إذا تأملنا كرتنا الأرضية بمزاجها النفسي الجاري الآن ، سنكتشف بقليل من التفكير أن «العولمة» نظرت في مرآة الواقع ، فوجدت صورتها تتجسد في شكل تنظيم أنتجته أجهزة مخابراتها وهو تنظيم داعش . نعم فالحكاية في بعض فصولها تطلب إفقار عالمنا العربي وتجريده من بناء مستقبله عن طريق تزييف الدين ، وبواسطة إمداد قوى التخلف بأسلحة منوعة ، فضلا عن خلخلة مساحات من الوطن العربي ليتحكم فيها أمثال أبو بكر البغدادي ويطيح برءوس من يرغبون في حياة مقبولة ، ويعدم العشرات ويسبي النساء ، وينزع من الذاكرة البشرية ملامح الحضارات القديمة ، فيدمر الآثار كما يدمر الوجود للحياة في الأراضي التي يحتلها . وبطبيعة الحال تفرز المجتمعات التي تصاب بوباء داعش القدرة على المقاومة الذاتية ، فنجد الحكومات وهي تستورد أسلحة ممن اخترعوا فكرة داعش بأكملها ، فالأسلحة التي في أيدي داعش هي إنتاج مصانع الولايات المتحددة ومعظم دول الغرب ، وتقف طبعا حكومات الغرب مستنكرة ما يحدث على أرض الشرق الأوسط ، وترقب بعيون دقيقة مدى ابتعاد داعش عن القلعة الأولى لاحتلال الشرق الأوسط وهي إسرائيل ، تلك المحمية بقبة صواريخ ، وبقيادات أصدرت أوامرها بإطلاق الرصاص الحي على الأطفال الذين يلقون بحجارة الرفض على اقتحام المسجد الأقصى . ولا أحد في حكومات الولاياتالمتحدة أو الاتحاد الأوروبي بقادر على أن يقول لإسرائيل «قف .. هناك خط أحمر هو قتل الأطفال» . فالمسجد الأقصى هو بناء إسلامي ، والمسلمون _ حسب دعايات الغرب _ هم الذين يذيقون الكون مرارة الإرهاب . وطبعا لا توجد مظاهرات في عواصم الكون تطالب الحكومات بالكف عن دهس جحافل التتار المعاصر ، داعش . ولا تكف أبواق التأسلم عن التنديد بصمت الشوارع العربية عما يحدث . والكل يتجاهل أن مكاسب شركات السلاح ومكاسب حكومات الغرب مجتمعة من وجود داعش تفوق الخيال . عن نفسي أنا كاتب هذه السطور لا أنسى صورة جورج بوش الأب في أثناء عمله كمدير للمخابرات الأمريكية المركزية في أوائل الثمانينيات ، وقد تم تصويره على غلاف إحدى المجلات العربية و كان يحمل مدفعا رشاشا على أحد جبال أفغانستان ، قد أعطى تصريحا لتلك المجلة «أنا هنا لأدافع عن رايات الاسلام ضد الشيوعية» . ولا تمر سوى عشرين عاما حتى يأمر ابنه جورج دبليو بوش بإطلاق صواريخ عابرة للقارات على أفغانستان . وتكشف عن الأيام أن إختراع الحرب ضد الاتحاد السوفيتي باسم الإسلام ، كان يخفي في داخله صراعا على مناطق الثروات الطبيعية التي يمكن أن تستفيد منها شركات التنقيب والإنتاج لتلك الثروات. ولا يلتفت أحد إلى أن الصراع في منطقة الشرق الأوسط قد استغل حماقات طفل شوارع لم يجد تعليما راقيا يؤهله لحكم العراق ، وهو صدام حسين ، فقرر الاستسلام مرة لغواية أن يكون بديلا لشاه إيران فخاض حربا ضد إيران ، وعندما قاربت خزينته على الإفلاس أوقف الحرب وشاء أن يفرض إتاوات على دول الخليج ، فرأينا حماقة احتلاله للكويت التي كانت ضربة صاعقة لكل ما سبق واعلن صدام حسين الإيمان به وهو فكرة القومية العربية, ، وجاءت قوات متعددة الجنسيات لتقف في منطقه حفر الباطن ، وتقوم بتحرير الكويت . عن نفسي لن أنسى أن المقاتلين الذين طاردوا قوات صدام حسين من أول حدود الكويت وحتى الحدود العراقية هم أبناء الجيش المصري ، تحت قيادة المشير محمد حسين طنطاوي ، ولن أنسى ما قاله لي يوسف صبري أبو طالب قائد القوات المسلحة في تلك الفترة من أن تعليماته للمقاتلين المصريين ألا يطلقوا رصاصة واحدة على جندي عراقي لا يبدأ هو بإطلاق النار, وأن يقدم المقاتلون المصريون الطعام والشراب والأمان لأي مقاتل عراقي يستسلم . وأن شهداء مصر في تلك الحرب لم يتجاوز بضعة أفراد وجدت أسرهم كامل التكريم . ولن أنسى أن شوارزكوف الذي تم تنصيبه كجنرال يقود حرب تحرير الكويت لم يستجب لطلب الحماية الجوية للقوات المصرية التي تقدمت لتحرير الكويت . وبسرعة ودقة أداء القوات المسلحة المصرية تم تحرير أرض الكويت من أولها إلى آخرها . ولابد أن شعورا بالامتنان قد ملأ صدورنا نحن المصريين حين قدمت الكويت دعمها المادي لنا بعد أن حررنا أنفسنا من براثن التخلف بدعوى التأسلم السياسي ، مثلما فعلت الشقيقات العربيات دولة الإمارات ودولة السعودية. ولأن كل جنون يخفي نفسه بسياج من أفكار براقة ، شاءت تركيا أن تبيع لنفسها وهم سيادتها على المنطقة العربية بدعوى إحياء فكرة الخلافة العثمانية ، ولأن تركيا التي وقفت طويلا منذ عام 1923 على أبواب أوروبا تطلب اعتبارها دولة أوروبية ، فإن أوروبا لم تنس مذابح العثمانيين في بلدانهم ، تكفي قراءة رواية «جسر نهر درينا» لنرى بعيون آلام الخوازيق التي إستخدمها العثمانيون لتأديب الشعوب التي احتلتها، وقراءة روايات الأديب اليوناني كازنتزاكس تكشف لنا بعضا مما فعله الولاة العثمانيون في عامة الناس بأهالي جزيرة كريت ، ويمكن متابعة مسلسل حريم السلطان لنرى الخليفة العثماني وهو يخوض في بحور من الدماء بدعوى التأسلم ويقضي الليل في تصفية معارك الحريم ، بينما البؤس المغموس بالإذلال هو نصيب كل المحكومين بشريعة الخلافة . ولكل ذلك وقف الضمير المصري العام ضد بيع عقل مصر وإيمانها للإمبراطور العثماني الجديد المدعو أوردغان ، فأسقط من حكم مصر مجموعة مندوبيه ، أصحاب الولاء المزدوج لتركيا كطرف أول ، والمخابرات الأمريكية المركزية كطرف ثان واسم هؤلاء المندوبين «مكتب إرشاد جماعة الإخوان» . وهكذا كان سر الثلاثين من يونيو العظيم ، السر الذي قلب موازين التجارة بالدين للتغطية على مخططات تهدف لوضع مصر كقرية محكومة برعاع متخلفين يرددون كلمات الإيمان ، بينما يمارسون تجارة الدعارة بالأوطان ، ألم نسمع ونقرأ من يقول «طظ في مصر»؟ وكان قوام الحماية لمقدرات مصر هو قواتها المسلحة, التي حاولت ذئاب تفتيت الأوطان النيل منها منذ الثامن والعشرين من يناير مرورا بتخدير من غلفوا أنفسهم بأردية البحث عن الديمقراطية ، وعصروا على أنفسهم الليمون استجابة لدعوة مكتب الإرشاد العميل ، ليجلس محمد مرسي كألعوبة في يد خيرت الشاطر مرة ، ويد السفيرة الأمريكية تارة أخرى وليخاطب بيرز رئيس إسرائيل ب «صديقي العزيز» ويسمح لمندوبه من عملاء حماس بالتسلل لقتل مقاتلين لحظة إفطار رمضاني، ليتلوها بخطف وقتل ثلاثة من رجال الشرطة وإدعاء عدم معرفة ما جرى لهم ، بل بوقاحة تقديم نصيحة لأرملة أحدهم بأن تبحث عن زوج غير الذي تم خطفه ، ثم مساندة حثالة الوعي بالدين التي أتخذت لنفسها اسم «بيت المقدس» بإلإضافة إلى حفر مزيد من أنفاق التهريب ، وعلى مدى عام من حكم المتأسلمين عانت مصر من محاولة تغييب الوعي ، ولم يحمها سوى شبابها . وما أن تحركت الجماهير لرفض جرثومة بيع الوطن ، كان الجيش هو المتحرك ليضع نهاية لتلك المأساة . وبطبيعة الحال لم تسلم القوات المسلحة من محاولة فاقدي القدرة على التمييز ، فراحوا يثرثرون بما هو ضد الجيش . وتناسوا أن تاريخ هذا الوطن بأكمله منذ الملك نارمر ، وهو مدين لبقائه موحدا بقيمة وقدرات قواته المسلحة . وتناسوا أن كل هزائم مصر تبدأ من إضعاف قواتها المسلحة ، ويمكن لمن يرغب في التأكد من ذلك هو قراءة ما حدث في نوارين البحرية إبان عصر محمد علي ، ثم الإصرار على تحجيم الجيش في ماجرى بعد هزيمة عرابي ، ثم بعجز كل الحكومات من بعد ذلك على الحصول على سلاح متقدم لهذا الجيش ، ثم وقائع معارك العدوان الثلاثي بعد تأميم القناة ، ثم التدبير باستغلال نقاط الضعف في جسد ثورة 23 يوليو لنمر بتجربة نكسة 1967 ، ثم انتباه الكون كله إلى طاقة اليقظة التي أذهلت الكون وهي حرب أكتوبر 1973 ، ثم محاولة الهدم الناعم لقوة مصر عبر الانفتاح الاقتصادي إبان حكم السادات ومبارك . وإلى أن تأتي الإفاقة بمساندة الجيش لعموم المصريين في ثورة الخامس والعشرين من يناير ، ثم تعزيز تلك المساندة في الثلاثين من يونيو. ومازال الجيش يخوض معركة حماية هذا الوطن بعملية حق الشهيد ومحاولة المشاركة في إعادة بناء قوة مصر الاقتصادية ، سواء بإتمام مشروع حفر قناة السويس وغيرها من المشروعات . باختصار ّ جيش مصر هو سور حماية الكرامة والوجود حفظ الله مصر بقدرات جيشها وسعة فهم شعبها . لمزيد من مقالات منير عامر