكل تلفيقى غير متسق مع الحالة الراهنة على الإطلاق. فهناك تفاوت فى إدراك الدول العربية لخطورة الإرهاب، وما إذا كان يقتضى بناء قوة مشتركة أم لا، وتقوم دول مثل قطر بدعم وتوظيف القوى الجهادية التى تعتبرها أطراف أخرى إرهابية، ومن ثم على الأرجح ألا ينقطع التمويل الرسمى للقوى الجهادية، وفى كل الأوقات سوف تجد هذه القوى من يدعمها من أطراف رسمية بالنظام العربي. وسوف تظل جماعات مثل داعش والنصرة وأحرار الشام وغيرها، تتلقى الدعم، ليس فقط من الحواضن الشعبية (وهى كثيرة وهائلة)، وإنما من أنظمة تنضوى رسميا تحت أحلاف قامت لمحاربة الإرهاب. ثانيا: تباين المصالح: يختفى وراء الحرب العربية على الإرهاب صدام بين المشروعين الإيرانى والسعودي، وهما مشروعان متواجهان ومتصادمان منذ مدة، وخلفهما تأسس حلفان بقيادة قوى دولية لكل منهما مصالح سياسية مختلفة؛ كلاهما تأسس تحت راية الحرب ضد الإرهاب وداعش، أحدهما يجمع إيرانوسورياوالعراق وحزب الله (فى حلف مع روسيا)، والآخر يجمع دول الخليج العربية وبعض الدول الأخرى (فى حلف مع الولاياتالمتحدة)، ومسرح العمليات متداخل بين الحلفين. وقد لا تنتهى حرب الحلفين إلى تسديد ضربات للإرهاب فقط، وإنما للخصوم السياسيين أيضا، وتخلق هذه الحالة حاجة من قبل الأنظمة الرسمية لتوظيف القوى الجهادية، أو على الأقل الإبقاء عليها كورقة مؤجلة فى الصراع البيني. ثالثا: تعدد الأهداف: بينما يريد بعض الدول العربية إنهاء الصراع مع الإرهاب فى حدود الداخل، فإن دولا أخرى تريد تصديره إلى غيرها، بينما تريد إيران تكريس اقتطاع أجزاء من العالم العربى ضمن الهلال الشيعي، وتتجه الحرب إلى بروز تكتلين إقليميين متواجهين، ومن المرجح أن يستمر هذان التكتلان، وأن ينجم عن المواقف من الأزمة السورية قيام تركيبة إقليمية جديدة، تتعزز باستمرار الخلاف الخليجى الإيرانى بشأن الاتفاق النووى وأمن الخليج والخلاف المذهبى والمسألة السورية. يدعم ذلك أن العراق سيبقى ضمن الفلك الإيراني، ولو نجت الدولة السورية وخرجت موحدة، فإنها لن تبقى «عربية التوجه»، بل إيرانية الولاء والميل السياسي. وهكذا تكتسى الحرب على الإرهاب باللون الطائفى التدريجى فى كل من الخليج والمشرق. مستقبل الظاهرة الإرهابية: مهما طال الزمن أو قصر سوف تنتصر الدول فى المواجهة الراهنة مع الإرهاب، لكن من المرجح ألا تنتهى دوافع وبواعث الظاهرة الإرهابية فى المنطقة العربية، إلا بمجموعة من الشروط، منها: أولا: إنهاء التوظيف الرسمي: فلقد ربطت دول عربية علاقات وثيقة مع جماعات الجهاد فى تجارب سابقة، والنموذج الأبرز الجهاد الأفغانى والحروب التى شهدتها بعض الجمهوريات الإسلامية داخل روسيا فى التسعينيات، وهناك دائما غواية من الجهاديين وبعض الدول لتكرار هذه التجربة، باعتبارها أكثر النماذج الناجحة على التوظيف الرسمى للجهاد دوليا، ولكن أثبتت السنوات حقيقتين مهمتين، وهي: أنه من الصعب تطويع القوى الجهادية وأن هذه القوى تمتلك نزعات تمرد وانقلاب على الدول التى ساندتها. والحقيقة الثانية هى التحولات التى طرأت على الظاهرة «الجهادية»، والتى انتهت بها إلى ظاهرة إجرامية إرهابية بكل المعاني، وهو أمر من المهم الاعتراف به وإقراره بقرارات واتفاقات رسمية عربية ملزمة. وإذا كانت بعض الدول قد مالأت قوى الإرهاب وأرادت إشراكها فى صيغ الحكم بهدف دفع الأخطار عنها، فإنه ليس من مصلحة الدول العربية استمرار التعايش مع ظاهرة تستفحل وتشكل إمارات ودول خلافة تأكل الدول الوطنية، وهو ما يتطلب ضرورة إنهاء التشابك المصلحى بين بعض قوى الدولة وشبكات اللادولة. إن التوافق الرسمى ضد الإرهاب مهم جدا، ولذلك يشكل تصريح الرئيس التونسى الباجى السبسى مؤخرا قدوة للأنظمة العربية، حين قال أن: «قادة مصر أدرى بشئون بلدهم ونحن أدرى بخصوصيات واقعنا»، وهو ما يمكن أن يقدم نموذجا جديرا بالاقتداء الرسمى العربي. ثانيا: تجفيف الظهير الجهادي: تشن الدول العربية حروب الإرهاب من دون ظهير قوي؛ صحيح أن مؤسسات الأمن القومى وأدوات الإعلام تلعب دورا أساسيا فى المواجهة، لكن لاتزال هناك العديد من القوى الاجتماعية ليست على وعى بخطورة الإرهاب باسم الدين، ولايزال هناك مدد «جهادي» خلفى منفلت يعمل بشراسة، ويرفد هذه القوى بالمال والسلاح وفتاوى الدم، وفى الأغلب كان للفتاوى الدينية «غواية» واستهواء لدى القواعد الشعبية. ومؤخرا، دعا بيان صادر عما يسمى «الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين» من وصفهم ب «المجاهدين المخلصين» فى سوريا، إلى توحيد الصفوف ونبذ الخلافات لمواجهة «التدخل الروسي»، معتبرًا أن روسيا تقاتل فى سوريا «نيابة عن الغرب وإسرائيل وإيران» للحيلولة دون أن يحكم «المسلمون السنة» أنفسهم فى «أرض الشام». كما دعا أكثر من 50 عالم دين سعودى الدول الإسلامية «لدعم المجاهدين» فى سوريا و«سحب سفرائها من روسياوإيران وقطع جميع العلاقات والتعاملات معهم»، وطالبوا بتقديم دعم عسكرى لمقاتلى المعارضة السورية ضد «التحالف الغربي-الروسي» الذى يشن «حربا حقيقية ضد أهل السنة» فى سوريا. هذه الدعوات والأصوات الدائمة التكرار بين شيوخ وأبناء هذه المنطقة تدفع الناس إلى معارك القطيع باسم الدين، والدين منها براء، وهى ناتجة عن جهل مطلق بالواقع السياسى وبمصالح الأمة الإسلامية، ومن الضرورى أن تعمل الدول العربية فى جهد جماعى لتجفيف هذه المنابع والفتاوى المتطرفة والجاهلة كل الجهل بالسياسة. ثالثا: الحروب اللامتماثلة (بالمعكوس): كانت ثورة التطوير فى المفاهيم العسكرية الأمريكية قبيل وبعد 11 سبتمبر، هو ابتكار مفهومين جديدين للحروب، وهما: «الحروب اللامتماثلة» و«الحرب الاستباقية»، وقصد بالأولى أن يستعد الجيش الأمريكى لخوض حرب لانظامية مع قوى الإرهاب التى تمارس شكل حرب العصابات، وهى حروب لا تجدى فيها القنبلة النووية أو الطائرة أو الدبابة أو الصاروخ، أما الحروب الاستباقية، فقصد بها عدم انتظار التهديدات حتى تصبح وشيكة، وشن الحروب ضد الدول والجماعات التى قد تشكل فى يوم ما تهديدا محتملا للولايات المتحدة. وبالمفاهيم المخالفة، فإن الدول العربية تحتاج لخوض حرب استباقية فى الداخل أولا -لا فى الخارج- ضد قواعد وشبكات الإرهاب الفكرية والدينية والمالية، كما أن نوعية الحروب اللامتماثلة التى على الجيوش العربية خوضها تختلف هى الأخرى، ففى ذروة العمليات الأمنية والعسكرية ضد الإرهاب، عليها أن تقوم بتصفية جيوبه وخطوط تمويله وإسناده داخل المحافظات والمدن البعيدة والقريبة، وتحديد خريطة الانتشار الجغرافى للإرهاب بدقة لتصنيف أماكن الالتهاب المزمن، من تلك المصابة ببعض أعراضه، من تلك المحتملة للإصابة مستقبلا، وتقطيع الصلات اللوجستية بين الخلايا والشبكات، وإنهاك طاقات القوى الجهادية فى دروب ودهاليز وحروب نفسية تقنعها على الدوام بخسارتها المؤكدة فى معارك العنف. رابعا: الحروب «الناعمة» واللاعسكرية: تحتاج المواجهة العربية مع الإرهاب إلى خوض سلسلة من الحروب الناعمة ضد الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة، وعلى الجبهات الاجتماعية والشعبية، وهنا نقطة اختلاف عربى مع التجربة الأمريكية، فلم تكن الولاياتالمتحدة فى حاجة بعد 11 سبتمبر إلى خوض مثل هذه الحرب اللاعسكرية فى الداخل، لأنه لم يكن بالمجتمع الأمريكى ظهير شعبى للإرهاب والقوى الجهادية، بينما فى الواقع العربى يوجد ظهير شعبى قوي، يشكل الأغلبية فى بعض الدول والشعوب، ويفصح أحيانا عن حالة مختلة، حين تعتنق بعض النظم السياسية ذاتها الأفكار الجهادية، وهو ما يعنى أنه من المستحيل صدقها فى الحرب على الإرهاب. لذلك فإن التوافق الرسمي، وربما الإجراءات العقابية الردعية ضد بعض الأنظمة العربية مسألة ذات أهمية كبيرة، وينبغى التفكير فيها. ضمن هذا السياق يمكن أن تتجه الحروب الناعمة - اللاعسكرية إلى ناحيتين: أولاهما حروب وقائية ضد نشر أيديولوجيات العنف والتطرف داخل المجتمع عبر وسائل الإعلام والتعليم والثقافة، ومن خلال تكريس الدعوة إلى التجديد الديني، والهدف هنا حماية القاعدة الشعبية وكسبها فى المعركة ضد الإرهاب. وثانيها الحروب ضد حواضن التطرف والأيديولوجيات الجهادية، وهى حروب لا عسكرية يقوم بها بالأساس خبراء التواصل الاجتماعى وفقهاء الدين الإصلاحيون والمجددون وكتائب الدعاة والمصلحون النفسيون، بهدف الدفع بسبيكة من الأفكار المضادة التى تضمن غلبة سيطرة التراث الدينى التسامحي، الذى يعمل على هزيمة أفكار التطرف، ومشروعه نفسيا ودينيا وعلميا.