أعلنت لجنة (نوبل) النرويجية منح جائزة نوبل للسلام عام 2015 جاءت للمنظمات الأربع التى شكلت (الرباعى الراعى للحوار الوطنى) فى تونس تقديرا لمساهمتها فى بناء ديمقراطية تعددية بعد ثورة الياسمين فى عام 2011. وأوضحت اللجنة كما ورد فى جريدة الوطن - أن الوساطة الرباعية تشكلت صيف 2013 بينما كانت عملية الانتقال إلى الديمقراطية تواجه مخاطر نتيجة اغتيالات سياسية واضطرابات اجتماعية على نطاق واسع. وهذه الوساطة التى قامت بها المنظمات الأربع نظمت حوارا وطنيا طويلا وصعبا أفضى إلى التوافق لتجاوز شلل المؤسسات. والواقع أن جائزة (نوبل) للسلام الرفيعة القدر والتى كان مرشحا لها شخصيات عالمية مرموقة من أبرزها (ميركل) مستشارة ألمانيا ومنظمات بارزة ذهبت بجدارة إلى هذا «الرباعى» الذى يتشكل من الاتحاد العام التونسى للشغل الذى تأسس عام 1946 على يد الزعيم النقابى«فرحات حشاد»، ويضم غالبية العمال ويرأسه اليوم الأمين العام للاتحاد «حسين العباسى»، والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والذى تأسس سنة 1947 ويضم غالبية الصناعيين والتجار فى تونس وترأسه الآن «وداد بوشاموى»، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وتأسست سنة 1977 من قبل ليبراليين تونسيين ويرأسها حاليا المحامى اعبد الستار بن موسى»، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين ويرأسها اليوم عميدها المحامى «محمد فاضل». والواقع أن منح هذا االرباعىب والذى يمثل خيرة منظمات المجتمع المدنى التونسى جائزة (نوبل) للسلام يعد - بوجه عام- تحية مرموقة للمجتمع المدنى العربى بمؤسساته المختلفة الحقوقية والتنموية. بالإضافة إلى تحيته للثورة التونسية التى كانت فاتحة ثورات الربيع العربى، والتى استطاعت أن تتوافق بفضل حكمة النخبة السياسية التونسية الإسلامية والعلمانية على السواء. والواقع أننا وقد سجلنا ذلك كتابة فى مقالات سابقة- قدرنا الاتجاه السياسى المتوازن لحزب النهضة الإسلامى فى تونس والذى يقوده الشيخ (راشد الغنوشى). وهذا الاتجاه السياسى المتوازن يقوم على فلسفة واضحة طرحها بوضوح الشيخ الغنوشى والتى تقوم على مبدأ بالغ الأهمية، وهو أنه لا ديمقراطية بغير توافق سياسى. وقد طبق حزب النهضة هذا المبدأ للأمانة تطبيقا دقيقا. لأنه بعد أن حصل على الأغلبية فى انتخابات المجلس الانتقالى الذى تشكل بعد الثورة رفض أن يحتكر كل المراكز السياسية المؤثرة. وقد أثبت حزب «النهضة» تمسكه بفلسفة التوافق السياسى حين دار جدل فى أثناء وضع الدستور الجديد حول الإشارة إلى الشريعة الإسلامية، وقبل الحزب الملاحظات النقدية التى أبداها العلمانيون من أعضاء اللجنة وحذفها. وأهم من ذلك أنه قرر بعد الانتهاء من الدستور وتنظيم الانتخابات لرئاسة الجمهورية ألا يقدم الحزب مرشحا له، لأنه لم يشأ أن يظهر وكأنه يفرض نفسه على جموع الشعب التونسى فى الوقت الذى لا تمثل جماهيره إلا جزءا من هذه الجموع. ودارت الانتخابات الرئاسية ونجح حزب (النداء الجديد) الذى يرأسه السبساسى المحسوب على النظام القديم، وقبل الحزب نتيجة الانتخابات، بل إن (راشد الغنوشى) -باعتباره رئيسا للحزب- هنأ «السبسى» بفوزه، وهى التهنئة التى لامه بصددها أحد زعماء جماعة الإخوان المسلمين المصرية وهو الدكتور «وجدى غنيم» حين خاطبه بجهالة قائلا كيف تهنئه وهو علمانى كافر!. فى هذه العبارة الصادمة تكمن محنة جماعة الإخوان المسلمين، لأنها رفضت التوافق السياسى، مع أن مرشحها «محمد مرسى» فى الانتخابات الرئاسية صرح بأنها (مشاركة لا مغالبة). ولكن عقب فوز (مرسى) بفارق ضئيل عن منافسه الفريق (شفيق) تحول مكتب إرشاد الجماعة بقيادة الدكتور (محمد بديع) إلى المغالبة المطلقة. وتبين ذلك بوضوح فى إقصاء كل القوى السياسية عن دائرة صنع القرار، والإصرار على أن تكون غالبية أعضاء الهيئة التأسيسية ممن ينتمون للجماعة. وبالرغم من حكم المحكمة الدستورية العليا يبطلانها فإن الجماعة أصرت على عنادها الأحمق مما دفع بالأعضاء الليبراليين إلى الانسحاب. وهكذا احتكرت الجماعة الإرهابية صياغة الدستور، ونظمت بصدده استفتاء صوريا حتى تنفرد انفرادا كاملا بالحكم فى مصر. وكانت النتيجة الحتمية ما حدث فى 30 يونيو من انقلاب شعبى ضد حكم جماعة الإخوان والذى أيدته بجسارة القوات المسلحة المصرية، وتم عزل (مرسى)والقبض على قيادات الجماعة ومحاكمتهم جنائيا على جرائم العنف والتحريض التى قاموا بها. وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد فشلت سياسيا فى حكم (مصر) نتيجة عجز كوادرها، ولرفض الشعب مشروعها الأخونة الدولة وأسلمة المجتمع فإن حزب النهضة التونسى قدم نموذجا رفيعا فى صياغة معادلة متوازنة للتوافق السياسى، سمحت بتشكيل وزارة تجمع بين العلمانيين الذى حصلوا على الأغلبية وبعض الإسلاميين. وهذا هو الذى لفت نظر جائزة (نوبل) ونعنى قدرة المجتمع التونسى على تجاوز العقبات الجسيمة التى أعقبت ثورة الياسمين، والتى كان يمكن أن تؤدى إلى حرب أهلية -ليس بفضل السياسة الحكيمة لحزب النهضة فقط- ولكن نتيجة للنضج السياسى والنقابى للمجتمع التونسى متمثلا فى الرباعى الذى يتكون من الهيئات الأربع التى ذكرناها. وإذا نحن عقدنا المقارنة بين حزب النهضة التونسى وجماعة الإخوان فى مصر وأشرنا إلى النضج السياسى لحزب (النهضة) وحرصه على التوافق السياسى، فإننا من ناحية أخرى لابد أن نقارن بين المجتمع المدنى التونسى والمجتمع المدنى المصرى. والواقع أن المجتمع المدنى المصرى -وخصوصا مؤسساته الحقوقية- لعبت قبل ثورة 25 يناير دورا بارزا فى معارضة نظام الرئيس السابق «مبارك»، وحشد الجماهير بجسارة للاعتراض على سياساته المنحرفة والتى أدت إلى إثراء أهل السلطة وزمرة من رجال الأعمال الفاسدين على حساب ملايين المصريين الذين شاع الفقر الشديد بين صفوفهم. إلا أن هذه المؤسسات لعبت أدوارا سلبية للغاية فى الواقع بعد الثورة، وذلك لأن أعضاء مؤسسات المجتمع المدنى من الناشطين السياسيين وخصوصا من أعدوا ورتبوا للثورة -من خلال التشبيك الإلكترونى ونزلوا يوم 25 يناير إلى ميدان التحرير- ظنوا وهما أنهم هم الذين قاموا بالثورة، مع أنها لم تكن لتنجح لولا نزول ملايين المصريين فى مظاهرة حاشدة نجحت فى مدة ثمانية عشر يوما فى إسقاط النظام القديم. وقد دأبت بعض جماعات النشطاء السياسيين على تنظيم تحركات ومظاهرات بعضها كان يهدف فى الواقع إلى إسقاط الدولة من خلال محاولة هدم قوات الشرطة والهجوم غير المبرر على القوات المسلحة فى المرحلة الانتقالية التى اختلطت فيها الثورة بالفوضى، وسادت الغوغائية على حساب التوازن السياسى. من هنا يمكن القول إن المجتمع المدنى التونسى قد نجح نجاحا فائقا فى الوقت الذى فشلت فيه مؤسسات المجتمع المدنى المصرية فى أن ترقى لمستوى التوافق السياسى والذى يحمى الثورة ويدافع عن الدولة فى الوقت نفسه. لمزيد من مقالات السيد يسين