نشرت فى هذه الجريدة منذ عدة أسابيع مقالاً عن "الانفجار السكانى"، باعتباره أحد أخطر الأمور التى تواجه البشرية فضلاً عن تأثيرها المباشر على مستقبل مصر، نظراً لأنها من أكثر الدول كثافة سكانية بالمقارنة بمواردها المتاحة. وأود اليوم أن أتعرض لمشكلة لا تقل خطورة على مستقبل البشرية، وإن كانت هذه المرة قد تكون إنقاذاً لمستقبل مصر. وهى مشكلة الطاقة. تاريخ الثورة الزراعية :استخدام الإنسان للطاقة بأشكالها المختلفة هو تاريخ ومنظور الحضارة البشرية. وكما ذكرت فى مقالى السابق، فإن تاريخ الإنسان فى شكله المعاصر ربما يرجع إلى مائة وخمسين ألف سنة، ظل يعيش فى معظمها حياة بدائية لا تكاد تختلف عن بقية الحيوانات، حيث كان يعيش على ما تجود به الطبيعة فى اللقط والقنص. ولم تبدأ الحضارة البشرية غلا منذ حوالى عشرة آلاف سنة مع اكتشاف الزراعة، ومعها بدأ الاستقرار وظهور المدن والدول. ولم يعد الإنسان عبداً للطبيعة وخاضعاً لها، بقدر ما أصبح شريكاً لها. فمع اكتشاف الزراعة التى تتطلب استقراراً وجهداً بشرياً فى تهيئة الأرض وموالاة الزراعة بالعناية المستمرة، وقد استعان الإنسان فى ذلك بقدرته على تسخير الحيوان واستئناسه واستخدامه فى عمليات الحرث والنقل والحراسة، وذلك فى نفس الوقت الذى أفاد فيه من الأنهار والبحار للسفر والترحال. ولم يكن غريباً والحال كذلك أن تبدأ الحضارات فى مصر وبلاد الرافدين أو قرب الأنهار فى الصين والهند. وربما كان تأخر وصول الزراعة إلى القارة الأمريكية راجعاً لعدم وجود حيوانات مستأنسة للنقل والحمل، ربما باستثناء حيوان اللاما فى أمريكا اللاتينية، وهكذا غلب عليها مهنة الرعى ولم تعرف الزراعة إلا فى وقت متأخر نسبياً. وبذلك بدأت الحضارة البشرية الأولى مع الزراعة عندما استطاع الإنسان تسخير قوى الحيوان لصالحه مع الإفادة من قوى الطبيعة فى الأنهار والرياح حيث مكنته من السفر والترحال والانتشار على مستوى المعمورة. الثورة الصناعية ومخاطر البيئة: إذا كانت الثورة الزراعية قد أفرزت أول مظاهر الحضارة البشرية حيث تحرر الإنسان نسبياً من الخضوع التام للطبيعة، ليصبح مشاركاً لها، فقد جاءت الثورة الصناعية منذ حوالى منتصف القرن الثامن عشر لكى يصبح الإنسان سيداً ومتحرراً – إلى حد بعيد – من ظروف الطبيعة. وقد جاءت هذه الثورة عندما بدأ الإنسان فى اكتشاف ثم استخدام قوى الطبيعة لمصالحه مع اكتشاف قوة البخار والطاقة الكهربائية وأخيراً الطاقة النووية. ومن هنا بدأ استخدام مناجم الفحم ثم آبار البترول والغاز. وهكذا انتثل الإنسان – مع الثورة الصناعية – من الاعتماد على طاقة الحيوان والرياح إلى مزيد من الاعتماد على المصادر الأحفورية Possil Fuel لتوليد الطاقة المطلوبة فى أغراض الصناعة والنقل والأعمال المنزلية. وهكذا كاد الإنسان أن يصبح سيداً للطبيعة، يسخرها لمصلحته، بعد أن كان خاضعاً لها تماماً فى مرحلة ما قبل الزراعة. وها هو يبدو وكأنه أصبح صاحب الكلمة الأخيرة مع استخدام المصادر الجديدة للطاقة من فحم وبترول وغاز، وبزوغ الثورة الصناعية ثم ثورة المعلومات والاتصالات. ولكن الطبيعة لم تهزم تماماً فى هذه المعركة، وبدأت تكشر عن أنيابها. فبعد قرنين من بداية الثورة الصناعية، بدأت تظهر على السطح فى الربع الأخير فى القرن العشرين دعوات لتذكر الإنسان بنسبية نجاحاته، بالتأكيد على "حدود التقدم". فإذا كان تاريخ الإنسان الطويل هو تاريخ إخضاعه للطبيعة لصالحه، فإن ذلك لن يتحقق مجاناً وبلا ثمن، فهناك دائماً تكلفة قد تتحملها الأجيال القادمة. فإذا قدمت الطبيعة مواردها الكامنة من فحم وبترول وغاز وغيرها من مصادر الطاقة الأحفورية ليسخرها الإنسان لتحقيق رفاهيته، فإن ثمنها هو الإخلال بالبيئة التى نعيش فيها، ومما قد يجعلها – فى وقت مستقبل – غير صالحة للحياة. وقد بدأ الحديث عن هذه القضية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضى، حيث عقد فى ذلك الوقت أول اجتماع للأمم المتحدة عن البيئة فى استوكهولم عام 1972 للتنبيه إلى مخاطر البيئة الناجمة عن التوسع فى استخدام أشكال الوقود الأحفورية من فحم وبترول وغاز. وكان قد صدر فى نفس الوقت تقريباً كتاب "نادى روما" عن "حدود النمو" منبهاً إلى خطر الانفجار السكانى غير الواعى من ناحية، وتدهور البيئة نتيجة التقدم الصناعى غير المنضبط والآثار السلبية على البيئة والناجمة عن استخدام مختلف مصادر الطاقة الأحفورية. وتتمحور هذه المخاطر البيئية حول التغيرات المناخية المترتبة على تزايد نسبة ثانى أكسيد الكربون فى الجو (الاحتباس الحرارى)، فضلا عما يترتب عليها من استمرار فى ارتفاع درجات الحرارة وتداعياتها على ارتفاع مستوى البحار والمحيطات وقد يترتب عليها من استمرار فى ارتفاع درجات الحرارة وتداعياتها على ارتفاع مستوى البحار والمحيطات وما قد يترتب عليها من نتائج سلبية خطيرة على الزراعة والحياة بشكل عام. وكان أحد العلماء من السويد (أرهنيوس Arrhenius) والحاصل على جائزة نوبل فى الكيمياء، قد استطاع أن يقيس نسبة ثانى أكسيد الكربون فى الجو حيث تنبأ بأن هذه النسبة قد تتضاعف – نتيجة للنشاط الصناعى – بعد حوالى سبعة قرون ونصف القرن، وكان ذلك فى نهاية القرن التاسع عشر (1896). وقد أثبتت القياسات المعاصرة أن العالم على وشك الوصول إلى هذه النسبة خلال ثلاثة أو أربعة عقود (حوالى عام 2050)، مما يؤكد أن هناك تسارعاً فى معدلات التغيير المناخى لم تكن معروفة عند بداية القرن العشرين. ومع ارتفاع معدلات ثانى أكسيد الكربون سوف ترتفع الحرارة مما يزيد من صعوبات الحياة واحتمالات لارتفاع مياه المحيطات وغرق الكثير من المدن الساحلية ونقص معدلات الأمطار واتساع مناطق الجفاف... والقائمة طويلة. ومن هنا، فنحن عالم يعيش فى خط، والبيئة مهددة، ويرجع التهديد الأكبر نتيجة التوسع فى استخدام المصادر الأحفورية للطاقة: الفحم والنفط والغاز. المستقبل والطاقة النظيفة: فهل هذه هى نهاية المطاف؟ وهل العالم مهدد حقاً بالاختيار بين تهديد البيئة وتعريض الحياة للمخاطر مع الاستخدام المتزايد لمصادر الطاقة الأحفورية من ناحية، أو التخلى عن مظاهر المدينة الحديثة والعودة إلى الحياة البدائية من ناحية أخرى؟ الحقيقة أننا لسنا أمام هذا المأزق، فهناك مخرج، وهو البحث عن مصادر الطاقة النظيفة والتى يمكن أن توفر إمكانات التقدم مع حماية البيئة والمحافظة عليها. وفى مقدمة مصادر الطاقة النظيفة تأتى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. علماً بأن الشمس هى المصدر النهائى لجميع مصادر الطاقة الأخرى. فلماذا لا نعدد إلى هذه الطاقة النظيفة؟ الإجابة السريعة هى أن التكنولوجيا المعاصرة ما تزال مقصورة على توفير احتياجات العالم من الطاقة النظيفة بأسعار منافسة للطاقة المستمدة من الفحم والنفط والغاز. وها يطرح التساؤل، لماذا لم تتقدم تكنولوجيا الطاقة النظيفة لتصبح أكثر قدرة على منافسة مصادر الطاقة التقليدية؟ فهل المسألة تكنولوجية بحتة ترجع اعتبارات فنية فقط، أم أن وراءها مصالح تريد الاحتفاظ بمكاسبها؟ لست من أنصار نظريات المؤامرة. ولكن علينا أن نتذكر أن معظم الدول المتقدمة صناعياً حالياً – فى أمريكا الشمالية، وأوروبا وحتى الصين – تتمتع بإمكانيات هائلة من مصادر الطاقة الأحفورية (فحم، نفط، غاز). وهذه الدول تتمتع بالضرورة بأكبر مراكز للبحث والدراسة. كذلك لا ننسى أن كبرى الشركات فى العالم، وهى تتمتع بإمكانات مالية وقدرات عالية للبحث والتطوير التكنولوجى، وهى كلها تركز جهودها فى مجالات عملها. وهذه الشركات هى عادة شركات النفط. فأكبر شركات على مستوى العالم هى شركة شل الهولندية، وإكسن موبيل، وسينوبك، والوطنية الصينية للبترول، والبريطانية للبترول، وشركة توتال الفرنسية وذلك فضلاً عن شركتين أخريين لا يعملان فى مجال البترول ولكنهما وثيقا الصلة به، وهما شركتا تويوتا اليابانية وفولكس فاجن للسيارات، وهما وإن كان لا يعملان فى إنتاج النفط فإن منتجهما وثيق الصلة بتوافر النفط فى الأسواق بأسعار مقبولة. ولعله لهذا السبب لم تتمكن الولاياتالمتحدة من التصديق على بروتوكول كيتو لعام 1997 لحماية البيئة. وتحتج الولاياتالمتحدة بأنها لن تضع قيوداً على استخدام الطاقة ما لم تطبق نفس القيود على الصين. وتى الصين أن الغرب قد حقق تقدمه الاقتصادى منذ الثورة الصناعية باستخدام الفحم حتى بداية القرن العشرين.. حيث أضاف إليها النفط منذ ذلك الوقت. فالثورة الصناعية وقد حقق تقدماً اقتصادياً مذهلا أفاد منه العالم المتقدم بوجه خاص، فى حين أن أعباءه على البيئة قد وقعت على العالم فى مجموعه، وتعانى منه بدرجة أكبر دول العالم الثالث. وأيا ما كان الأمر، فإن العالم سوف يضطر – آجلاً أو عاجلاً – إلى الالتجاء إلى مصادر الطاقة النظيفة والتخلى عن المصادر الملوثة للبيئة ووضع الضوابط عليها. وفى مقدمة هذه المصادر النظيفة تأتى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ومن أهم مراكز توافر هذه المصادر الجديدة هى الصحارى الكبرى، حيث تتمتع مصر بمزايا نسبية عالية تمكنها من توفير الطاقة الجديدة بأسعار منافسة عندما تتوافر القدرات التكنولوجية المناسبة، نظراً لما تتعرض له الأراضى المصرية من أشعة شمسية طوال العالم وندرة السحب فضلاً عن إمكانيات ليست قليلة فى مجال توليد الطاقة من الرياح أيضاً. وإزاء هذا كله، ما العمل؟ الإعداد للمستقبل: لن يستغنى العالم عن مصادر الطاقة الأحفورية غداً أو بعد غد. ولكن لاشك فى أن هذه المصادر التقليدية مآلها إلى التراجع مع تزايد الوعى بخطورة الآثار البيئية والتطورات الناضبة على حياة الإنسان والحياة بصفة عامة. ولذلك، فإن المستقبل سوف يكون – قطعاً – للمصادر الجديدة. وعلى مصر – أكثر من غيرها – أن تبدأ فى الإعداد لهذا التطور القادم، ليس فقط بالاهتمام بالبحث والتطوير لمصادر الطاقة الجديدة، وإنما بعقد اتفاقات إستراتيجية مع دول تملك إمكانات بحثية ومالية كبيرة وتولى أهمية خاصة لهذه المصادر النظيفة للطاقة. ويبدو أن ألمانيا قد اتخذت قراراً بعدم التوسع فى استخدام الطاقة النووية، وهى تميل بدرجة أكبر للاعتماد على الطاقات المتجددة للشمس والرياح، وقد عقدت – فى هذا السبيل – اتفاقات مع بعض دول شمال إفريقيا. وقد يكون من المناسب أن تبدأ مصر فى تعاون استراتيجى معها أو غيرها من الدول الأوروبية على البحر المتوسط للعمل فى هذا المجال واستخدام المجال المصرى فى الصحارى وغيرها لهذه الأغراض. وهكذا نخلص إلى أنه إذا كانت المشكلة السكانية أحد أخطر التحديات التى يواجهها الوطن، فإن الإعداد للمستقبل فى مجال الطاقة النظيفة هو أحد المجالات التى يمكن أن تتمتع بها مصر بمزية نسبية هائلة قد تؤهلها للمشاركة بشكل أكثر فاعلية فى عالم جديد أكثر مسئولية تجاه مخاطر البيئة. الانفجار السكانى والطاقة النظيفة. هما مشكلة وأمل مصر المستقبل. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي