توثقت العلاقة بين الموسيقار بليغ حمدى والشاعرين الكبيرين محمد حمزة وعبد الرحيم منصور لتشتد المنافسة بينهما من أجل إبراز الكلمة الوطنية التى تجسد الإرادة المصرية وقدرة الشعب المصرى على تخطى الصعاب والمحن بعد نكسة الخامس من يونيو عام 1967 واستمرت المنافسة بين الشاعرين وظهرت بشكل واضح خلال حرب الاستنزاف خصوصاً بعد أن خرج الشعب المصرى فى الميادين والمدن والقرى والنجوع معلناً رفضه للهزيمة ومطالبا بإسترداد الكرامة المصرية وكانت النافذة التى يطل منها بليغ حمدى والشاعران حمزة ومنصور على الشعب المصرى صوت العندليب عبد الحليم حافظ والفنانة القديرة شادية وكانت باكورة هذا الإبداع الأغنية الوطنية الرائعة التى كتبها حمزة «فدائى .. دم العروبة فدائى .. أموت أعيش .. مايهمنيش .. كفاية أشوف علم العروبة باقى»، انطلقت هذه الأغنية ليجتمع عليها الشعب العربى والتليفزيونات والإذاعات العربية وحققت نجاحاً كبيراً منقطع النظير وأشاد النقاد بأداء عبد الحليم حافظ هذه الأغنية، ليقابلها على الجانب الأخر رائعة عبد الرحيم منصور التى غنتها شادية ولحن بليغ أيضاً «يا ام الصابرين .. تهنا والتقينا.. يا أم الصابرين ع الألم عدينا .. يا مصر يا أمنا يا أرضنا يا عشقنا»، واستمرت هذه المنافسة بين الشاعرين وبليغ لتصل إلى ذروتها بعد أن كتب حمزه رائعته التى تغنى عبد الحليم حافظ بعد القرار الذى أصدره السادات فى السادس من أكتوبر1973 بعبور قناة السويس وتحقيق النصر «عاش اللى قال.. الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب.. عاشوا العرب اللى أصبحوا.. فى ليلة ملايين تحارب».
لنأتى لحكاية «ماعداش على مصر يا حبيتى يا مصر» التى جاءت فكرتها بالاتفاق بين حمزة وبليغ قبل عرضها على الفنانة شادية التى كانت تحرص دائماً على سماع الفكرة قبل الدخول فى تأليفها أو تلحينها وان كانت لديها الثقة الكاملة فى كل ما يلحنه بليغ ويبدعه محمد حمزة ولم تتأخر فى الموافقة على أن تبدأ فى حفظ الأغنية وتسجيلها، وجاءت هذه الفكرة التى يرد فيها المؤلف على كل الذين لا يعرفون مكانة مصر وقوة إرادتها وجيشها العظيم وشعبها الذى صنع أول حضارة عرفتها الإنسانية خاصة الذين لم يزوروا مصر من الخارج ويتعرفوا على مكانتها وقدرها، حيث تم تأليف الأغنية وتلحينها بين مكتب بليغ فى شارع بهجت على بالزمالك وشقته فى ميدان سفنكس وفندق «سان جيوفانى» على البحر بالأسكندرية حيث يتنقل الاثنان معاً بين هذه الأماكن على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع إلى أن تم الانتهاء من الأغنية خاصة عندما سمع بليغ من حمزة المذهب الذى يقول: «بلادى .. أحلى البلاد يا بلادى .. فداكى أنا والولاد يا بلادى» إلى أن يصل إلى الجملة التى تقول: «لا شاف الأمل فى عيون الولاد .. وصبايا البلد .. ولا شاف العمل .. سهران فى البلاد .. والعزم اتولد»، ويشتد إعجاب بليغ أكثر بالمقطع الذى يقول: «ولا شاف النيل .. فى أحضان الشجر .. ولا سمع مواويل .. فى ليالى القمر .. أصله ماعداش على مصر»، ليترك حمزة بليغ فى الفندق ويعود إلى القاهرة، ويعيش بليغ مع هذه الكلمات حتى نهاية الكوبليه الذى يقول: «ماشافش الرجال السمر الشداد .. فوق كل المحن .. ولا شاف العناد ..فى عيون الولاد.. وتحدى الزمن» وفى آخر الأسبوع كان بليغ انتهى من تلحين الأغنية كاملة ومراجعة اللحن ليتصل من الفندق بالفنانة شادية ليعود ليلاً إلى القاهرة حسب الاتفاق معها على موعد لسماع اللحن، وفى الموعد المحدد يذهب بليغ لمقابلة شادية فى شقتها المطلة على حديقة الحيوان بالجيزة ومعه العود وكلمات حمزة، وبعد ترحيب شادية به تناول فنجان الشاى وأمسك بالعود ليغنى بصوته مذهب الأغنية الذى سمعته لأول مرة واشتد إعجابها باللحن والكلمات وظلت تغنى مع بليغ مقاطع الأغنية الثلاثة فى سهرة امتدت إلى الحادية عشرة مساءً ثم عادت لتغنى معه مرة أخرى فى نهاية السهرة اتصل بليغ بمحمد حمزة وأعطى التليفون لشادية التى أثنت على الكلمات وطلبت من بليغ الاتصال برئيس فرقتها الموسيقية الموسيقار عبد العظيم حليم استعدادا لبدء البروفات فى معهد الموسيقى العربية وبفرقتها التى تضم أكثر من عشرين عازفا بالإضافة إلى الكورال، واستمرت البروفات لأكثر من عشرة أيام وبلغ إعجاب الفرقة مداه بصوت شادية وترديد الكورال للحن معها، ليصل حمزة بعد البروفة الثانية فتشكره شادية على ما كتبه وتطلب من بليغ الاتصال بالاستوديو46 بمبنى التليفزيون وتسجيل الأغنية مع وجود مهندس الصوت الذى قام بتسجيل كل أغانيها، وبعد انتهاء التسجيل يتم الاتفاق بينها وبين بليغ والإذاعة على أن تغنيها فى حفلات الإذاعة والتليفزيون التى تذاع على الهواء وتحقق نجاحاً مدوياً وتنقلها التليفزيونات والإذاعات العربية لتصبح واحدة من أجمل الأغنيات التى تشدو بها شادية فى هذه المناسبة .......................... ومن الحكايات التى لا أنساها وتظل راسخة فى ذاكرتى فى كل مناسبة وطنية ما قاله كثير من النقاد عن هذه الأغنية بأن الثلاثى شادية وبليغ وحمزة عندما يبدعون عملاً غنائياً فى مناسبة وطنية خاصة أو حدث سياسى أو اجتماعى معين يكتشفون فيما بعد أن هذا العمل يصلح لكثير من المناسبات الوطنية أو الأحداث السياسية القادمة وهذا ما تأكد لى عند قيام ثورتى 25يناير و30يونيو وذهبت إلى ميدان التحرير الذى اكتظ بالمواطنين وامتلأ من جميع جوانبه حيث لا مكان لقدم وسمعت الشباب وهم يرددون هذه الأغنية فوق المنصات التى شيدوها لهذا الغرض ويرددون بشكل واضح عبارات «أغلى البلاد يا بلادى فداكى أنا والولاد يا بلادى ماشافش الرجال السمر الشداد فوق كل المحن .. إلى أخر الأغنية» يومها اتصلت بزميلى الشاعر محمد حمزة وهنأته على ابداع هذه الأغنية التى تخاطب الثورتين العظيمتين رغم أن إنتاجها تم منذ أكثر من أربعين عاماً (1970) وشكرته على انه شاعر مبدع قادر على إنتاج أغنيات وطنية لها صفة الاستمرار .......................... أما النجاح الاخر الذى أضاف للأغنية فقد أبدعته المخرجة الناجحة سميحة الغنيمى حين اتفقت مع الفنانة شادية على تصوير هذه الأغنية واخراجها بشكل جديد وتصويرها فى جميع الأماكن التى ذكرها المؤلف خاصة النيل الخالد وليل القاهرة والحضارة المصرية وهو ما نقلته القنوات التليفزيونية والشاشات العربية ولازالت تقدمها حتى الآن.. وفى النهاية فقد حرصت على تفاصيل حكاية هذه الأغنية بمناسبة احتفالنا هذا الشهر بذكرى الموسيقار بليغ حمدى فقد رحل عن عالمنا يوم 12سبتمبر1993 تاركاً لنا هذا التراث الضخم والثرى من الأغنيات الوطنية والعاطفية الذى سيعيش فى وجداننا وتتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.