توترت العلاقات بين مصر و الدولة العثمانية في أواخر عام1868, و توقع الخديوي إسماعيل أن يؤدي هذا التوتر إلي احتمالية نشوب حرب بين مصر و الدولة العثمانية في أي وقت, ففكر بالاستعانة بخبراء من الضباط الأجانب لتدريب الجيش المصري و تنظيمه استعدادا لأي حرب مقبلة و لزيادة كفاءة الجيش المصري في نفس الوقت. و استقر رأيه علي الاستعانة بالولايات المتحدة لأن أمريكا لم يكن لها أطماع في مصر في تلك الفترة, كما توافر في أمريكا عدد كبير من الضباط ذوي الكفاءة العالية الذين تم إنهاء خدمتهم عقب انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية عام1865. و قد تم ذلك عن طريق ضابط أمريكي اسمه الكولونيل تاديوس موط, ووصل أول فوج من الضباط الأمريكيين عام1869 و رحب بهم الخديوي اسماعيل. عمل بالجيش المصري ما يقرب من55 ضابطا أمريكيا في الفترة ما بين(-18821869) تحت قيادة الجنرال شارلز ستون الذي عينه الخديوي اسماعيل في30 مارس1870 رئيسا لأركان حرب الجيش المصري و ظل يشغل هذا المنصب لمدة ثلاثة عشر عاما. كان من ضمن مهام الجيش المصري في تلك الفترة الكشف الجغرافي عن مناطق أعالي النيل و منابعه في وسط أفريقيا و الذي اهتم به الخديوي اسماعيل لتوسعة نفوذ مصر و السيطرة علي منابع النيل الاستوائية, و قام ضباط الجيش المصري بالفعل في الفترة بين عامي1871-1878 باكتشاف مساحات شاسعة من تلك المناطق الأفريقية, إلا أن المراجع الأوروبية تهمل تماما ذكر هذا الدور. كان أشهر الضباط الأمريكيين الذين عملوا علي اكتشاف أواسط أفريقيا و منابع النيل تحت إمرة الخديوي إسماعيل, الضابط الأمريكي شاييه لونج(19181843) و هو من أصول فرنسية. أمر اسماعيل الحاكم الإنجليزي لمديرية خط الاستواء, جوردون باشا- الذي عينه عام1874 علي إرسال بعثات كشفية لمنطقة بحيرة فيكتوريا والعمل علي إدخال المدنية إليها. و كانت أول بعثة كشفية يرسلها جوردون في إبريل من ذلك العام, هي للضابط الأمريكي شاييه لونج إلي أوغندا. كان ملك أوغندا و اسمه امتيسا, و الذي يرد اسمه تقريبا في كل كتاب ألف عن النيل قد حاول الاتصال بالبعثة المصرية في مديرية خط الاستواء, الملاصقة لمنطقة حكمه, خلال شهري يناير و فبراير1873, إلا أنه لم يجد الاستجابة اللازمة من حاكم المديرية السابق الانجليزي صامويل وايت بيكر رغم أهمية هذا الاتصال لمصر, و هو ما فسره المؤرخون بأنها محاولة لتعطيل النفوذ المصري من الامتداد إلي أهم بقاع وسط أفريقيا. و علي كل, غادرت بعثة شاييه لونج محطة غندوكرو بجنوب السودان في طريقها إلي أوغندا, بهدف التفاوض مع إمتيسا و تقوية روابط الصداقة بين مصر و أوغندا, و العمل علي تصدير العاج الأوغندي إليها بدلا من زنجبار, و كذلك استكشاف المجري المائي لنهر النيل فيما بين غوندوكرو و بحيرة فيكتوريا. سارت بعثة لونج إلي الجنوب علي امتداد20 يوما حتي وصل إلي فويرا بشمال أوغندا, و هناك كتب تقريرا يؤكد فيه صعوبة استخدام هذه الطرق للمواصلات نتيجة للمستنقعات و الأمطار و السدود المائية ناهيك عن الأمراض. و في19 يونيو سنة1874 دخلت البعثة بلدة روباجا عاصمة أوغندا و تقابل لونج مع إمتيسا في صباح يوم21 يونيو, و أبلغه تحيات الخديوي إسماعيل و تقدير الحكومة المصرية له, كما طلب منه أن يسمح له بارتياد الضفة الشرقية لبحيرة فيكتوريا لاجراء بعض الاستكشافات الجغرافية لها, فسمح له امتيسا بذلك. و لما عاد لونج بعد ذلك من فيكتوريا إلي روباجا في16 يوليو, قام بعقد معاهدة مع الملك إمتيسا في16 يوليو1874, أقر فيها الملك بوضع مملكته تحت حماية مصر. و الواقع أن إبرام هذه المعاهدة مع امتيسا يعتبر بمثابة نجاح في تحقيق الأهداف السياسية اللتي أرسلت البعثة من أجلها إلي أوغندا. لكن ذكر لونج في كتابه مصر و مديرياتها الضائعة الذي يعكف كاتب المقال علي ترجمته و نشره أن تلك المعاهدة أودعت بمحفوظات وزارة الخارجية المصرية, ولكن ضابطا بريطانيا أحرقها عقب الاحتلال البريطاني مباشرة ضمن وثائق و تقارير أخري. وكانت خطوة هامة لانجلترا في بدء سلب مصر ممتلكاتها في أفريقيا. بعد إبرام المعاهدة, غادر لونج روباجا في20 يوليو مستقلا ثلاثة قوارب هو و أفراد بعثته, سارت بهم في نيل فيكتوريا متجها شمالا و ما كاد يسير بضعة كيلو مترات في مخرج النيل من البحيرة, حتي وجد نفسه في بحيرة متسعة يحجبها السدود المائية و المستنقعات لذلك لم يكتشفها مستكشف أوروبي قبله, و أخبره رفاقه من أوغندا أن اسمها بحيرة كيوجا, و نظرا لأن ذلك أول اكتشاف لهذه البحيرة فقد أخذ يتجول بها علي شاطئها و علي القوارب لمدة48 ساعة, و كتب تقريرا جغرافيا عنها, و حرص علي تغيير اسمها إلي بحيرة إبراهيم, نسبة إلي إبراهيم باشا و الد الخديوي إسماعيل. و الجدير بالذكر أن الخديوي اغتبط بهذا الاكتشاف و النجاح للبعثة العسكرية المصرية في أوغندا و منطقة البحيرات, فأنعم علي لونج برتبة ميرالاي, أي عميد, كما منحه النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة تقديرا لجهوده في خدمة الحكومة المصرية. إلا أنه في9 سبتمبر لعب جوردون لعبة قذرة لصالح بلده بريطانيا, و سحب الفرق المصرية من أوغندا و كتب خطابا عجيبا يقدم فيه للخديوي مبررات هذه الانسحاب العجيب مدعيا أن امتيسا يماطل و لا يزال علي طبعه البربري القديم و يريد أن يضع الجنود المصريين تحت رحمته. و أثبت التاريخ فيما بعد أن جوردون هو العامل الأساسي في سلب مصر ممتلكاتها و مديرياتها وسط أفريقيا و بحيرة فيكتوريا التي كان العلم المصري مرفوعا عليها, و أنه كان أساس مد النفوذ البريطاني إلي هذه المناطق و الذي كان وقتها قد بدأ ينتشر في جنوب إفريقيا. نعود للونج بك, حيث أنه لم يشاهد علي الخرائط في لندن بعد اكتشافه لبحيرة ابراهيم- أي ذكر أو رسم للطرق التي سلكتها بعثته و لا أي ذكر للبحيرة, مما أثار غضبه, و نبه رئيس تحرير جريدة نيويورك هيرالد إلي ذلك, و نشرت الجريدة خطابه لكي يتذكر المسئولون الجغرافيون في لندن عدم إهمال كشوفه مرة ثانية. إلا أن المسئولين قد تمادوا في الخطأ بطريقة تدعو إلي الدهشة. و لم يكن يعرف لونج أن بريطانيا كانت تريد أن تستأثر أدبيا و استعماريا بكشف منابع النيل و بحيراته, و ذلك كان سبب جحدهم لدوره كضابط أمريكي في الجيش المصري في كشف إحدي بحيرات النيل المجهولة. لذلك تركت الحادثة مرارة في نفسه, وكراهية للملكة فيكتوريا و جوردون, و زاد من ذلك أنه عمل بعد خلع اسماعيل قنصلا أمريكيا في الاسكندرية و شهد مذبحة الاسكندرية و ضرب الاسكندرية و رأي ما تذرعت به بريطانيا الاستعمارية لاحتلال مصر, و ذكر شهادته لتصفية بريطانيا للوجود المصري في افريقيا, و ذمه لعقلية و خبث جوردون و انخداع اسماعيل فيه, و مديحه لمصر في ما جلبته من تمدن لتلك المناطق النائية, في أربعة كتب, كتبها بالانجليزية و الفرنسية و نشرها في نيويورك و باريس,هي: مصر و مديرياتها الضائعة, حياتي في أربع قارات, ثلاثة زعماء: المهدي و جوردون و عرابي, منابع النيل.... مما جلب له النقد و الذم في المصادر التاريخية البريطانية حتي الآن. و لا ريب أنه كان أكثر الضباط الأمريكيين أهمية في أفريقيا و في تاريخ مصر الحديث, و خلد اسمه بعد ذلك في المجلات الجغرافية و التاريخية, و سلطت عليه بعض الأضواء في الدراسات الأكاديمية التاريخية في مصر في ستينات القرن الماضي.......و عسي أن يفتح هذا المقال النظر إليه مرة أخري.