يشكل شق جيد من العلماء والمهنيين المصريين الذين يعملون خارج مصر، بحكم ما تراكم لديهم من معارف وخبرة فى مؤسسات علمية وتنفيذية متقدمة؛ ثروة بشرية عظيمة القيمة، لكنها غير مستفاد منها أو موظفة بشكل فعال من قبل مؤسسات التعليم العالى والبحث العلمى والمؤسسات الإنتاجية والتنفيذية المصرية. وهناك ضمن هذه الفئة من حقق انجازات علمية وبحثية ومهنية عالمية، ومن تراكمت لديه خبرات متميزة، ويسعى ويتوق إلى التواصل مع المؤسسات المصرية ذات العلاقة. وبعضهم الآخر له خبرات مهنية رفيعة فى مجالات عديدة فى البلاد التى استوطنوا فيها. ومن هؤلاء من يعمل فى مؤسسات دولية النشاط ولديه خبرات فريدة فى هذا الخصوص. وكثير من هذه الطيور المغتربة ذات الرصيد العلمى والمهنى المتميز يجيء فى زيارات متقطعة وغير منتظمة لمصر، وتقتصر الاستفادة منهم على دعوة ذوى المكانة والشهرة لزيارة بعض المؤسسات العلمية أو الجمعيات المهنية المصرية ذات العلاقة بتخصصهم لإلقاء محاضرة أو عقد لقاء؛ هذا إن تصادف وشعر بعض زملائهم القدامى بأهمية هذا. وغالبا لا تتمخض عن هذه الصلات غير المنتظمة روابط أعمق أو أكثر استقرارا بين هؤلاء العلماء والمهنيين المغتربين والمؤسسات المصرية إلا فيما ندر. تهدف المبادرة المقترحة هنا إلى تنمية وتكثيف الروابط مع العلماء والمهنيين المصريين المغتربين فى الخارج، وفق خطة وسياسة نظامية تمكن من الاستفادة منهم فى المجالات التى تحتاجها مصر خلال المرحلة القادمة، وهى كثيرة. ولدى مصر الآلاف من العلماء والباحثين والكوادر المهنية المغتربة فى شتى بقاع العالم الذين اكتسبوا معارف وخبرات رفيعة وحققوا إنجازات متميزة. وهذه المعارف والخبرات تمثل رأسمال معرفيا هائلا يحمله أبناؤها المغتربون، لا تستفيد منه مصر بأى صورة تذكر. وتحتاج مصر فى المرحلة القادمة للاستفادة من رصيد المعرفة والخبرة المشار إليها إلى بناء روابط وجسور نظامية وفعالة مع هذه العناصر. وهناك تجارب وخبرات عالمية عديدة لبلدان الاقتصادات الصاعدة مثل كوريا الجنوبية والصين والهند وعدد من دول شرق آسيا، وكذلك إسرائيل، فى كيفية بناء روابط نظامية فعالة مع علمائها وكوادرها المهنية المغتربة، تتيح الاستفادة من رصيد معارفهم وخبراتهم، وكذلك روابطهم المؤسسية والعلمية لدعم المؤسسات الأكاديمية والعلمية والمؤسسات الوطنية الأخري. وقد تمكنت هذه الدول من خلال تنمية هذه الروابط وحسن إدارتها وتحفيز المؤسسات على استخدامها وتحقيق انتظامها واستمراريتها وحسن توجيهها وتوظيفها؛ من إحداث نقلة نوعية فى أداء مؤسساتها الأكاديمية والبحثية، ودعم الأداء الاقتصادى لقطاعات مهمة أخرى لديها. وبالقدر الذى كانت هذه الروابط محكومة بمخطط واستراتيجية مقصودة (وليست عفوية) ومرتبطة باحتياجات محددة ومدعومة سياسيا وماليا، بقدر ما تحقق لها النجاح والفاعلية. وتسعى المبادرة المقترحة إلى أن تشكل الروابط مع العلماء والمهنيين المصريين فى الخارج رافعة أساسية للنهوض بأداء وإسهام مؤسسات التعليم العالى والبحث العلمى وكذلك قطاعات ومؤسسات إنتاجية وخدمية مختارة ومستهدفة فى مصر، يحتاج إحداث نقلة كبرى فى أوضاعها وأدائها إلى خبرات عالمية. ويتطلب الأمر تحديد القطاعات والمجالات الحيوية التى تحتاج إلى خبرة العلماء والمهنيين المصريين المغتربين، وإلى الآليات والشكل الذى تأخذه هذه الروابط. ومن هذه الروابط ما سيتطلب تكوينات مؤسسية فى صورة تجمع تخصصى أو علمى أو مهنى أو جهوى (البلد المقيمون فيه)، وتتخذ نواتجه صورة اجتماعات مشتركة مع أطراف محلية أو مشروعات أو تعاقدات أو برامج زيارات أو خدمات مهنية أو انتدابات، وغير ذلك. كما سيحتاج الأمر إلى توفير آليات لتحفيز ودفع المؤسسات الأكاديمية والبحثية وكذلك الإنتاجية المصرية للانفتاح والاستفادة من خبرات هذه العناصر. ومن الطبيعى أن تواجه مبادرة قومية متعددة القطاعات والعناصر والتخصصات مشكلات وعقبات عديدة. ومن هذه المشكلات مثلا كيفية تنسيق أعمال المبادرة بين الأطراف العديدة المرتبطة بها وكيفية معالجة المخاطر والمشكلات الناجمة عن تعامل هذه العناصر مع المؤسسات الوطنية والكوادر العلمية فيها. ومن الضرورى توقع هذه المخاطر سلفا ومنها المشكلات البيروقراطية والثقافة السائدة وعوامل المقاومة فى الأجهزة والمؤسسات المصرية لوضع حلول استباقية لها. سيحتاج الأمر أيضا إلى تشكيل وتكوين معايير وآليات لحصر وتكوين قاعدة بيانات من هذه العناصر المغتربة، وتصنيفها وتحليلها. ويتطلب نجاح المبادرة المقترحة أن تتضافر جهود وزارات عديدة أهمها التعليم العالى والبحث العلمي، والهجرة والمصريين فى الخارج (الجديدة)، والخارجية، والوزارات والأجهزة الإنتاجية، مع مؤسسات مثل النقابات والجمعيات المهنية والعلمية، وكذلك المكاتب الثقافية المصرية فى الخارج، وتجمعات وروابط المصريين المغتربين خاصة فى البلاد التى تضم كتلة حرجة من العلماء والمهنيين. كذلك سيرتبط نجاح المبادرة بوجود إرادة سياسية قوية لدعمها وإدارتها على النحو الذى يحقق إضافة ملموسة إلى موارد الخبرة التى تتضافر مع الخبرات الوطنية وتتكامل معها. وستتيح المبادرة للجامعات ومؤسسات البحث العلمى المصرية فى الجانب المتعلق بالروابط مع العلماء المغتربين، أن تنمى علاقات واتفاقات تعاون مع الجامعات ومراكز البحث المتقدمة فى العالم التى تعمل فيها أو ترتبط بها هذه العناصر العلمية المغتربة، لتقديم برامج تعليمية مشتركة، ولتبادل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والباحثين، والقيام بمشروعات بحوث ذات أهمية ونشر علمى مشترك فى دوريات عالمية رفيعة المستوي، وغير ذلك من أوجه التعاون. وستفيد هذه الروابط ليس فقط فى المجالات المحددة للتعاون وإنما ستمثل آلية لنقل الخبرات والاقتباس والتعلم المؤسسى للجامعات ومراكز البحث العلمى المصرية. ومن المهم أن تتوافر المرونة فى المؤسسات المصرية لربط هذه العناصر بها بما يناسبها وأن يفرد لهذه الروابط مع العلماء المصريين المغتربين والمؤسسات الأجنبية التى يرتبطون بها مخصصات مناسبة تمثل الدعم الحكومى الذى ينبغى أن يمول من مصادر غير تقليدية. كما أنه من الضرورى أن تتوفر محفزات ومشجعات مثل تضمين هذه الروابط والإنجازات المتحققة منها فى ترتيب البرامج والمؤسسات الأكاديمية والبحثية على المستوى الوطني، وفى استحقاقها لمزيد من الدعم للمشروعات المشتركة مع هؤلاء العلماء المغتربين. ويكمل هذا أن تتم برامج واتفاقيات التعاون بين الجامعات ومراكز البحوث المصرية وبين نظيراتها الخارجية التى تقع فى بلدان تسعى مصر لبناء علاقات إستراتيجية معها، من خلال الدور الذى يقوم به هؤلاء العلماء المغتربون. من الواضح أن مبادرة كهذه تتطلب ابتداء تحديد الاحتياجات الوطنية ووضع مخطط للنهوض بالقطاعات والمؤسسات المرتبطة بها، بحيث يستند إليها تحديد الدور الذى تقوم به العناصر المغتربة بالتكامل مع المؤسسات والعناصر والكوادر المحلية. وعمل كهذا يتطلب إرادة ودعما سياسيا قويا وعلى أعلى مستوي، وتعاون وتضافر جهات عديدة؛ حيث لا يمكن أن ينجح إذا تحوصل فى وزارة واحدة أو إذا لم تتضافر جهود الأطراف المختلفة وتتعاون لتحقيقه. ويمثل العائد العالى المتحقق من الأخذ بهذه المبادرة، ما يستأهل أخذها بالجدية اللازمة وتوفير الظروف والمقومات المهيئة لنجاحها. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور