أثار القرار الذى اتخذه الرئيس الجزائرى بوتفليقة فى الثالث عشر من سبتمبر الماضى، بإقالة رئيس المخابرات الجنرال محمد الأمين مدين الملقب بالجنرال «توفيق» الكثير من الجدل حول طبيعة المرحلة التى تعيشها الجزائر بعد نجاح الرئيس بوتفليقة فى الفوز بولاية جديدة على الرغم من حالته الصحية المتدهورة. وما صاحبها من تصاعد الصراع بين أجنحة النخبة الحاكمة وفشل المعارضة فى ظل انقساماتها المختلفة فى فرض أجندتها على المشهد السياسى, فضلا عن التهديدات الامنية المتصاعدة التى تواجهها الدولة الجزائرية من جوارها المباشر وخاصة من ليبيا وتونس ومالى عبر تزايد أدوار التنظيمات الارهابية والجماعات المسلحة والجيوش المناطقية والدول الفاشلة التى تشكل أحزمة لعدم الاستقرار. فقد تولى الجنرال توفيق منصبه كقائد لجهاز المخابرات (الاستعلامات والأمن) منذ عام 1990، وخلال هذه السنوات عمل على ترسيخ دور بارز للمخابرات فى كل مفاصل الدولة، وخاصة فى اختيار رئيس الجمهورية أو الإطاحة به، فلقب الجنرال توفيق ب «صانع الرؤساء» حيث عاصر خمس رؤساء جمهورية، ليمتد نفوذه إلى السياسة والإعلام والقضاء، وكان لجهاز المخابرات بقيادته بطولات واضحة فى مواجهة الجماعات الإرهابية خلال العشرية السوداء فى التسعينيات، وهو الحاكم الفعلى للدولة الجزائرية، وخاصة بعد تدهور صحة الرئيس بوتفليقة. اتجاهان رئيسيان وقد حمل قرار إقالة الجنرال توفيق العديد من التفسيرات، التى تركزت فى اتجاهين رئيسيين ارتبطا بتوضيح دلالات هذا القرار على المستقبل السياسى للبلاد، رأى الاتجاه الأول، أن هذا القرار جزء من الإستراتيجية التى حاول الرئيس بوتفليقة تحقيقها منذ سنوات حكمه الأولى للجزائر ونجح فى البدء فى تطبيقها خلال ولايته الثانية بدءا من عام 2004، وتقوم هذه الإستراتيجية على تحييد دور الأجهزة الأمنية خاصة جهاز المخابرات والمؤسسة العسكرية بعيدا عن الحياة السياسية. ويمثل القرار الأخير بإقاله الجنرال توفيق المرحلة الأخيرة من هذه الإستراتيجية حيث يستعد بوتفليقة للخروج من الحياة السياسية ويقوم بالإعداد لهذه النهاية، بإتمام ما حاول انجازه خلال سنوات حكمه للجزائر، وتحقيق «مدنية الدولة»، ولا يستبعد بعض أصحاب هذا الاتجاه حدوث تفاهمات بين أجنحة السلطة المختلفة حول هذا القرار، ويصل بعضهم إلى حد الإشارة إلى احتمالات مشاركة الجنرال توفيق فى اختيار من يخلفه فى جهاز المخابرات. أما الاتجاه الثانى، فينظر إلى قرار بوتفليقة الأخير كحلقة من حلقات الصراع داخل أجنحة السلطة وخاصة أنه جاء بعد ساعات قليلة من نفى رسمى لوجود خلاف بين الرئيس بوتفليقة ورئيس المخابرات الجنرال توفيق، حيث يعم هذا الصراع الجزائر منذ عودة الرئيس من رحلته العلاجية فى أبريل 2013 بعد تعرضه لجلطة دماغية، وتفاقم هذا الصراع على أثر إعادة انتخاب الرئيس بوتفليقة لولاية رابعة، حيث تجسد الانقسام داخل النخبة الحاكمة فى إطار الحرب الباردة المشتعلة بين جماعة الرئيس بوتفليقة من جهة، والجنرال توفيق من جهة أخرى. وكان الأمين العام لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية عمار سعدانى فى حوار أجراه فى فبراير 2014 مع إحدى المواقع الإخبارية الجزائرية؛ قد هاجم رئيس جهاز المخابرات الجنرال توفيق وطالبه بالاستقالة على أثر رفض جهاز المخابرات ترشح بوتفليقة لولاية رابعة، وتشجيع الجنرال توفيق تطبيق المادة 88 من الدستور الجزائرى التى تنص على إقالة رئيس البلاد فى حالة العجز، فضلا عن فشله فى حماية بوتفليقة من محاولة الاغتيال فى باتنة فى سبتمبر 2007. كذلك اتهمه بالتدخل فى كل مفاصل الدولة، وقيادة الانقلابات داخل الأحزاب السياسية وتلفيق قضايا فساد ضد أشخاص مقربين من الرئيس بوتفليقة فى إشارة إلى فضيحة فساد شركة سوناطراك التى تورط فيها شكيب خليل وزير النفط السابق. تقليص آظافر وفى المقابل اتخذ بوتفليقة قرارا فى أكتوبر2014 للحد من تواجد المخابرات فى المؤسسات العامة حيث اعتبر هذا القرار محاولة للحد من دور المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات وتدخلهما فى الشئون السياسة قبل خروجه من السلطة، وكان بوتفليقة فى سبتمبر 2013 قد أصدر قرارا بحل المديرية المركزية لأمن الجيش بصيغتها السابقة تمهيداً لإلحاقها بقيادة أركان الجيش بدل المخابرات. وأنهى مهام كانت موكلة إليها كما عزل عددا من كبار قادتها. وقد أخذت هذه التحركات على ضوء الحادثة الإرهابية التى تعرضت لها منشآت النفط الجزائرية فى بداية عام 2013، كما قامت الرئاسة بحملة اعتقالات فى جهاز المخابرات، بالإضافة إلى عزل مجموعة من الضباط الكبار فى فروع تابعة لجهاز المخابرات العسكرية ففى اواخر شهر يوليو 2015 انتشرت شائعات غير مؤكدة حول حدوث محاولة للتسلل إلى القصر الرئاسي، حيث تم على إثر هذه الحادثة إقالة ثلاثة مسئولين كبار، هم قائد الحرس الجمهوري، وقائد الإدارة العامة للأمن الرئاسي، وقائد إدارة مكافحة التجسس. كما قرر بوتفليقة تجريد المخابرات من مهمة تأمين الحماية للرئاسة، وإسناد هذه المهمة للحرس الوطني. وكان الإجراء الأخطر هو الإعلان عن حل وحدة العمليات الخاصة، التى تمثل القوة الضاربة لجهاز المخابرات فى حربه على الجماعات المسلحة. وقد أعلن مدير ديوان رئاسة الجمهورية أحمد أويحيى فى أغسطس الماضى إلقاء القبض على عبدالقادر آيت واعرابى المعروف بحسان، وهو المسئول السابق لمركز مكافحة الإرهاب التابع للمخابرات، وأحد المقربين للجنرال توفيق، حيث يحاكم أمام المحكمة العسكرية فى اتهامات تتعلق بتشكيل جماعة مسلحة وإعطاء بيانات غير صحيحة عن كمية السلاح الموجودة لديه. وأدت قرارات بوتفليقة إلى أن تصبح مؤسسة الرئاسة لها اليد العليا فى البلاد بعد تراجع النفوذ الذى اكتسبه جهاز المخابرات خلال التسعينيات فى ظل الحرب على الإرهاب، والذى أهل الجنرال توفيق ليلعب دورا فى اختيار القيادة السياسية للبلاد. سيناريوهات ما بعد بوتفليقة على الرغم من الاختلاف بين اتجاهى تفسير ملابسات وظروف اتخاذ الرئيس بوتفليقة قرار إقالة رئيس المخابرات، إلا أنها تتفق حول محاولات الرئيس بوتفليقة ومجموعته الرئاسية الإعداد ل «خلافته»، وعدم ترك ترتيبات الحكم بعد وفاته أو انتهاء ولايته أو حتى فى حالة عقد انتخابات مبكرة، تحت سلطة جهاز المخابرات لاختيار الرئيس القادم (كما كان معهودا فى السابق منذ عهد الرئيس الشاذلى بن جديد) وخاصة فى ظل الجهود التى بذلها خلال سنوات حكمه لتحييد المؤسسات الأمنية فى البلاد، حيث مثلت هذه الجهود نوعا من التمرد على ارث ممتد من سيطرة المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة فى البلاد يعود إلى تاريخ استقلال الجزائر عام 1962. كذلك يعد هذا القرار محاولة لتجنيب المقربين والموالين لبوتفليقة وأفراد عائلته وخاصة أخوه (السعيد بوتفليقة) من الدخول فى دائرة تصفية الحسابات عقب اختفائه من المشهد السياسى، وخاصة فى ظل تنامى الشائعات حول احتمالات توريث الحكم وتورط شقيق الرئيس فى بعض قضايا الفساد واستغلاله لقرابته بالرئيس فى تحقيق مكاسب اقتصادية، هذا إلى جانب علاقات الولاء التى تجمع بينه وبين رئيس المخابرات الجديد عثمان طرطاق. وفى هذا الإطار، تبرز سيناريوهات عدة حول مستقبل الحكم فى الجزائر، أحد هذه السيناريوهات يتوقع استمرار سلسلة التغييرات التى تولاها بوتفليقة منذ نجاحه فى انتخابات أبريل 2014، للتأكيد على قدرته على إدارة البلاد، حيث مست هذه التغييرات الحكومة، والولاة ومديرى كبرى المؤسسات الاقتصادية والمالية وكذلك الأجهزة الأمنية وأدت إلى إضعاف جهاز المخابرات بتجريده من صلاحياته المعهودة سواء لصالح مؤسسة الرئاسة أو المؤسسة العسكرية. كذلك تقديم الرئيس لمسودة تعديل الدستور خلال أغسطس الماضى، وهى التعديلات التى وعد بها على اثر الاحتجاجات التى أعقبت موجات الربيع العربى، والتى تضمنت عودة الفترات الرئاسية إلى فترة قابلة للتجديد مرة واحدة، وإلغاء التعديلات التى أجراها فى عام 2008 والتى تسمح له بفترات رئاسية غير محدودة. وقد تصل هذه التغيرات إلى مرحلة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لإنقاذ البلاد من الفوضى المحتملة فى حالة شغور منصب الرئيس. حيث تتمحور الرهانات على شخص الرئيس القادم بين عدد من الشخصيات يرجح الكثيرون من قدرتهم على شغل منصب رئيس الجمهورية فى مرحلة «ما بعد بوتفليقة»، ومن هذه الشخصيات، أحمد أويحيى رئيس ديوان رئاسة الجمهورية والأمين العام بالنيابة لحزب التجمع الوطنى الديمقراطى، الذى يتمتع بنفوذ قوي، وعلاقات مع كل أجنحة النظام وخاصة جبهة التحرير الوطنى، وتربطه علاقات بكافة الأطراف السياسية خاصة حركة مجتمع السلم، كذلك الوزير الأول عبد المالك سلال، وهما من المسئولين الذين يسيرون على خطى بوتفليقة ومقربين إليه. هذا إلى جانب على بن فليس رئيس الوزراء الأسبق ومنافس بوتفليقة فى الاستحقاقات الرئاسية لعامى 2004 و2014 والذى يتمتع بعلاقات طيبة بكافة القوى الفاعلة. وهناك سيناريو آخر يرتبط بالمؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من إعلانها الدائم عن ابتعادها عن المجال السياسى، إلا أنها ستظل تراقب الصراع بين الأجنحة السياسية وجهاز المخابرات، وفى حالة استشعارها لتهديدات بالتحول نحو الفوضى ستتدخل لتعيد سيطرتها على كامل مفاصل البلاد وتفرض رؤيتها للتغير وللنظام السياسى القادم، وتقوم بتشكيل حكومة توافقية من كافة القوى السياسية يعقبها إجراء انتخابات رئاسية. إلا أن هذا السيناريو قد يحمل فى طياته تهديدات خطيرة للدولة الجزائرية التى تحيط بها المؤامرات والأطماع الخارجية خاصة من المستعمر السابق فرنسا وكذلك من الولاياتالمتحدةالأمريكية. تساؤلات مفتوحة ويبقى تحديد ما ستؤول إليه الأوضاع فى الجزائر مرهون بأهداف بوتفليقه أو النخبة الحاكمة المحيطة به من وراء القرارات المتلاحقة التى تتبناها للحد من نفوذ جهاز المخابرات، وهل تهدف هذه القرارات لتحقيق «مدنية الدولة» أم تهدف لتركيز السلطة فى مؤسسة الرئاسة، وهل تهدف هذه القرارات لوضع ترتيبات لتحقيق انتقال سلمى للسلطة فى حالة غياب بوتفليقة، أم أن الأخير يسعى لتحقيق مصالح شخصية تتمثل فى حماية المقربين له، مع ضمان استمرار حضورهم داخل السلطة بالقضاء على المناوئين له فى أسرع وقت ممكن.