ارتبط تطور النظام الدولى بظهور الأزمات الدولية ودور القوى الكبرى فى مواجهتها وحلها وفق ما يمتلكه من إمكانات وقدرات عسكرية واقتصادية وسياسية، وهكذا انتقل هذا النظام من صيغة توازن القوى إلى صيغة القطبية الثنائية ثم صيغة القطبية الأحادية الأمريكية والتى بدأت فى الانكماش مع صعود فاعلين دوليين مرشحين بقوة لمكانة القطب الدولى كالصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا. كانت حرب الخليج الثانية فى عام 1990 ضد العراق بعد غزوه واحتلاله لدولة الكويت، مناسبة لتتويج الأحادية القطبية الأمريكية من خلال إظهار الولاياتالمتحدةالأمريكية قدرتها العسكرية والسياسية على تشكيل حلف دولى وعربى لتحرير الكويت وقدرة الولاياتالمتحدة على استخدام مجلس الأمن الدولى لمصلحة تقنين الحملة العسكرية على العراق وإجباره على التخلى والانسحاب من الكويت ومنذ ذلك التاريخ عرف النظام الدولى الهيمنة الأمريكية على مقدراته وتغرد الولاياتالمتحدةالأمريكية بمكانة القطب الأوحد القادر على إدارة شئون العالم بمشاركة رمزية أوروبية حينا أو عالمية حينا آخر. ترى هل من الممكن أن تقود الأزمة السورية بتفاعلاتها وأبعادها الإقليمية والدولية والمحلية والعربية خاصة بعد التدخل الروسى العسكرى المعلن فى سوريا تحت شعار محاربة الإرهاب وداعش فى مقدمته، إلى نظام ثنائى القطبية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا الاتحادية، بعد إقدام روسيا على إظهار صلابتها فى الدفاع عن حليفها فى سوريا ومصالحها فى الشرق الأوسط وتعاونها مع إيران بعد توقيع الاتفاق النووى مع القوى الكبرى 5+1 ومن بينها روسيا؟، وربما تكون الإجابة عن هذا السؤال سابقة لأوانها نظرا لاختلاف الأزمة السورية عن الأزمة التى تبلورت عقب احتلال وغزو الكويت، ولأن روسيا لم تشكل حلفا واسعا، باستثناء التعاون مع إيرانوسوريا وحزب الله والعراق يكفل لها مصداقية دولية وقبولا واسعا لتدخلها العسكرى فى سوريا، وربما لأن روسيا فى نهاية المطاف تعانى العقوبات المفروضة من أمريكا والغرب بسبب موقفها من أوكرانيا، وهى أى روسيا وإن كانت قد قامت بالعديد من الخطوات والمبادرات تجاه محيطها فى جورجيا وأوسيتيا وغيرها من مناطق النفوذ السوفيتى السابق إلا أنها لا تزال بعيدة عن شغل المكانة القطبية المأمولة بسبب تأزم الاقتصاد وانخفاض قيمة العملة الروسية والعقوبات الغربية. ومع ذلك فإن التدخل العسكرى الروسى فى سوريا يضع تفاعلات الأزمة السورية فى إطار جديد وقواعد جديدة، حيث يشير هذا التدخل إلى أن روسيا استوعبت درس ليبيا التى انفرد حلف الناتو بالتدخل فيها وتم تهميش روسيا، فهذا التدخل يعنى أن روسيا لن تترك مصير سوريالأمريكا والغرب منفردين، لأن مصالحها الاستراتيجية والسياسية فى سوريا واضحة للعيان، قواعد روسية فى طرطوس وأسلحة للنظام وموطئ لقدم فى مياه البحر المتوسط الدافئة للبحرية الروسية، وقد حظى هذا التدخل بمباركة رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وهو ما يضفى عليه مسحة من القداسة. ولا شك أن التدخل الروسى فى سوريا يعتمد على آلية مختلفة عن التدخل الإيرانى، فالأول يعتمد على آلية التعامل الدولى أى تعامل الدول مع بعضها البعض إذ يقتصر تعاون روسيا وتدخلها فى سوريا على الدولة السورية وأجهزتها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وبعيد كل البعد عن الفسيفساء السورية العرقية المذهبية والدينية ولا يتدخل فى الصراع الأهلى أو المكونات الأولية، كما أنه رسمى ومعلن وصريح بعكس التدخل الإيرانى الذى يتخذ بعدا طائفيا وأهليا، كما هو الحال فى لبنان واليمن والعراق. يتخذ التدخل الروسى شعار «مقاومة الإرهاب» ويهدف فى الواقع إلى الحفاظ على النظام عبر إضعاف القوى الإرهابية وقد أثار هذا الشعار جدلا كبيرا حول طبيعة المعارضة المعتدلة التى يريد الغرب الحفاظ عليها وتقويتها بين روسياوالولاياتالمتحدةالأمريكية. لا تقتصر أهداف التدخل الروسى فى سوريا على ذلك بل تمتد لتطول أهدافا أخرى من بينها محاربة الإرهاب القادم من الشيشان والقوقاز وغيرهما والذين يقدر عددهم ب 2400 إرهابى أو 3500 إرهابى من أصول روسية وشيشانية و 2000 وفق المصادر الروسية، فهؤلاء أيا كان عددهم يعتبرون احتياطيا إرهابيا يهدد الأمن القومى الروسى فى حالة انتهاء الحرب وعودتهم إلى ديارهم وينطوى معظم هؤلاء تحت لواء «جبهة النصرة». وبعيداً عن هذه الأهداف الظاهرة للتدخل الروسى فإن الاحتمالات الممكنة قد يصعب حصرها سواء نتيجة للتدخل الروسى أو مضاعفات هذا التدخل على المشهد الراهن فى سوريا، من الوارد أن تكون روسيا هدفا للإرهاب فى هذا الوقت وأن ينشط إعلام الإرهابيين فى جعل روسيا قبلة الإرهابيين وعدوا لهم بعد تدخلها ضدهم فى سوريا ويعيد هذا الاحتمال إلى الأذهان سيناريو أفغانستان، حيث توافدت على هذا البلد عناصر إرهابية من كال البلدان لمحاربة السوفيت بعد تدخلهم فى أفغانستان، بل قد يكون من المحتمل أن تتغاضى الولاياتالمتحدة والقوى الكبرى عن التدخل الروسى فى سوريا رغم التصريحات المعلنة على أمل تورط روسيا فى المستنقع السورى وإرهاق روسيا الساعية إلى إثبات جدارتها وقدرتها على المبادأة والفعل وأعتقد أن هذا الاحتمال ليس بعيدا عن ذهن الإدارة السياسية والاستراتيجية للتدخل العسكرى الروسى فى سوريا. من الممكن فى هذا السياق أن تنظر الولاياتالمتحدة للتدخل الروسى بعين الاعتبار استنادا إلى أنه قد يوجه ضربات ناجعة للإرهابيين ارتكازا إلى وجود قوات برية على الأرض مشكلة من جيش النظام السورى وميلشيات الحرس الثورى وميلشيات حزب الله، وأن هذا التدخل قد ينجح فيما فشل فيه الأمريكيون والتحالف الدولى المشكل لأنه يعتمد على الضربات الجوية فقط. وأخيرا وليس آخرا فإن التدخل الروسى قد يخلق معطيات جديدة على الأرض تجعل من التسوية ممكنة للأزمة السورية، فقد يخلق هذا التدخل توازنا جديدا للقوى من خلال التحالف السورى الإيرانى الروسى يرجح كفة التسوية السياسية ويمهد للتفاوض على ضوء هذا التغير، تلك التسوية التى ينبغى أن تستهدف الحفاظ على الدولة والأراضى السورية والحؤول دون تفتيتها إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية ودينية قد تمثل خطرا داهما على جيرانها وتجعلهم يتحسرون على تقسيم «سايكس بيكو» الذى أجرته القوى الاستعمارية للمنطقة فى عام 1916 وصمد طوال المائة عام. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد