لا تعنى مقولة نهاية التاريخ زوال عالمنا بالمطلق، بل تعنى فقط أن هذا العالم سوف يخلو من الصراعات الكبري، والانقسامات الجذرية بين البشر فلسفيا وإيديولوجيا، بحيث يصير التاريخ سكونياً، ويصير الشعور الإنسانى بحركته أقرب لشعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء فى الفضاء الأعلي، منه إلى شعور راكب السيارة بوعورة الطريق، وخشونة السطح، وربما حركة كثبان الرمل الرجراجة. ولو تأملنا هذه المقولة، جوهريا، لوجدناها تعانق تيار الفكر اليوتوبى الممتد فى التاريخ الإنساني، والذى يضم أنماط تفكير تختلف منابعها ولكن تشترك جميعها فى مهمة البحث عن خلاص من ربقة الصراع الذى يمسك بلباب عالمنا، والتوجه نحو عالم مثالى أو مدينة فاضلة لا مكان لها على الأرض، وهو ما يفسر التعريف اللغوى لليوتوبيا، أى االلامكانب. ومن ثم فإن مفهوم نهاية التاريخ لم يكن جديدا تماما عندما طرحه فوكوياما مطلع تسعينيات القرن الماضى، وإن تبدى مع الرجل أكثر صراحة وجرأة بالقياس إلى كل الطروحات السابقة. ولو أننا بحثنا عن جذر طبيعى ومباشر لإعلان نهاية التاريخ ما وجدنا أفضل من إعلان نهاية الإيديولوجيا مطلع خمسينات القرن العشرين نفسه، فالمنطق الكامن خلفهما يبقى واحدا: إما إعلان إفلاس إيديولوجيا متراجعة (الشيوعية) أمام منافستها الصاعدة (الرأسمالية)، وإما إعلان نهاية التاريخ الحامل للصراع الإيديولوجى برمته، ليحل محله تاريخ جديد، يحمل وصفا جديدا (العولمة) ولكنه يتمحور بشكل كامل حول الإيديولوجيا المنتصرة، فالعولمة الصاعدة هى أعلى مراحل الرأسمالية. وهكذا تصبح النهايتان وكأنهما طبعتان مختلفتان من كتاب واحد، وإذا كانت الطبعة الثانية من كل كتاب هى بالضرورة منقحة ومزيدة، فإن الإعلان الثانى لنهاية التاريخ لابد وأن يكون أكثر ثقة وشمولا من الإعلان الأول لنهاية الإيديولوجيا. فى هذا السياق يكمن فارقان أساسيان بين النهايتين: الأول منهما يتعلق بالطرف المخاطب بمقولة النهاية. ففى دعوى نهاية الإيديولوجيا لم يكن سوى العالم الإشتراكى، الطرف المباشر فى صراعات الحرب الباردة منتصف القرن الماضى. أما المخاطب بدعوى نهاية التاريخ فيتمثل فى جميع مناطق العالم خارج سياق الليبرالية الغربية نهاية القرن نفسه. إنها مرة أخرى الأفكار وقد ازدادت وضوحا، وصار أصحابها أكثر جرأة. والثانى منهما يتعلق بدور القائد المندفع إلى حديث النهاية. فبينما كان لأوروبا الدور الكبير فى إعلان نهاية الإيديولوجيا، تعبيرا عن قلقها إزاء التمدد السوفيتى داخل القارة العجوز، فقد كان للولايات المتحدة الدور الأبرز فى إعلان نهاية التاريخ، تعبيرا عن طموحها الشديد إلى زمن جديد مفعم بروح الانتصار فى الحرب الباردة. وقد زاد من وطأة هذا الطموح التكوين البراجماتى للعقل الأمريكى، ونمط إدراكه الاختزالى للتاريخ، إذ لا يعتبره مجالاً لتفاعل أدوار وإرادات الأمم والشعوب التى عاشت فيه، ولا لتراكم الموروثات الثقافية للدول والحضارات التى توالت عليه، بل مجرد صندوق قديم تتزاحم فيه أحقاد البشر وضغائن الزمن، التى يتعين تجاوزها كشرط للبدء فى تأسيس عالم جديد. ولأنه عقل ذرائعى، يقيس كل المواقف بذهنية الربح ومقاييس التفوق، فهو يسلك على أساس أن كل شيء يقبل التفاوض، وأن عقد الصفقات ممكن دوما حيال كل المشكلات، ومن ثم كان عاجزا عن الإدراك العميق لأهمية مفهوم (الكرامة القومية) لدى الأمم، أو القوى المعنوية لدى الشعوب، حيث القوة العسكرية قادرة على إنتاج تواريخ جديدة وصنع دول مختلفة، بنفس قدرتها على تحقيق الانتصارات الحربية، وهى رؤية زائفة ورطت الولاياتالمتحدة فى عديد من الأزمات يعد العراق آخرها، وكرست لديها الكثير من العقد التى تقع فيتنام فى قلبها. كما أثارت لدى الكثيرين شعورا بوطأة دورها، خصوصا فى المشرق العربى الذى توالت عمليات تفكيكه، وإعادة بنائه فى سياقات وقوالب شتي. فبدلا من كون الشرق الأدني، مجرد طريق الإمبراطورية البريطانية نحو الهند، أصبح هو (الشرق الأوسط) ذا الموقع المركزى فى إستراتيجية الاحتواء الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة.. نحن هنا أمام نهاية تاريخ فرعى لإقليم حضاري/ ثقافى يتمثل فى الشرق الأدنى القديم، الذى سقط مع انهيار الامبراطورية البريطانية، وبداية تاريخ فرعى جديد سياسى/ استراتيجى يتمثل فى الشرق الأوسط يتساوى تكوينه مع الصعود الأمريكى نحو موقع القطب العالمى الرأسمالى فى مواجهة القطب السوفيتى الشيوعى. وعندما انتهت الحرب الباردة بهزيمة الأخير أمامها، تصرفت الولاياتالمتحدة وكأن العالم العربى قد هزم بالضرورة أمام إسرائيل. وكما هُزمت الإيديولوجيا الشيوعية أمام الرأسمالية، فقد هُزمت، أو صار واجبا أن تهزم القومية العربية أمام العقيدة الصهيونية وكأن العروبة، بكل عمقها التاريخى والثقافى والديني، مجرد إيديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والتلاشي. وكما تداعى نمط الحياة السوفيتى/ الإشتراكى بكل مقوماته أمام النمط الأمريكى/ الفردى، يجب على العالم العربى أن يسلم قيادته لإسرائيل التى صارت فى موقع القطب الإقليمى المنفرد فى مواجهة التمزق الإستراتيجى العربي. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها أمام الغرب، لابد من تفكيك الكتلة العربية حول مصر ليتأكد انكشافها أمام إسرائيل، كى يمتد الشرق الأوسط حول إسرائيل فى القلب، حاملا وصف الكبير. وهكذا يمكن ترتيب بدايات ونهايات تاريخية، لتكوينات سياسية ومناطق حضارية، تعويلا على وقائع عسكرية وتحولات استراتيجية، فالهزيمة هذه تنهى مرحلة تاريخية تصير قديمة، والنصر ذاك يفتتح حقبة تاريخية تصبح جديدة وراهنة. ولعل النتيجة المؤكدة أمامنا اليوم، بعد عقدين من إعلان النهاية، هى أن التاريخ لم ينته بعد، وأن المظاهر العديدة التى بررت ذلك الإعلان لا تعدو أن تكون، من ناحية أولي، نتاجا طبيعيا لغرور العقل البراجماتي، والهيمنة شبه المطلقة للقوة العسكرية الأمريكية آنذاك. ومن ناحية ثانية، قراءة متسرعة، لمنطق عمل استثنائى غالبا ما يسود تلك الفترات المؤقتة أو المساحات الخطية العمياء الممتدة بين الحقب البنيوية فى تاريخ العالم، وهى فترات قصيرة العمر، مختلطة الملامح، على نحو يبرر كونها لحظات انتقال، وليست خطوط نهايات، لأنها مجرد نقاط على طريق تاريخى طويل، لابد أنه سوف يتجاوزها ولو بعد حين، باتجاه نقاط جديدة، عبر صراعات متجددة، تنفى أى معنى للحديث عن نهاية التاريخ، ويكفى تدليلا على ذلك، الصراع المتنامى الآن بين القوة الأمريكية ونظيرتها الروسية فى غير مكان، على نحو ما تجلى فى أوكرانيا بالأمس، وفى سوريا اليوم، وفى غيرهما غدا وبعد الغد. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم