أثارت أنباء اكتشاف حقول للغاز الطبيعي بكميات هائلة علي سواحل البحر الأبيض اهتماما كبيرا، وموجة من التفاؤل لدي معظم المصريين، وقد أشرت في مقالي السابق في هذه الجريدة (الاقتصاد هل هو العلم الكئيب؟) إلي أهمية التفرقة في التعامل الاقتصادي بين »الثروة« و »الدخل«، وأنه ينبغي حماية قيمة الثروة والاحتفاظ بها للأجيال المقبلة، وذلك باستخدام عائداتها في الاستثمار فقط، وليس لأغراض الاستهلاك. وقد طلب مني العديد من الأصدقاء ضرورة متابعة الكتابة في هذا الموضوع، وما قد يتطلبه ذلك من تغير في أساليب السياسة المالية للدولة، وأود أن أتناول موضوع الغاز من خلال التركيز علي جانبين، وهما ضرورة توافر الطاقة من ناحية، وزيادة حجم الادخار، وبالتالي الاستثمار المحلي من ناحية أخري، ومن خلال هذين العنصرين يمكن أن نبني أسس التقدم الاقتصادي، وهذا ما حدث بالفعل في تاريخ البشرية منذ ظهور الحضارات الكبري، وبطبيعة الأحوال، فإن التقدم وبناء الحضارات يتوقف علي عوامل متعددة سواء في نظم الحكم، أو القيم السائدة، أو الظروف البيئية.. والقائمة طويلة، ويظل مع ذلك أن هناك عنصرين في غاية الأهمية للتقدم، وهما الادخار والطاقة، ولا غني عنهما لتحقيق مسيرة التقدم، وقد صادف أن اكتشاف الغاز في ظروف مصر الحالية يستطيع أن يلعب دورا حاسما في هاتين القضيتين: الادخار والطاقة، وقد كانا عبر التاريخ البشري قاطرة التقدم والتغيير، ويكفي أن نستعرض مراحل تقدم البشرية من خلال تتابع الحضارات حتي نتأكد من هذه المقولة. الإنسان الصانع ربما ظهر الإنسان، بشكله المعاصر »الإنسان العاقل« hamo sapiens sapins قبل نحو مائتي ألف عام، وقد ظل يعيش معظم هذه الفترة علي ما تجود به الطبيعة عليه، فهو يعيش علي الصيد والقنص واللقط بالبحث عما يتوافر من أعشاب أو ثمار أو ما يقنصه من حيوانات أو قواقع، وكانت رحلته قد بدأت قبل ذلك عندما اكتشف إمكان تصنيع بعض الأدوات البدائية، والتي تساعده علي التعامل مع البيئة. فهو يشحذ الحجر ويصقله حتي يكاد يصبح أداة للإجهاز علي فريسته أو لكي يستخدمها في الحفر في الأرض بحثا عن الجذور والثمار التي قد تختفي في باطن الأرض، ومن هنا عرّف هذا الإنسان بأنه »الإنسان الصانع« hamo habilis ومع اكتشاف قدرته علي صناعة الأدوات لزيادة كفاءته، فإنه يكون بذلك قد عرف مفهوم »الادخار« و »الاستثمار«.. كيف؟. اكتشف الإنسان ربما دون وعي كامل أن ما يبذله من جهد ومشقه في سبيل إعداد هذه الأدوات، ورغم ما يستغرقه ذلك من جهد ووقت، فإنه ليس »مضيعة« أو تبديدا لوقته، بل إنها تزيد من قدرته في المستقبل علي الحصول علي منافع أكبر في الصيد والقنص واللقط أو حتي في الدفاع عن حياته، فما يبذل من جهد ووقت لتشكيل هذه الادوات، فإنه يزيد من قدرته في المستقبل علي الحصول علي ما يقتات به بكفاءة أكبر، وربما بكميات أكثر، ومن هنا، فإن ما قد يفقده بالامتناع عن الاستهلاك الآن، قد يزيد من قدراته علي الاستهلاك غدا أو بعد غد. ومن هنا لابد أن نفهم أن المقصود »بالادخار« هنا ليس فقط منع الاستهلاك، وإنما المقصود هو توجيه الجهد والموارد لتصنيع »أدوات« تزيد من القدرة علي الإنتاج في المستقبل، فالادخار هو مقدمة للاستثمار. أما إذا كان الامتناع عن الاستهلاك لا يرتبط بجهد لزيادة القدرات المستقبلة، فإنه لا يعتبر »ادخارا« بل يطلق عليه »الاكتناز«، فالإدخار وثيق الصلة بالاستثمار، وهو السبيل إليه. وقد نجح الإنسان خلال مسيرته من تجاوز إمكاناته الجسمانية في تشكيل وصناعة الأدوات، عندما استغل بعض الطاقات الموجودة في الطبيعة، وكان أولها الحيوان، حيث استطاع الانسان أن يسخر طاقة الحيوان لصالحه، ومن هنا ظهرت الثورة الزراعية، ثم نجح بعد ذلك في تطويع طاقات الفحم في ثورة البخار، ثم اكتشاف الكهرباء ومصادر الطاقة الأخري التي فتحت الطريق إلي الثورة الصناعية. ولا بأس من كلمة قصيرة عن كل منهما. الثورة الزراعية بدأت الحضارات الأولي مع اكتشاف الزراعة، ربما قبل نحو عشرة آلاف سنة، غالبا في شمال العراق، أو جنوب بحر قزوين مما أدي إلي ظهور حضارة وادي النهرين (دجلة والفرات)، وفي الوقت نفسه تقريبا، أو بعد ذلك بقليل، بدأت الحضارة المصرية الفرعونية في وادي النيل. وبعد ذلك تكررت التجربة في وديان الأنهار في الصينوالهند. ومع الزراعة، لم يعد الانسان عالة علي الطبيعة يعيش علي ما تجود به عليه، بقدر ما أصبح شريكا لها، حيث يقوم بأعمال الزراعة مع ما يتطلبه ذلك من حرث وبذر وحصاد ونقل وتخزين، ونظرا لأن معظم الحضارات الزراعية قد بدأت حول أحواض الأنهار فقد تطلب ذلك العديد من الأعمال لضبط عمليات الري وربما التعامل مع الفيضانات. ومع نشأة القري والمدن كان لابد من تمهيد الطرق وحماية الأمن، وبالتالي ضرورة ظهور الدولة. ولكن هل الزراعة هي مجرد مشاركة بين الطبيعة وعمل الإنسان وأدواته البدائية؟ الحقيقة أن الزراعة قامت واستقرت نظرا لقدرة الإنسان علي تسخير العديد من الحيوانات لصالحه ولصالح الأعمال الزراعية، فدون تسخير لطاقة الحيوان للأعمال الشاقة في الحمل والنقل وأعمال الحرث والحراسة.. إلخ لما أمكن للزراعة أن تقوم أو تستمر. وقد كان الشرق الأوسط هو أول من عرف استئناس الحيوان من كلاب للحراسة، وحمير بغال وخيل وإبل للسفر وحمل الأثقال، فضلا عن البقر والجاموس للإفادة من ألبانها ولحومها والمشاركة في أعمال الزراعة، وإلي جانب تسخير طاقة الحيوان لمساعدة الإنسان في الأعمال الزراعية والنقل والترحال، فقد نجح الانسان في استخدام الممرات المائية للري والشرب وصيد الأسماك وكثيرا للسفر أيضا، ولم يكن غريبا أن نبدأ الزراعة حول أحواض الأنهار الكبري. وإذا كانت أمريكا الشمالية قد تأخرت في اكتشاف الزراعة، فربما يرجع ذلك إلي أنها لم تعرف في ذلك الوقت حيوانات قابلة للاستئناس، وهكذا قامت الثورة الزراعية علي التكامل بين قدرة الإنسان علي تصنيع الأدوات وشق الطرق وإقامة المصارف والترع.. إلخ أي بقدرته علي الادخار والاستثمار من ناحية، وعلي تسخير قوي الحيوان وطاقاته والممرات المائية والرياح لصالحه من ناحية أخري وجاءت القفزة الكبري مع »الثورة الصناعية«، وحيث تعاظم دور الادخار والاستثمار من ناحية وتعددت مصادر الطاقة مع اكتشاف ثورة البخار ثم استغلال الفحم ومن بعده البترول والغاز، فضلا عن مصادر الطاقة الأخري مثل الطاقة النووية والرياح وأخيرا الطاقة الشمسية، وفي هذا تغير أيضا شكل الادخار والاستثمار. الثورة الصناعية منذ نحو قرنين ونصف ارتفعت البشرية إلي مرحلة جديدة للحضارة مع الثورة الصناعية، فما هي أهم دعائم هذه الثورة الاقتصادية الجديدة؟ هنا تكرر المشهد السابق للثورة الزراعية مع تعديلات جوهرية في عنصري الادخار/ الاستثمار من ناحية والطاقة من ناحية أخري، ورغم استمرار الدور الحيوي لكل منهما، فإن شكل هذين العنصرين تغير بشكل كبير. أما فيما يتعلق بالادخار والاستثمار، فإننا نلاحظ أن كلا منهما قد أخذ منحي جديدا في التطور، فالادخار لم يعد عملا فرديا بحتا بقدر ما أصبح ظاهرة مجتمعية، حيث يتم تجميع مدخرات الأفراد في مؤسسات مالية عملاقة (بنوك، صناديق تأمين وادخار، وسماسرة..)، كذلك فإن الاستثمار لم يعد تطويرا للأدوات المستخدمة مثل الفأس أو الممرات، لتصبح تطبيقا لقوانين الطبيعة والإفادة من الطاقات المتاحة. فقد ولدت هذه الثورة مع ما عرف بثورة البخار واستخدام الفحم ومن بعده البترول والغاز فضلا عن القوي النووية وقوي الرياح، فأشكال الطاقة الجديدة المستخدمة هي نتيجة للاكتشافات العلمية في الفيزياء والكيمياء والعلوم البيولوجية، فضلا عن علوم السلوك الاجتماعي مثل الاقتصاد وإدارة الأعمال والتخطيط، وفي العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت ثورة المعلومات والاتصالات وفتحت أبوابا جديدة للاستثمار والإنتاج. وعندما ننظر إلي مسار الثورة الصناعية فنجد أنها تحددت بشكل كبير وفقا لاحتياجات العصر من استخدامات الطاقة، ولم يكن غريبا أن تبدأ هذه الثورة في انجلترا، وهي في نهاية الأمر صخرة من الفحم، فضلا عت تقدمها العلمي والتجاري. ومن انجلترا انتقلت إلي أوروبا في فرنسا وخاصة في ألمانيا، التي تتمتع بدورها بأحجام هائلة من الفحم وتبعتها بقية دول غرب أوروبا، وبطبيعة الأحوال جاءت الولاياتالمتحدة ومعها كندا، بما تتمتعان بها من موارد هائلة للطاقة في الفحم والمساقط المائية، فضلا عن ثرواتها من المناجم والغابات. وفي بداية القرن العشرين ظهرت اليابان استثناء لأنها لا تتمتع بأية مزايا من حيث الطاقة، وإن عرفت نظاما صارما من الانضباط. وفي هذا القرن ظهر أيضا الاتحاد السوفيتي وهو يتمتع بموارد هائلة من الطاقة، مع نظام شيوعي لا يخلو من قسوة، فنجحت في تحقيق انجازات لا بأس بها وإن فرضت عليها البيروقراطية قيودا كبيرة علي معدلات النمو. ولعل أظهر ما تميز به النصف الأخير من القرن العشرين هو ارتقاء مجموعة من الدول الفقيرة، والتي حققت معدلات عالية من النمو خاصة في الثلث الأخير من ذلك القرن، اعتمادا علي معدلات مرتفعة من الادخار (وبالتالي الاستثمار) جاوزت ال 30% سنويا ولفترة مستمرة لأكثر من ثلاثة عقود. وقد حدث هذا فيما عرف بالنمور الآسيوية (كوريا الجنوبية، سنغافورة، تايوان) ثم لحق عدد آخر مثل ماليزيا وأندونيسيا. ويظل الانجاز الأكبر هو للصين، والتي انطلقت، منذ بداية الثمانينيات بمعدلات عالية من الادخار، جاوزت 30% 35% سنويا، وقد حافظت الصين علي المعدلات لأكثر من ثلاثة عقود لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وإن ظل متوسط الدخل الفردي متواضعا. وهكذا يتضح أن النجاح الاقتصادي منذ بداية الثورة الصناعية وحتي الآن، اعتمد بشكل كبير علي أساسين وهما الاعتماد المتزايد علي مصادر الطاقة نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجيا، فضلا عن توافر أحجام هامة من المدخرات من أجل الاستثمار.. وهكذا تكاتفت الطاقة مع الادخار (الاستثمار) علي تحقيق نجاح اقتصادي غير مسبوق. مصر والغاز تشير الأنباء المنشورة إلي احتمالات كبيرة لتوافر الغاز في مصر خلال السنوات القادمة، وذلك بأحجام هامة. ومن هنا ضرورة التعامل مع هذا الواقع الجديد المحتمل والمتوقع بقدر كبير من الحكمة، ولا يجوز الاستمرار بنفس النمط القديم في استخدام عائدات البترول. ونبدأ بالقول بأن مشكلة مصر الاقتصادية الكبري يمكن أن تلخص في أمرين أساسيين، الأول هو الانخفاض الكبير في معدلات الادخار، وبالتالي الاستثمار. والأمر الآخر هو أن مصر فقيرة في مصادر الطاقة المتاحة، حقا، هناك امكانيات واحتمالات كبيرة لطاقة الرياح والطاقة الشمسية، ولكنها أمور تحتاج إلي سنوات واستثمارات هائلة. ويظل الوضع القائم هو أن مصر حاليا فقيرة في مصادر الطاقة، فهي لا تعرف مساقط مائية مثل الهند أو كندا ومصادرها من البترول (حتي الآن) غير كافية، ولا يوجد بها فحم، ومازالت الطاقة النووية محل جدل. أما نقص معدلات الادخار، فيرجع إلي انخفاض متوسط الدخل الفردي، الأمر الذي يؤدي إلي ارتفاع مستوي الاستهلاك العام. فيقدر حجم الاستهلاك العام في مصر بما لا يقل عن 85% من الناتج الاجمالي. ومعني ذلك أن الاقتصاد المحلي غير قادر علي توفير مصادر داخلية للادخار والاستثمار بأكثر من 15% من الناتج الاجمالي، وهي نسبة غير كافية لتحقيق قفزة في الدخل القومي. وقد رأينا أن الدول التي حققت انجازا ملموسا في تاريخنا المعاصر، كانت تدخر بمعدلات تتراوح بين 30 35% سنويا، ولفترة لا تقل عن ثلاثة عقود. ومن هنا، فإن توافر الغاز بكميات كبيرة كما هو متوقع يمكن أن يمثل انقاذا لمصر، بتصحيح الخلل في انخفاض معدلات الادخار والاستثمار من ناحية، وتوفير مصادر للطاقة والتي كانت أحد أهم أسس الثورة الصناعية من ناحية أخري. ولكن ينبغي لذلك، أن نتعامل مع الغاز وعوائده بكل حكمة ومسئولية. وقد ذكرت في مقالي السابق، أن الغاز هو «ثروة» للشعب المصري بأجياله الحالية والمستقبلة، وبالتالي لا ينبغي أن يعامل «كدخل»، يضاف إلي الموازنة العامة وينفق منه علي أشكال الاستهلاك. كلا، الغاز «ثروة»، والعائد منه ينبغي أن يخصص للانفاق علي الاستثمار وزيادة الطاقة الانتاجية للبلد. وقد أشرت في مقالي السابق إلي أن النرويج، وهي دولة نفطية، اعتمدت منذ البداية النظر إلي عوائده باعتبارها جزءا من «ثروة» البلاد، تستخدم فقط للاضافة إلي الطاقة الانتاجية للدولة من خلال «صندوق سيادي للاستثمار»، ويمكن، في مصر، إذا أخذ بهذا الاسلوب، أن يضاف إلي ايرادات هذا الصندوق، حصيلة كل الايرادات غير المتجددة والناتجة من التصرف في ثروة البلد، مثل حصيلة بيع أراضي الدولة، أو عائدات استغلال المناجم والمحاجر، وبهذا يعتبر هذا الصندوق السيادي، هو الوسيلة للارتفاع بمعدلات الادخار والاستثمار في مصر، وبما يتناسب مع ما حققته النمور الآسيوية وأخيرا الصين، وذلك بالارتفاع بهذه المعدلات إلي 30% من الناتج الاجمالي، وبهذا يمكن أن يصبح اكتشاف حقول الغاز في مصر هو العلاج لأمراضنا المزمنة في انخفاض معدلات الادخار والاستثمار من ناحية، والنقص في مصادر الطاقة من ناحية أخري. والله أعلم لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي