تحليل إخباري: اسماء الحسينى حينما تتصارع الأفيال فإن صراعها يكون مدمرا, وهذا مايحدث في السودان الآن, وإذا كان صراع الأفيال تدفع ثمنه الأعشاب كما يقول المثل, فإن الشعب السوداني الذي عاني ويلات الحرب الأهلية المدمرة طوال أكثر من نصف قرن من الزمان دفع ولايزال. يدفع الثمن غاليا لهذا الصراع من حياة أبنائه ودمائهم في دولتي السودان شمالا وجنوبا, و جوعا ومرضا وتشردا ونزوحا ولجوئا, ومن كرامة وطنيهما وسمعتهما وإمكانياتهما المدمرة. وأي مراقب للوضع في السودان يدرك أن المعارك والقصف المتبادل بين دولتي السودان في الأيام القليلة الماضية, والذي إنتهي بإحتلال دولة الجنوب لمنطقة هجليج البترولية وقصف الخرطوم لولاية الوحدة وماسبق ذلك وماتلاه, لم يكن أمرا مفاجئا, بل هو نتيجة طبيعية جدا للتصعيد المستمر بين الدولتين منذ إستقلال دولة الجنوب في يوليو الماضي وماقبله, حيث إن إنفصال الجنوب لم يكن بالسلاسة التي رتب لها المجتمع الدولي, أوكما بدا ظاهريا في الإحتفالات التي أقيمت في جوبا من أجله, والتي حضرها الرئيس السوداني عمر البشير مباركا ومهنئا, فقد كان إنفصالا مفخخا بالقضايا العالقة التي يحملها معه, و التي كان يجب حلها خلال الست سنوات الإنتقالية, وزادت الأمور تعقيدا بالمشكلات التي تفاقمت في الدولتين كل علي حده بعد الإنفصال, وبإنعدام ثقة النظامين الحاكمين ببعضهما البعض, والإجهاض المتواصل لكل إتفاق يصلان إليه. وقد اعتاد الطرفان قبيل كل تفاوض بينهما أن يصعدا الموقف, متبعين في ذلك مايعرف بسياسة حافة الهاوية, من أجل أن يعظم كل طرف مكاسبه التفاوضية, ويمارس أقسي ضغوط ممكنة علي الطرف الآخر, ويرسل أقوي الرسائل لمن يعنيهم الأمر من القوي الدولية والإقليمية, لكن في حقيقة الأمر أن مايجري الآن من تصعيد غير مسبوق, نقل المناوشات علي الحدود والحرب بالوكالة بين البلدين إلي مواجهات مباشرة عنيفة تستخدم فيها كل الأسلحة برا وجوا هو أمر خطير للغاية, وينذر بإنزلاق البلدين إلي حرب شاملة, ولن يكون هذا الأمر رهنا بموافقة القياديتين الحاكمتين فقط وقد تشعله أقل شرارة. وتجدد الصراع يعيد الناس في دولتي السودان إلي نقطة الصفر مجددا بعدما ظنوا أنهم ضحوا بوحدة بلدهم من أجل السلام, ولكن الآن تبين لهم خطأ هذه المعادلة التي روج لها النظامان الحاكمان في الدولتين, حيث إن السودان يحتاج اليوم حلا أكثر شمولية, لأن أي صيغة أو صفقة للسلام بين دولتي السودان لن تنجح بدون التوصل إلي حلول لمشكلات كل من دولتي الشمال والجنوب علي حدة, فمشكلات الجنوب مع الشمال لا تتوقف عند الحدود التي لم يتم ترسيمها, والبترول الذي لم يتم الإتفاق علي رسوم عبوره ونقله من الجنوب للشمال ومنطقة أبيي المتنازع عليها والمواطنة وغيرها, وإنما تتعداها إلي مايحدث في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور, والتي تشتعل فيها الحرب حاليا, وتتهم الخرطومجوبا بدعم المتمردين فيها, مثلما تتهم جوباالخرطوم بدعم المتمردين ضدها في الجنوب. وتعاني القيادتان الحاكمتان الآن في كل من جوباوالخرطوم واقعا مأزوما, وأوضاعا غاية في السوء علي جميع الأصعدة الأمنية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية, وكثير من مواطني البلدين يرون أن القيادتين لا هم لهما إلا الحفاظ علي كراسي حكمهم بغض النظر عمن يدفع ثمن سياساتهما وأخطائهما, وربما تحاول كل من القيادتين الآن توحيد جبهتها الداخلية وإلهائها عن أزمات الداخل, عبر إستنفار الروح الوطنية والتعبئة وإستثارة الكرامة والحمية لدي مواطنيها الذين أرهقتهم الحروب وأذلتهم السياسات الظالمة, والغالبية العظمي من هؤلاء المواطنين تدرك اليوم أكثر من أي وقت مدي عبثية هذه الحروب وعدم جدواها, وإن إنساقت أو خدعت قطاعات منها لبعض الوقت بشعارات الحرب وطبولها, التي تقرعها الآن في الدولتين قيادات وأجهزة وجماعات. ومن المؤكد أن ماحدث في هجليج والمناطق الحدودية من إحتلال وقصف وضرب يعيد لذاكرة السودانيين علي ضفتي الحدود التي لم يتم ترسيمها بعد ذكريات مؤلمة عن حرب طويلة مأساوية, حاول كثيرون تناسيها بعد توقيع إتفاق السلام بين البلدين في عام2005, والبحث عن النقاط المضيئة في وجدانهم المشترك, لكن أفيال الحرب في دولتي السودان تأبي إلا أن تدهس كل مشترك بين الشعبين,وأن تلحق الضرر والأذي بحاضرهما ومستقبلهما المشترك, المرتبط بحكم مقتضيات مصالحهما المشتركة أيضا. وقدلا يظل الشعب السوداني هو ضحية الصراع إلي الأبد, وإن لم يتدارك النظامان الحاكمان في الدولتين الأمر قد يكونان بدورهما ضحية لهذا الصراع, بعد أن وصلا بالبلدين إلي حافة الهاوية, وربما يلجأ المجتمع الدولي إلي مزيد من الضغوط علي الجانبين في الفترة المقبلة, بعد أن ثبت فشل مراهنته علي إعطاء فرصة للطرفين لإثبات حسن النوايا.